افول الفلسفة الاسلامية قبل تجليها (3)- عماد علي

 

ان مشكلة تشبيه الله باحد مخلوقاته هو احد العقائد لدى تعبد المسلمين و الذين حاولوا التحفظ عنه، و لكن لم يكن في اي وقت ذلك بفعل بسيط و اعتيادي، و  كما يقول الله في القرآن انه ليس كمثله شيء، في الوقت نفسه و في اكثر من مكان منح العديد من الصفات الى الله ينفح منه عطر تشبيه الله مع مخلوقاته او يبين ملامح ذلك التشبيه، ومنها صفات اليد و الساق و العين و فوق العرش و المجيء و الذهاب، و صفات اخرى كثيرة. و لهذا السبب فان المسلمين تحدثوا و فسروا تلك العقائد و الايآت في المراحل الاتية، و الذي كما راينا وفق راي ابن خلدون انه هو سبب ظهور علم الكلام، لان النص القرآني بذاته مثلا لم يتكلم بشكل قاطع و نهائي في توضيح ذلك وما هو المقصود باليد و الساق و العين. و القرآن بنفسه سمى جزء من هذه الايآت بالمتشابهات كما هو في سورة آل عمران، الآية السابعة تقول ان القرآن يجتوي على نوعين من الآيات، بعضهما معلوم و واضح و محدود فسميت بالمحكمات و الاخريات اللاتي يمكن ان تحملن اكثر من معنى و تفسير.  و عليه قال بعض منهم ان المقصود في هذه الكلمات هو المعنى نفسه الذي تحمله الكلمات دون ان يكون هناك معنى مشابه مع الموجود في وعي المسلمين و الناس، لذا قالوا لديه ايدي، و لكن كيفية تلك اليد و شكلها و نوع تلك اليد لا يشبه اية ايدي او شيء اخر. و عليه يقال عن هذه الايآت (المثبتة) و ما تعنيه انها التي تثبت صفات الله، و المثال البارز لذلك هم من اهل الحديث و الحنبليين بشكل خاص. و التيار الاخر المعروفين ب ( المعطلة) الذين يرفضون صفات الله، و قالوا بان هذه الكلمات ليست بصفات الله و  و ليس بعمناه الحقيقي وهي مجازية، لذا قالوا ما تعنيه اليد هو القوة و الساق هو السلطة والعظمة و الهيبة الالهية، و العين تعني الرؤية. و من امثال هؤلاء هم كل من الجهمي و المعتزلة  و العديد من الجماعات الاسلامية الاخرى. ان المعروف في الثقافة الاسلامية بالمشبهة اي المشابه، هما نوعان؛ احدهما هؤلاء الذين يشبهون الله بشيء اخر، الثاني ؛ هؤلاء الذين يشبهون صفته باحد اخر ( 48) كما قلنا ان هذا نقطة رئيسية لتحريك و تفعيل القدرة العقلية في الحضارة الاسلامية للتحفظ و الابتعاد عن العقائد المخالفة  للعقل و النص الديني. شاهدنا من قبل ان احد تلك الاتهامات التي عرضه رجال الدين من اهل النقل و اسند الى الحركة القدرية، محاولة ربطه