حكومة كردستانية مؤجلة… ودستور مفقود! – درباس إبراهيم .

 

يعد غياب الدستور الدائم في إقليم كردستان  إحدى أبرز المعضلات البنيوية التي تعيق تطور التجربة السياسية وتُقوض استقرار مؤسساته. فمنذ أكثر من عقدين، لم تتمكن القوى السياسية الكردية من التوافق على مسودة دستورية تُنظم العلاقة بين السلطات، وتُحدد شكل النظام السياسي، وتوفر ضمانات دستورية لحقوق المواطنين والمكونات. وبدلاً من ذلك، اعتمدت الحكومات المتعاقبة على تفاهمات حزبية مؤقتة تتصف بالهشاشة والتقلب، مما جعل العملية السياسية برمتها رهينة لتوازنات القوة والمصالح الضيقة، لا لمبادئ دستورية ثابتة.
إن الدستور في النظم الديمقراطية ليس مجرد وثيقة قانونية، بل هو الإطار الناظم الذي يُحدد صلاحيات المؤسسات، وآليات توزيع السلطة، وشكل النظام السياسي، والعلاقة بين المواطن ومؤسسات الحكم. وفي ظل غياب هذا الإطار، تظل الممارسة السياسية في الإقليم مفتوحة على تأويلات متعددة، تفتقر إلى مرجعية قانونية موحدة. لذلك، فإن كل أزمة سياسية، سواء عند تشكيل الحكومات أو أثناء أداء مهامها، تتحول إلى أزمة بنيوية يصعب حلها ضمن قواعد واضحة. ولعلّ أبرز تجليات هذا الفراغ الدستوري تظهر في أعقاب كل استحقاق انتخابي، حيث يتكرر مشهد التأجيل والمساومات الطويلة، نتيجة غياب آليات ملزمة لتشكيل الحكومة وتوزيع السلطات. فقد مضت أشهر على آخر انتخابات نيابية أُجريت في الإقليم، دون أن تتوصل القوى السياسية، وعلى رأسها الحزبان الرئيسيان (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني)، إلى اتفاق حاسم لتشكيل حكومة جديدة. وتتكرر هذه الظاهرة بعد كل دورة انتخابية، ما يُحول العملية السياسية إلى حلقة مفرغة من الانتظار والتأجيل.
لقد قامت معظم الحكومات السابقة على أساس تفاهمات سياسية بين الأحزاب، لا على نصوص دستورية واضحة. وغالبا ما تكون هذه التفاهمات قائمة على مبدأ تقاسم النفوذ والمصالح، لا على أسس الشراكة المؤسسية. ولذلك، فهي سرعان ما تتفكك عند أول اختبار حقيقي. كما أن هذه الصيغة تُنتج حكومات هشّة، تفتقر إلى الانسجام الداخلي، وتكون مهددة بالشلل المؤسسي عند كل منعطف سياسي حاد. وتشبه العلاقة بين بعض القوى الكردية في الإقليم، في كثير من الأحيان، علاقة الشركاء في مشروع استثماري، تُحدد ملامحها بمنطق الربح والخسارة، لا بالالتزام بالمصلحة الوطنية العامة. وبهذا، يغدو المواطن هو المتضرر الأكبر من هذا النمط السياسي، الذي يحول مؤسسات الحكم إلى أدوات صراع حزبي، لا أجهزة خدمة عامة. والمفارقة أن جميع الأحزاب الكردية تُقر، من حيث المبدأ، بضرورة وجود دستور دائم للإقليم، لكنها تختلف جذريا حين يتعلق الأمر بمضمونه. وتبرز نقاط الخلاف الجوهرية في قضايا عديدة، أبرزها: شكل النظام السياسي (برلماني، رئاسي، مختلط)، حدود صلاحيات رئيس الإقليم ورئيس الحكومة، موقع الدين والقومية في النص الدستوري، مستقبل القوات الأمنية، وضمانات حماية حقوق المكونات القومية والدينية. وهذا ما يُفسر فشل كل المحاولات