هل بدأت نهاية إيران في ظل الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة؟ – د. محمود عباس

من شبه المؤكد أن إسرائيل كانت على دراية تامة بقدرات إيران العسكرية، وخصوصًا ترسانتها الصاروخية، من حيث الكم والنوع والمدى والدقة، فمن خطط ونجح في اغتيال أبرز علماءها النوويين داخل طهران، ومن وصل إلى عقر منظومتها الاستخباراتية، لا يُعقل أن يتجاهل طبيعة ردها المتوقع، بل إنه على الأرجح درس كافة السيناريوهات بعناية، ووازن بين حجم الخسارة وحجم الهدف.

لقد قفزت إسرائيل من سياسة “الردع الوقائي” إلى عقيدة “الهدم الاستباقي” لم تعد تنتظر التهديد على أبوابها، بل باتت تبادر إلى اقتلاع الجذور قبل نموها، ولو في عمق طهران، هذه النقلة الاستراتيجية ليست إلا تتويجًا لدروسٍ قاسيةٍ استخلصتها تل أبيب من تغوّل حزب الله، وتوسّع المشروع الإيراني في سوريا، وتخاذل الغرب في احتواء الخطر عبر التفاوض والدبلوماسية.

المفاجئ في هذا التصعيد، أن إسرائيل قبلت بالمخاطرة بسقوط بعض الصواريخ على مدنها، رغم إدراكها الكامل لما تملكه إيران من وسائل انتقامية، لكنها، واثقة من أن الهزات المؤقتة، أقل كلفة من ترك نظام مهووس بالقنبلة النووية يصل إلى هدفه، وهنا يكمن الفرق الجوهري بين ما فعلته إسرائيل، وما فعلته إيران حين دفعت بحماس لتنفيذ عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 دون حسابات استراتيجية، لتخسر كل أدواتها في العالم العربي، وتنهار شبكاتها في لبنان وسوريا واليمن.

الضربة الإسرائيلية لم تكن موجهة فقط لإيران، بل لمفهوم “الردع الإيراني” ذاته، وهي، في واقعها، ليست نهاية معركة، بل بداية لمرحلة أعمق من إعادة رسم توازن القوى، وبناء شرق أوسط جديد.

في المقابل، يعاني النظام الإيراني تآكلاً داخليًا خطيرًا، أزمة اقتصادية خانقة، احتجاجات شعبية مستمرة، تآكل الشرعية السياسية والدينية، وانشقاقات داخل الحرس الثوري، هذا التآكل البنيوي يجعل من الضربة الإسرائيلية محفزًا إضافيًا لانهيار داخلي لم يعد مستبعدًا، لقد بات النظام شبيهًا بما كان عليه الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه، قويٌ في ظاهره، متعفنٌ في داخله.

ومن الملفت أن الإدارة الأمريكية مارست ما يمكن وصفه بـ “الصمت المحسوب”، فهي لم تُمانع الضربة، ولم تؤيدها علنًا. هذا الصمت يشي بأن العملية كانت ضمن هوامش تفاهمات غير معلنة، وأن إسرائيل قد لا تكون وحدها من هندس للمشهد، بل ربما كان جزءًا من إعادة تموضع استراتيجية أمريكية في المنطقة.

ليست هذه قراءة من باب الشماتة بأنظمة المنطقة المتهالكة، بقدر ما هي استعادة لحق تاريخي غُيِّب عن خرائط الشرق الأوسط. فكما ولدت معظم الدول الحالية في المنطقة من رحم الاستراتيجية الدولية لما بعد الحربين العالميتين، فإن كوردستان وحدها كانت الغائب الأكبر عن تلك الولادة الجيوسياسية. واليوم، ونحن على أعتاب موجة جديدة من إعادة رسم الخرائط، تبرز أمام الكورد فرصة تاريخية، لا لتكرار المأساة، بل لتصحيحها.

ومع ذلك، لا يمكن إغفال حسّ الانتماء الوطني لدى الشعب الإيراني، الذي، رغم معارضته العميقة لنظام ولاية الفقيه، سيجد نفسه، في الأيام الأولى من الصراع، ملتفًا حوله تحت دافع قومي وديني ضد عدو خارجي. هذه الحالة، وإن بدت مؤقتة، قد تمنح النظام دفعة داخلية في المدى القصير، خاصة إذا ما رافقها تصعيد محسوب ومدروس من قبل طهران.

  ويبدو أن القيادة الإيرانية عمدت إلى استخدام صواريخ من الجيل الضعيف تكنولوجيًا في الرشقات الأولى، كتكتيك لاستنزاف منظومة القبة الحديدية الإسرائيلية، وإرهاق دفاعاتها الجوية، تمهيدًا لاستخدام صواريخ أكثر تطورًا ودقة في المراحل التالية، هذه النقلة النوعية، إذا حدثت، ستفتح أبوابًا جديدة للصراع، وقد تدفع واشنطن إلى التدخل بشكل مباشر.

وإن تدخلت أمريكا، ستكون أمامها أمام خيارين حاسمين، إما دعم وقف شامل للحرب بضمانات روسية وصيغة تحفظ ماء وجه إيران مقابل قبولها بشروط الاتفاق النووي الجديد، وبوادر بهذا الاتجاه بدأت تظهر، أو الدخول الفعلي في الحرب لتغيير معادلة القوة، وهو ما سيضع مصير النظام الإيراني، وربما كيان الدولة المركزية ذاته، على المحك.

  وفي هذا السيناريو، من المرجح أن تبدأ واشنطن بتحريك الداخل الإيراني، عبر دعم المعارضة وتنشيط الحركات المطلبية، لخلق صدع داخلي يقوّض بنية السلطة من الداخل، ويحوّل الصراع الخارجي إلى مقدّمة لانفجار داخلي قد يغيّر وجه إيران إلى الأبد.

فإيران، التي اعتادت اللعب بأوراق الوكلاء، تواجه اليوم لحظة الحقيقة كدولة تحت المجهر، ونظام تحت التهديد، فإما أن تراجع عقيدتها التوسعية وتنحني أمام عاصفة التحولات الكبرى، أو تواصل العناد في طريق يزداد ضيقًا، نحو نهايات قد تتجاوز نظامها، لتطال كيانها ذاته.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

14/6/2025م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *