تأملات في الخطاب والهوية بين السجال والوجود- بوتان زيباري

 

في عالمٍ تتدفق فيه الأحداث كالنهر الجارف، تُختزل الحياة في سباقٍ محموم بين عناوين متلاحقة، كلّ منها يحمل في طياته دراما إنسانية أو سياسية أو اجتماعية تدفع المرء إلى التساؤل: أيّها يُختار؟ وأيّها يُترك؟ وكيف يُفكَّك هذا التشابك الذي يتحوّل إلى ضجيجٍ يومي؟ تُركّب تركيا مشهدًا من هذا القبيل، حيث تتكدّس القضايا فوق بعضها كطبقاتٍ من التاريخ الحيّ، فلا تكاد تلتقط أنفاسك حتى تُفاجأ بحدثٍ جديد يقلب الموازين. هنا، يصبح الصحفيون – ربما – الأكثر حظًّا، فلديهم من المادة الخام ما يكفي لصنع آلاف القصص، دون أن يخشوا من جفاف المنابع أو فراغ الساحة

في خضمّ هذا الزخم، تطفو على السطح رسالةٌ مثيرة للجدل، كُتبت بحبرٍ يمتزج فيه الفلسفة بالسياسة، والنقد بالتشريح الاجتماعي، لتُطرح أسئلةٌ لا تنتهي: لماذا الآن؟ وما الهدف من إثارة هذه العاصفة من النقاشات في وقتٍ يعجّ بالأزمات؟ الرسالة، التي تحمل توقيعًا مألوفًا، تتنقل بين الكون والذرة، بين الماركسية والإسلام، بين الفيزياء الكمومية وصراعات الهوية، وكأنها محاولةٌ لاحتواء العالم في سطورٍ قليلة. لكنّ الجدل الحقيقي لم ينشأ حول هذه الأفكار بقدر ما انفجر حول اللغة التي كُتبت بها، وتحديدًا ذلك الوصف الذي حوّل المجتمع الكوردي إلى “مزبلةٍ تفوق المستعمرة”، وتلك العبارات التي لم تترك شيئًا من الموروث الديني والاجتماعي إلا ومسحته بفرشاةٍ قاسية.

المشكلة ليست في النقد ذاته، فكل مجتمعٍ يحمل تناقضاته وعيوبه، وكل تاريخٍ يخفي تحت صفحاته انتصاراتٍ وهزائم. لكنّ المشكلة تكمن في كيف ننقد، وبأي عينٍ نرى، وأي لسانٍ ننطق. فحين يتحوّل الخطاب إلى ساحةٍ للتحقير، بدلًا من أن يكون جسرًا للفهم، نفقد إنسانيتنا قبل أن نفقد حججنا. هل يُعقل أن يُختزل شعبٌ بأكمله – بكلّ تراثه وكفاحه وتضحياته – في كلمةٍ جارحة؟ هل يُقبل أن تُلغى قرونٌ من الثقافة والفنون والأدب بجرة قلم؟ لننظر إلى الأمثلة التاريخية: فحتى الشعوب التي عانت من التفتيت، مثل الاسكتلنديين في مواجهة الإنجليز، أو العرب في تشتتهم الحالي، لم تُحكَم عليهم بالزوال لمجرّد أنهم فشلوا – حتى الآن – في توحيد رؤيتهم. التاريخ لا يرحم، لكنّه أيضًا لا يُختزل في لحظةٍ واحدة.

ثمّة شيءٌ مأساويٌ في أن يُحاكم الماضي بمعايير الحاضر، دون اعتبارٍ للسياق أو الظروف. فالشيخ سعيد، والقاضي محمد، وسيد رضا، وغيرهم من الرموز، لم يكونوا ملائكةً ولا شياطين، بل بشرًا حاولوا – ضمن إمكاناتهم – أن يخدموا قضيتهم. قد نختلف معهم، وقد نرفض بعض خياراتهم، لكنّ إنكار دورهم هو إنكارٌ للتاريخ نفسه. والأمر نفسه ينطبق على اللغة والثقافة: فالكوردية، مثل أي لغةٍ أخرى، تحمل في مفرداتها روح شعبها، وإذا كان ثمة نقصٌ في التطوير الأكاديمي أو السياسي لها، فذلك نتيجة القمع والمنع، لا العجز الذاتي. كيف نحكم على لغةٍ لم تُمنح فرصةً كاملةً لتزدهر؟

الأكثر إيلامًا في هذا السياق هو صمتُ بعض من يدّعون تمثيل هذا الشعب، والذين يتحركون فقط عندما تُهدّد مصالحهم الانتخابية. هم يرفعون شعاراتِ “الحرية” و”الكفاح”، لكنّهم يهرعون إلى صناديق الاقتراع كلّما شعروا بأنّ كرسيّهم في خطر. هذه المفارقة تكشف عن أزمةٍ أعمق: أزمة النخب التي تبيع أحلام الجماهير في سوق المساومات.

في النهاية، ليست المسألة مسألة آراءٍ فحسب، بل مسألة أخلاق. نستطيع أن نختلف حول الماركسية أو الإسلام، حول الكوانتم أو التاريخ، لكنّنا لا نستطيع – أو لا ينبغي – أن نختلف حول ضرورة الحفاظ على إنسانيتنا المشتركة. النقد ضرورةٌ حيوية، لكنّ الاحترام ضرورةٌ أكثر حيوية. والموضوعية مطلبٌ أساسي، لكنّ الإنصاف هو الأساس. ربما علينا أن نتذكّر دائمًا أن الكلمات ليست حروفًا مجردة، بل سكاكينُ قد تطعن القلوب قبل الأجساد. فهل نختار أن نكون جرّاحين أم جلّادين؟

بوتان زيباري

السويد

17.06.2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *