في عمق المشهد المشرق والمظلم شرق البحر—حيث تتبارى الإمبراطورية والجغرافيا، وتتنازع الهويات والقوميات—تقف القضية الكوردية شامخة، أعظم من كونها مسألة حدود أو مفاوضات؛ إنها سيمفونية إرادة، لا تُقهر، ترسم ملحمة شعب اخترع وجوده من قلب التشتّت. من أنقاض التهميش الاستعماري وتفكيك الدول الكبرى، نهض الكورد ليس كضحايا، بل كفعل مؤثر قادر على رسم معالمه، يحمل بين دفتيه قدرة سحرية على جمع الماضي بحاضره، وعلى تحويل الجروح إلى أمل، والطموح إلى مشروع جغرافيا سياسي وثقافي جديد.
السياسة عند الكورد ليست طقوساً ديبلوماسية جامدة، بل رقصة محسوبة فوق هاوية القوى. فهموا أن العشم في حليف واحد هو منطق السقوط، وقد جربوا مرارة الخيانة، كما في خذلان إيران للثورة الكوردية عام 1975، فاختاروا انفتاح التحالفات والتفاوض مع الكل، حتى مع الخصم. وتجربة “قسد” التي تحرّكت بتوازن مرن بين دمشق وموسكو وأنقرة، هي نموذج بارز للبراغماتية السياسية التي ترفض العواطف الفجة وتلتفت إلى الأهداف الواقعية.
في ساحات القانون الدولي، يفاجأ الكورد العسكري والعقائدي حين يجدون أن الدعم لا يُمنح إلا بإرادة القوى العظمى. السؤال لم يعد كيف نطلب الدعم، بل كيف نصبح شريكاً محوريّاً لا غنى عنه في تحقيق استقرار المنطقة، كيف نُحوّل من صورة المتسول الدولي إلى شريك استراتيجي.
وقد فهم الكورد أن المعركة تُصاغ اليوم على لوحة الإعلام الرقمي قبل ساحات القتال. الإعلام الكوردي، المثقل بالحكاية والمأساة، لا يزال عاجزاً عن نقل سردهم إلى مكتبات الضمير العالمي، رغم دوره الكبير. أمامه فرصة للتجدد: تحييد العاطفة الهوجاء، وبناء سرد عقلاني يوظف تجربة “قسد” في مكافحة داعش، ويرسم من “المقاتل الكوردي” حارساً للقيم الإنسانية، يتحدث عقول العالم بلسان الحقائق الصافية.
وجاليات الشتات ليست مجرد مهاجرين؛ بل هي سفراء غير رسميين. بين أروقة الجامعات الغربية وموائد القرار، تسعى هذه الجاليات إلى تحويل قضية التشتت إلى قضية حضور مؤثر، عن طريق فتح أقسام للدراسات الكوردية وتأسيس شبكات ضغط ثقافي وسياسي. لكن الشتات يواجه تحدي الانقسام؛ والتحدي الأكبر أن تتحول هذه الجاليات إلى قوة ضغط منظمة، لا أن تظل فسيفساء ممددة عبر الحدود.
أما التنمية فهي الحصن الداخلي. ففي إقليم كوردستان العراق يتبدى خطر الاعتماد النفطي، وفي شمال سوريا تنبعث تجربة الاقتصاد التعاوني. كل ذلك يدل على أن التحرر الحقيقي يبدأ من بناء اقتصاد متنوع يعتمد على المعرفة، وأن التعليم يجب أن يحمي الهوية الكوردية من التذويب، ويغرس قيم انفتاح عاقل يوازن بين الأصالة والانفتاح.
وإذا كانت العشيرة هي الخلية الأصغر، فإن الأمة الكوردية، بمعنى “الكوردايتي”، هي الساعة الكبرى التي تدق نحو الوحدة. لقد اجتزنا من ثقافة عنقودية تعيش على الولاءات العشائرية إلى إطار أوسع يوحد الهوية والمشروع. تجربة “الديمقراطية الكونفيدرالية” القائم على مبادئ الجذرية والديمقراطية واللامركزية صاغت نموذجاً عمليّاً يعبّر عن مجتمع سياسي يمنح حقوق المرأة والبيئة والثقافة جانبا متوازنا . لكن الأعداء، داخليين وخارجيين، يعتقدون أن منع التقارب الكوردي هو استراتيجيتهم الدائمة، لذا فالتحالف بين الأحزاب والمؤسسات المدنية هو ما يصنع الوحدة الوطنية الحقيقية.
في المحصلة، يقف الكورد أمام لحظة مفصلية: إما أن نكون ورقة في صراع القوى الكبرى، أو نحول أنفسنا إلى فاعل مستقل ومحدّد للمعادلة الإقليمية. لا يكفي هنا فقط أن نضع استراتيجيات سياسية وعسكرية؛ فالمطلوب فلسفة جديدة للتحرر، فلسفة تجمع بين الواقعية المليئة بالمصالح والمبدئية التي لا تتنازل. لقد أثبت الكورد أنهم قادرون على البقاء، والآن التحدي هو الانتقال إلى الازدهار.
فالتحدي اليوم هو أن نقرع أبواب الحضارة، لا أن نتربع على حصون البقاء. فالشعب الذي صنع أول ثورة نسائية، وحارب الإرهاب الأعنف، وصمد بكرامة عبر قرون، لن يقبل أن يكون أحد الأرقام في صفحات البراءة التاريخية، بل يريد أن يكون صفحة فخر تاريخي واستثنائي.
بوتان زيباري
السويد
12.06.2025