بالاديان الاخرى المخالفة مع الاسلام، و بالاخص اليهود، و بعكسه، فان العقلية ذاتها هي مصدر تشبيه الله بالمخلاقات الاخرى و التي رُبطت باليهودية, في هذا الجانب فان الاسفراييني الذي اتهم من قبل القدريين، قا بان مصدر هذه العقيدة هو اليهود, و عن مصدر تشبيه صفات الله من حيث المعنى بالمخلوقات الاخرى، المعروف بالمشبهة، يقول؛ هم اصل التشبيه، اي مسلم يؤمن بالتشبيه فهو تابع لهم .( 49). وقبله الشهرستاني ( و هو كاشعري مناويء للمعتزلة) في الحديث عن التشبيه، يقول  ان المسلمين تعلموا ذلك من اليهود، لان التشبيه هو من طبيعة اليهود (50). الى ان قال الغزالي حول تطرف عقيدة المسلمين، ان منح صفة الجسد الى الله هو من ارث اليهود، عندما يتكلم عن ذلك الحديث الذي يقول( ان الله خلق ادم على شاكلته) يقول( اذا فهمت من الصورة او الشكل بهذا الشكل (اي كلمة الصورة في الحديث) هي تلك الصورة التي تُرى بالعين، لذا تصبح مشبه مطلق، كما يُقال انك اصبحت يهوديا مجردا ( 51) في الوقت ان هذا الكلام و الاتهامات  تحمل على الاقل خلافين داخليين كبيرين: كما شاهدنا من قبل الخطاب الاسلامي ذاته لتيار اهل الشرع، و بالاخص الاسفراييني، قالوا ان مصدر الكلام عن القضاء و القدر هم اليهود او المسيحيين. في الوقت ان كان القدريين حركة كلامية و كانت محاولة لانتاج تفسير لافعال الانسان التي تكون متجانسة  و متوافقة مع العقل، وفي هذا الاطار ان جمع تلك النصوص التي تعطي معاني معاكسة و هي مؤّولة، لذا فان التشبيه يكون مذهب معادي للعقلانية، لا يمكن ان يكون صاحب للمصدر نفسه، لذا فان كلمة ( المشبه) في مؤلفات العقائد الاسلامية و الاشعرية بشكل خاص، كان باستمرار مقصد  اهل الحديث، التيار الذي عرف نفسه بالممثل الحقيقي للعقيدة الاسلامية منذ احمد بن الحنبل، لان هؤلاء قالوا دائما ان المقولات القرآنية  حول اسم و صفات الله و كل تلك الاحاديث كانت صحيحة وفق منهجهم، يجب ان يكون بالمعنى ذاته دون تاويل او اعطاءه اي معنى اخر، يجب ان يُؤمن به كما هو.   مثلا عندما يتحدث المؤرخ المقدسي في اواسط القرن الرابع عن الجماعات المشبهة الاسلامية، يقول؛ ان اكثرية اهل الحديث يحملون تلك العقيدة . ( 52). و بعد ذلك و في جزء ( اهل الحديث) يسميهم بالحشوي، اي اؤلائك الاشخاص الذين ياخذون صفات الله كما هي و يعتقدون ان هذا هو المقصود ( 53). و بالشكل ذاته يعرف الجويني هؤلاء باهل المظاهر لمعاني النصوص( 54).

و بهذا الشكل، فان هؤلاء يصابون بالتضليل و التشويه و اخيرا تشبيه الله بمخلوقاته، و كما قال السبكي في تعريف الحشويين. اما الشهرستاني يعتبر( الكثرية اهل الحديث) اقلية و يسميهم بالحشويين ايضا. برأيه، فان هؤلاء هم الذين جاءوا بعد احمد بن الحنبل و لخوفهم من ان يصابوا برفض  صفات الله اعتقدوا كليا بان  الله هو في الحقيقة لديه اليد و الاصبع و الساق و العين التي جاءت كما هي في القرآن و الحديث. لذلك قالوا بان الله جسد و لحم و دم و له اطراف كاليد و الساق و الراس واللسان و العينين و الاذنين، و مع ذلك قالوا  انه جسد ليس كما هي الاجساد الاخرى، و لحم ليس كاللحوم الاخرى و دم ليس كالدماء الاخرى ( 55)، و به منحوا الله كافة الصفات الجسدية، و لكن في النهاية كانوا يقولون بان هذه الصفات الجسدية لا تشبه ما لدى المخلوقات. هؤلاء و ان كانوا تيارا من اهل الحديث و المدرسة النقلية، كانوا في الوقت نفسه  مناوئين اشداء لتيار المعتزلة و العقلانيين. الملاحظ ان الشهرستاني يقول: هؤلاء استندوا على  العديد من الاحاديث التي اخذوا اكثريتها من اليهود لاثبات عقائدهم، لان التشبيه من طبيعتهم ( 56). و الاعجب من هذا ان الشهرستاني بنفسه ياتي بحديث كمثال لتلك الاحاديث  على انه اخذوه من اليهود ، جاء فيه ان النبي قال:  بالله وصلت و صافحني، وبعده وضع يده على كتفي الى ان حسيت ببرودة اصبعه) . في الوقت ان هذا الحديث بنفسه على اساس ان مصدره اليهود و هو الذي يمنح معنا جسديا لله و انه حديث اهل الحديث الخشويين، وليس احمد بن الحنبل، كما يقول الشهرستاني، ان الحديث ذاته رواه احمد بن الحنبل في كتابه  المعروف و الاكثر شهرة حول الحديث( 57). و حتى المدرسة النقلية و هي في قمة التطور و الظهور، لم يتمكن عند ابن تيمية ان يتنصل من اعطاء المعنى الجسدي لله. على الرغم من ان هؤلاء كانوا اشد الاضداد و المناوئين بان يُقال ان لله جسد، لان كلمة الجسد بذاتها هي بدعة و لم تكن موجودة من قبل. على الرغم انه يرفض ان يكون لله جسد ، فيقول: ليس من قبل اي من الانبياء و الصحابة و التابعين و ليس من السلفيين في هذه الامة و لم يُنقل عنهم بان لله جسد، او  ليس له جسد، و انما اثباته و رفضه بدعة في الشريعة (58). اي، ان يمكن ان يكون جسدا او لا يمكن، منع نطق كلمة الجسد لوصف الله( وفق مقولة ابن التيمية) ليس بذلك الشيء الذي يرفضه العقل (كما هو حال المعتزلة) او يقبله( كما هو حال الكراميين) و انما يدل على ان الشرع في اعلى مستواه و هو النص المقدس فلم يبرهنه او يثبته ولم يرفضه ايضا و لا شيء اخر. و لكن وعلى الرغم من ذلك فكم من المرات فُسر و اُعطي المعنى الجسدي لله، مثلا يقول: العلماء المقبولين و الولي قالوا الصحيح: ان الله يُقعد النبي معه على العرش في يوم القيامة ( 59) و كذلك في العديد من المرات يُرد ذلك الحديث الى النبي الذي يُزعم  انه قال: ان عرش الله مبني في السماوات، و اشار باصبعه بانه مثل القبة، (و من ثم قال) يصر كما هو صرير السرج عندما يركبه الفارس). و اوضح شيء لاعطاء المعنى الجسدي للرب، يقول: عندما ياتي الله( اي في يوم القيامة)  و يجلس على كرسيه، فان الارض بكاملها تنصع باضواءه ( 60).