السابقة لتمرير مسودة موحدة للدستور. إن الخلاف هنا ليس تقنيا، بل سياسي بامتياز، يتعلق بتوزيع النفوذ وتحديد مراكز القرار. فكل طرف يخشى من أن يُكرس الدستور تفوق خصمه السياسي أو يُنتقص من حصته في السلطة، وهو ما يحول دون إنتاج عقد اجتماعي توافقي يُنظم العلاقة بين الجميع على قاعدة المساواة والتوازن. ولا يمكن تجاهل أن هذا الإخفاق في صياغة دستور دائم يأتي رغم ما نص عليه الدستور العراقي الاتحادي لعام 2005، في المادة (120)، التي تخول الأقاليم سلطة إعداد دستور خاص بها، على أن يُعرض للاستفتاء ويقر بالأغلبية المطلقة. ومع ذلك، لم يُفعل الإقليم هذا الحق طوال العقدين الماضيين، نتيجة تعثر التوافق السياسي الداخلي.
بلا ريب، يؤدي استمرار هذا الفراغ إلى نتائج سلبية عميقة على الحياة السياسية في الإقليم. فبدون دستور، لا توجد معايير قانونية ملزمة تُحدد كيفية تشكيل الحكومات، ولا آليات واضحة لحل النزاعات المؤسسية. كما تصبح الاتفاقات السياسية مرهونة بالتحولات الإقليمية والدولية، لا نابعة من إرادة داخلية مستقرة. وبدلا من أن تكون التجربة السياسية تراكمية تفضي إلى بناء مؤسسات راسخة، تحولت إلى دائرة مفرغة من التأجيل والتسويات الظرفية. لقد أدى هذا الوضع إلى اهتزاز ثقة المواطن بالمؤسسات السياسية. كما أن الحكومة، في ظل غياب دستور راسخ، تفتقر إلى الحصانة السياسية والدبلوماسية داخليا وخارجيا، مما يُضعف موقعها التفاوضي مع الحكومة الاتحادية في بغداد، ومع القوى الإقليمية والدولية على حد سواء.
إن تجاوز هذه الأزمة البنيوية يتطلب ما هو أكثر من إرادة حزبية آنية؛ إنه يستدعي إرادة سياسية جماعية للاتفاق على مشروع دستوري شامل يُعبر عن تطلعات المجتمع الكردستاني بكل مكوناته. فالدساتير، بطبيعتها، لا تُبنى على المساومات اللحظية، بل على التوافقات العميقة والاعتراف المتبادل، وعلى أساس توزيع عادل للسلطة والثروة، وضمان الحقوق الفردية والجماعية. إنّ أي مشروع حقيقي للإصلاح السياسي في الإقليم لا يمكن أن يتحقّق ما لم يتم وضع دستور دائم تُشارك في صياغته جميع الأطراف، ويُقر عبر آلية ديمقراطية شفافة، مثل الاستفتاء الشعبي. وحده هذا العقد الدستوري الجديد يمكن أن يُؤسس لحكومة قوية ومستقرة تُعبر عن الإرادة الشعبية، وتُدار بمؤسسات فاعلة تخضع الجميع لسلطة القانون.
بصريح العبارة، لا يمكن الحديث عن استقرار سياسي أو تطوير مؤسسي في إقليم كردستان في ظل غياب الدستور. فالمسألة لم تعد ترفا قانونيا، بل أصبحت ضرورة وجودية لبقاء المشروع السياسي الكردستاني نفسه. ومن دون إطار دستوري ناظم، ستبقى الحكومة مؤجلة، والحماية القانونية ضعيفة، والمواطنة ناقصة، والمواقف هشّة. لقد آن الأوان لإعادة بناء النظام السياسي في الإقليم على أسس دستورية متينة تكفل الحقوق، وتُرسخ التوازن، وتفتح أفقا جديدا للتنمية السياسية والمجتمعية الشاملة.

One Comment on “حكومة كردستانية مؤجلة… ودستور مفقود! – درباس إبراهيم .”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *