لايمكن فهم التدخل الايراني في الشرق الاوسط يمعزل عن الارث التاريخي السياق الجيوسياسي الذي تشكل بعد ثورة 1979، فمنذ تلك اللحظة تحولت ايران من دولة ذات سيادة داخلية الى لاعب اقليمي نشط، يوظف مزيجاً من الادوات الايديولوجية والعكسرية والاقتصادية لبسط نفوذه، وبحسب المنظر السياسي الكسندر وندت/ فان الهوية الثورية لايران باتت محركاً رئيسياً لسياستها الخارجية، إذ ترى نفسها حامية للمستضعفين في مواجهة ما تصفه – بالهيمنة الغربية – ، غير أن هذا الخطاب، كما يكشف تقرير صادر عن معهد كارنيغي 2023 ، يستثمر في كثير من الاحيان كغطاء لتعزيز المصالح الجيوسياسية، حيث يظهر التحليل أن 42% من الخطاب الاعلامي الايراني يتمحور حول مفهوم المقاومة كأداة لشرعنة التدخلات الخارجية.
تعود جذور سياسة تصدير الايديولوجيا في ايران الى العصر القارجاري(1796-1925)، حيث استخدمت النخب الحاكمة المرجعيات الدينية الشيعية كأداة لبسط النفوذ، غير أن الثورة الايرانية عام 1979 منحت ذلك التوجه طابعاً مؤسساتياً واضحاً، تمثل في انشاء شبطة من الحوزات الدينية، والمنصات الاعلامية الموجهة مثل بعض القنوات الفضائية كقناة – المستقلة – ، التي تمول من الحرس الثوري الايراني، وتبث رسائلها باللغة العربية على جمهور الشرق الاوسط.
أظهر تقرير صادر عن مؤسسة اوروبا-ايران (2022) أن طهران تقوم بتمويل 19 مؤسسة دينية في العراق، عبر حسابات بنكية غير مباشرة، بهدف تعزيز الولاء العقائدي والسياسي للنظام الايراني – وقد نجحت بدرجة امتياز – ، ذلك النهج هو نفس النهج الذي كانت الدولة العثمانية باتباعه من خلال سياسة المدارس الدينية في القرن التاسع عشر لنشر المذهب الحنفي في المناطق ذات الاغلبية الشيعية، ما يعكس تشابهاً بين أدوات الهيمنة الرمزية القديمة والحديثة.
تثير طبيعة العلاقة بين ايران والجماعات المسلحة جدلاً واسعاً بين تصنيفات دولية متضاربة، ففي حين تصنف امريكا والاتحاد الاوروبي جماعات مثل حزب الله والحوثيين كتنظيمات ارهابية، تعتبرها طهران حركات مقاومة شرعية، لكن القراءة التاريخية تكشف برراغماتية واضحة في التعامل الايراني مه تلك القوى، فحزب الله الذي انشئ بدعم مباشر من طهران عام 1982 لمواجهة اسرائيل ظاهرياً، تحول الى ذراع سياسي وعسكري ايراني في لبنان، وسبب من اسباب انهيار الاستقرار السياسي والامني والعسكري اللبناني، في حين ان 60% من الاسلحة المستخدمة من قبل جماعة الحوثي في اليمن مصدرها ايران، بحسب بيانات معهد ستوكهولم لابحاث السلام (2023) ويتم تهريبها عبر مسارات بحرية معقد تشكل بحر العرب وسفناً تجارية.
يظهر النظام الايراني ملامح سلطوية واضحة، تتجلى في الدمج بين المرجعية الدينية والامنية، ف- قانون الجرائم ضم الامن القومي – ، وتحديداً المادة 286 من الدستور، يستخدم لتجريم المعارضين وفرض الرقابة السياسية، وكما يشير عمران عبدالله (2021) فان بنية الدستور الايراني تعزز مفهوم الولاية المطلقة للفقيه، ما يمنح المؤسسات الامنية سلطة مطلقة لقمع اي احتجاج، وتبرز السياسات القمعية بشكل صارخ في تعامل النظام مع الكورد، اذا سجلت منظمة – ايران هيومان رايتس – (2023)، تنفيذ عدة عمليات إعدام بحق ناشطين كورد خلال السنوات الاخيرة، امتداداً لسلسة من الانتهاكات بدأت منذ عهد الشاه، وتجلت في هجمات 1975، 1989، ويمثل ذلك القمع الداخلي استمراراً للنموذج الشمولي الذي يوظف الدين كأداة للضبط والسيطرة، بشكل يتقاطع مع انظمة سقطت مثل البعث العراقي والنظام السوري .
تثير تلك التقلبات السياسية والممنهجة لايران ردة فعل دولية تجاهها، وكرد فعل ايراني تجاه تلك السياسات الدولية تعتمد على الضربات المحدودة تجاه اقليم كوردستان العراق كأداة للضغط الاقليمي، باعتبار وجود مصالح دولية وغربية وعربية خليجية في الاقليم، وغالباً ما تسوق تلك الضربات بذريعة وجود عناصر اسرائيلية أو انفصالية، غير أن القراءة التحليلية، كما يوضح مايكل نايتس (2024)، تكشف أن تلك الضربات تمثل شكلاً من الردع بالوكالة، يتم من خلاله ارسال رسائل غير مباشرة الى واشطن وحلفائها، بين عامي (2020)و (2024)، نفذت ايران 15 ضرية صاروخية على اراض كوردية، وفق توثيق منظمة الرصد السوري، مقارنة ب 120 ضربة نفذتها اسرائيل على الاراضي السورية خلال الفترة ذاتها، إلا أن الفارق يكمن في طبيعة الاهداف، إذ تميل الضربات الايرانية الى استهداف مناطق مدنية او شبه مدنية، كما حدث في قصف مخيم – باسر -، ما يطرح تساؤلات قانونية حول انتهاك قوانين الحرب الدولية.
في مقاربة واقعية تكسف المقارنة بين الضربات الاسرائيلية والايرانية تفاوتاً كبيراً في الفعالية العسكرية، فبينما تتميز الضربات الاسرائيلية بدقتها العالية وقدرتها على تجنب الاسطدام المباشر مع القوات الايرانية، تعاني الضربات الايرانية من انخفاض الدقة والاعتماد على وكلاء غير موثوقين، كما أن ردود الفعل الدولية الشريعة، مثل فرض عقوبات اضافية على طهران بعد كل ضربة، تزيد من كلفة السياسات الايرانية دون تحقيق مكاسب ملموسة، ومن خلال نظرة سريعة الى الاحداث الراهنة فان التصعيد العسكري السياسي بين اسرائيل وايران شهد مرحلة مختلفة عن السياسات السابقة والتي غالباً ما كانت غير مباشرة داخل الاراضي الايرانية، إذ نفذت اسرائيل عمليات عسكرية واضحة وكبيرة على اهداف عسكرية ونووية داخل ايران، مما اسفر عن مقتل العديد من القيادات الايرانية البارزة والكبيرة والمؤثرة كمقتل قائد الحرس الثوري الايراني حسين سلامي واخرين، فضلاً عن ضربات دقيقة للمنشآت النووية الايرانية، والبنية التحتية الايرانية، ومواقع لإطلاق الصواريخ وسط ايران في محاولة لتعطيل القدرات الهجومية الايرانية، في المقابل ردت ايران باطلاق العديد من الصواريخ تجاه اسرائيل، مما ادى الى وقوع قتلى وجرحى في مدينة بات يان جنوبي تل ابيب، وفقاً لوسائل الاعلام الايرانية.
في ضوء ما سبق يتضح ان التدخل الايراني في الشرق الاوسط، وتهديد الدول من ضمنها اسرائيل بالبرنامج النووي، ادى الى تحولات كبيرة في السياسة الدولية تجاه ايران، فايران التي اعتمدت طول العقود الماضية على مزيج معقد من الايديولوجيا والتكتيك الاستراتيجي، كما كانت الامبراطوريات التقليدية توظف الدين والاقليات لتوسيع هيمنتها، وتواصل طهرات لاستثمار تلك الادوات في سياق دولي جديد، غير ان الفارق الجوهري يكمن في درجة الترابط العالمي، الذي يتيح مساءلة الدول قانونياً واخلاقياً، وعليه فان كسر تلك الحلقة لا يتوقف فقط على الردع العسكري، بل يتطلب ايضاً بناء توافق دولي حاسم يفرض قيوداً على التمدد تحت شعارات عقائدية – اي عقائد كانت – ، فالحرب مهما كانت ضرورية احياناً إلا انها لاتنتج إلا ازمات لايمكن التنبأ بنتائجها، الحرب يوماً لم تكن إلا وباء وخراب على الاقوام والدول، ونحن الكورد منذ قرون عديدة كنا ولم نزل ضحايا سياسات واطماع الدول المحتلة لاراضينا، إذ كانت ارضنا قديماً وحديثاً مسرحاً لصراعات تلك الدول اقليمياً ودولياً، وما نخشاه الان ايضاً هو يتم استهدافنا كرد فعلي انتقامي ايراني او حتى من الميليشيات العراقية الخاضعة ايديولوجياً وولائياً لايران – اكثر للعراق – بحجة استهداف مصالح الدول الغربية.