 

One Comment on “ افول الفلسفة الاسلامية قبل تجليها (3)- عماد علي”

  1. ليس كمثله شئ رائعة
    https://m.youtube.com/watch?v=HR_ZsbANH0Y

    https://m.youtube.com/watch?v=t5VzhlGqui0

    https://m.youtube.com/watch?v=A2Qv9I8bL5s
    معنى التوحيد ليس كمثله شيء _ د. عدنان ابراه

    https://m.youtube.com/watch?v=3dqQOCuJXDI

    الله ليس كمثله شيء
    بسم الله الرحمن الرحيم

    صفات الله وأفعاله وتفسيرها:

    أيها الإخوة المؤمنون، إنَّ الله تعالى “ليس كمثله شيء”، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وإنّ الله جلَّ جلاله، له ذات، وله صِفات، وله أفعال، والذين أنكروا صِفاته فقد عَطَّلوها، والذين جَسَّدوها انْحرفوا، والذين فَوَّضوا تفْسيرها إلى الله عز وجل اِتَّبعوا، والذين أوَّلوها أرادوا أن يُقْنِعوا مَن جاء بعدهم مِمَّن حَكَّم عقْله، في الآيات التي تتحَدَّث عن ذات الله عز وجل في القرآن الكريم، فهناك من أنْكر الصِّفات، وعُرفوا بالمُعَطِّلة، وهناك من جَسَّدها وهم المُشَبِّهَة، وهناك من فَوَّضَ تفْسيرها إلى الله عزوجل، وهناك من أوَّلها تأويلاً يليق بِكَماله.
    في الحقيقة نحن مع الفريقين الأخِيريْن، الذين فَوَّضوا، والذين أوَّلوا.
    ربَّما كُنَّا بِحاجَة إلى التأويل، فإذا قلنا: إنّ الله سميعٌ، أي يعْلم ما تقول، وبصير يعلم ما تفْعل، وإذا قلنا يدُ الله، أي قُدْرَتُه، وإذا قلنا: وجاء ربّك، أي وجاء أمْر ربِّك، وهكذا نُؤوِّل بما يليق بِكمال الله تعالى.
    أو نُفَوِّض حيث نقول: هذه الآية نُفَوِّضُ تأويلها إلى الله تعالى، نحن آمنَّا بالله عز وجل، والله تعالى أخْبَرَنا أنَّ لهُ سمْعاً وبَصَراً، نُفَوِّض إلى الله آية السَّمْع والبصر، أو أنَّنا نُفَسِّرهما بما يليق بالله عز وجل.

    العقل فقط للوصول إلى الله وهو عاجز عن الإحاطه بالله:

    يا أيها الإخوة، أنا مُضْطَرّ أن أعيد حقيقةً أساسِيَّة مُهِمَّة جداً، وهي أنّ العقل البشري حينما خلقه الله عزوجل جعل له حُدوداً لا يتَعَدَّاها، وهذا مِن كمال الصَّنْعة، فقد تصْنع ميزاناً وتكتب عليه: هذا الميزان يعْمل في دِقَّة بالغة إلى خمْسين كيلوًا، فإذا حَمَّلْتَهُ فوق طاقته، فهذا الميزان يصاب بِالعَطَب، هل تتَّهِمُ الميزان أو صانِعَهُ؟ لا، بل أتَّهِمُ نفسي، فلو أنَّني حَمَّلْتُ عقلي قَضِيَّةً فوق العقْل، فلا أتَّهِمُ العقل بالقُصور، ولا أتَّهِمُ الصانِعَ بِصَنْعَتِه، ولكن أتَّهِمُ نفسي أنَّني كلَّفْتُهُ لِغَيْر ما خُلِقَ له، هذه فِكْرة دقيقة جداً، فالعقْل البشري لما أوْدعه الله في الإنسان أوْدعه من أجل أن نصِلَ به إلى الله، وفرقٌ كبير بين أن نَصِل به إلى الله وبين أن نُحيطَ بالله، الإحاطة بالله عز وجل من سابِع المُسْتحيلات!
    لقوله تعالى:

    (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)

    [سورة البقرة]

    وقال أحد العلماء:

    الجهل بالله عين العلم به، والعلم به عين الجهل به

    فإذا أردت أن تصل إلى الله فالعقل يكفي، أما إذا أردتَ أن تصل بِعَقلك إلى ذات الله تعالى ؛ كيف خُلِق العالم مِن عدم؟ وكيف يعلم؟ فالعَقْل يعْجز.
    لذلك أكبر قضِيَّة نلْمَحُها في الجماعات التي لم تتحَقَّق من عقيدةٍ صحيحة، هي الخلط بين مساحَةٍ مُخَصَّصة للأخبار الصادِقَة، ومساحةٍ مُخَصَّصة للمَعْقولات، أقول لكم دائِماً أيها الإخوة: يجب أن تُجيب عن سؤال أوَّلي ؛ هل هذه القَضِيَّة مع المَعْقولات، أو مع المَسْموعات، فإن كانت مع المَعْقولات فسَلِّطْ عليها عقْلك، ولا مانع، أمّا إن كانت مع المَسْموعات فالعَقْل لا دخْل له فيها إطْلاقاً! هي حَكَمٌ على العقْل، وليس العقل حَكَماً عليها، وليْسَت هذه الحقيقة التي أخْبرنا الله بها حَكَماً على العقْل، فأخْطر فِكْرة أن تكون قَضِيَّة مُتَعَلِّقة بذات الله، وهكذا أخْبرنا الله بها، أما إن أردْتَ أن تضَعَها على مِحَكِّ العقل ؛ كيف يعلم الله عز وجل؟ وكيف أعْطاهُ اخْتِياراً، والله تعالى يعْلم، فإذاً ينبغي ألاّ يعْلم، نكون بِهذا دَخَلْنا في متاهَةٍ لا تنتهي، نحن في الإخْباريات نتلقاها من الله عز وجل، ونُفَوِّض تفْسيرها، أو نُؤَوِّلها تأويلاً يليقُ بِكماله، أما في المعْقولات فلك أن تُحَكِّمَ عَقْلَك على هذه الحقائق، وسوف ترى لِهذا العَقل نتائِج باهِرَة جداً، فالخطأ الكبير أن تنقل قَضِيَّة من دائرة الإخباريات والمَسْموعات والتَّصْديق إلى دائِرَة التَّحْقيق.

    دوائر المعرفة وأدواتها:

    قبل أن نمضي أُحِبُّ أن أُحَدِّد بعض الاصْطِلاحات ؛ الشيء الذي أخبرنا الله تعالى به فلك أن تُسَمِّيه الإخْبارِيَّات، أو المَسْموعات، أو المُسَلَّمات، أو دائرة الغَيْبِيَّات، أو التَصْديقات، فَكُلُّ هذه المُصْطَلحات مُؤَدَّاها واحد، أما الدائرة الأولى وهي دائرة المعقولات، أو المُشاهدات، أو الاسْتِدْلال، فالعقل مُرْتبط بهذه الأخيرة، أما الغيب فسبيل معْرِفَتِه الخَبَر، وذَكَرْتُ مَرَّةً دائِرَةً ودائِرَةً ودائرةً،
    الدائِرَة الأولى: دائِرَةُ الشُّهود أداتُها الوحيدة الحواس الخَمْس، فالشُّهود عَيْنُ الشيء وآثاره.
    الدائرة الوُسْطى: ودائِرَة بين بين أداتها الوحيدة العقل، وهي ما غابت عَيْنُهُ وبَقِيَتْ آثارُه،
    الدائِرَة الثالثة: ودائرة الغَيْب أداتها الوحيدة الخَبَر الصادِق، والغيب غابَتْ عَيْنُهُ وآثارُه.
    إذًا حواس، وعَقْلٌ، وخبر.

    تعطيل العقل وإعماله بغير مكانه بين معصية الله واتهامه:

    أيَّةُ قَضِيَّة إخْبارِيَّة الزِّيادة عليها ظَنِّيَّة، والله تعالى أعْطاك الحدّ المناسب، فلا تزدْ على النَصّ القرآني، ولا تزِد على النصّ النبوي، ذَكَرَ عن الجنّ بَضْعة آيات، فهي كافِيَة، أيُّ بَحْثٍ في موضوع الجنّ زِيادة على ما أخبرك الله به فهذا تطاول، وتنطّع، وليس موقِفاً علْمِياً، لأنّ الجن غابَتْ عنك عَيْنُ الجنّ وآثاره، ولم يبْقَ لك منه إلا الخبر الصادِق، فأيّ تسليطٍ للعقل على الخبر الصادِق اتِّهامٌ للمُخبِر، اِنْتَبِه فأنت حينما تُسَلِّط عقْلك على شيء أخْبَرَك الله به إنَّما تتَّهِمُ المُخْبِر وتتَّهِمُ الله عز وجل، لكن حينما تُعَطِّل عقْلك عن شيء دعاك الله تعالى إلى التَّفْكير به فأنت تعْصي ربَّك كذلك،
    قال تعالى:

    (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

    [سورة البقرة]

    فالتَّفكّر في الدائرة الوُسْطى، والإحْساس في الدائِرَة الأولى، والتَّصْديق في الدائِرَة الثالثة.

    لا يمكن لمخلوق حادث أن يحيط بالقديم:

    الآن، إيَّاك أن تنقل قضِيَّة من مكان إلى مكانٍ، ففي هذا خطر! هذه قَضِيَّة مع الإخباريات فأجعلها مع العَقْلِيات! وأسَلِّط عليها عقلي وأُمَحِّص، كلّ هذا كلام فارغ! والأسباب:
    فهل يُمْكن لِمَخْلوق حادِث أنْ يُحيط بالقديم؟! وهل يُمكن لِنَمْلة على سطح جبل هيمالايا، وقد أوتِيَتْ إدراكاً لِتَحْصيل طعامها فقط، فهذه النَّمْلة هل بِإمْكانها أن تُحيط بالجبل؟! ومُكَوِّنات تُربته، وصُخوره، ووزْنِه، وحجْمه! هذا شيءٌ مُسْتحيل، فهذه الحقيقة إذا تَمَثَّلْتموها أيها الإخوة، والله الذي لا إله إلا هو لشَعَرْتُم بِرَاحة لا تُقَدَّر بِثَمن.
    ففي المحسوسات اشْترك بعض المخلوقات معنا، وفي الدائرة الثانِيَة ينفَرِدُ بها الإنسان، والدائرة الثالثة ينْفردُ بها المؤمن.
    فكمال الخلْق ألا يدلّ على كمال التَّصرّف؟ هل ترى في هذا الكون خَلَلاً أو نقْصاً، رأيْتُ مَرَّةً أباً يحْمل ابنه من يدِه، لعل الأرض فيها وُحول، فَحِرْصاً على نظافة ابنه رفعه من يده، والله بقيت أُفَكِّر فَتْرة طويلة! فهذه اليد مدْروسة بعِلْم، فلو أنَّ العَضلات التي ترْبط الساعد بالجِسْم أضْعف من أن تحمل الوزْن لانخلَعَتْ يدُ الطِّفل، معنى هذا أنّ وزْن الابن مدْروس، ولو حَمَلْته من يده فلا حرج، ثم انظر إلى سيارة صُنِعَت سنة ألف وتسعمائة، مرَّة قرأت مقالة عنها ؛ ليس فيها تَمْديد سرعة، تمْشي بِسُرْعة واحدة والإضاءة بِقِنْديل، والتَّشْغيل من خارج السيارة، وانْظر إلى سيارة اليوم “أحدث موديل” ؛ مرسيدس شبح، لو أقَمْتَ موازنة بينهما! كيف تُفَسِّر هذا التَطوّر؟! علم الإنسان قاصِر، وخبرته حديثة، أما الله عز وجل فخبرته قديمة، والدليل هذا الإنسان، فهل طرأ عليه تعْديل منذ أن خُلِق؟ وهذا الكون بِمَجرَّاتِه، وسماواته، والجبال، والأنهار، والصحارى، والنبات، والطيور، هذا الكون ألا يدل على عظمة الله عز وجل؟ وعلى علمه وقدرته ورحْمته، الطِّفل الصغير أودِع في طحاله كميَّة من الحديد تكَفيه عاميْن، لأنّ حليب الأم مُفْتَقِر إلى الحديد، فأنت لو فَكَّرْتَ في خلْق الإنسان والحيوان وفي بُنْيَةِ النبات لرأيْتَ العَجَب العُجاب، هذا الكون هو الثابت، وهو الذي يدلّ على الله.

    خطأ وقع به المُتَكَلِّمون:

    الحقيقة أنَّ الحديث عن ذات الله من الدائرة الثالثة ؛ من دائرة الغَيْب، ما الخطأ الفادِح الذي وقع به المُتَكَلِّمون؟ أنَّهم نَقَلوا قضايا من دائرة الإخبارِيات إلى دائرة المَعْقولات، فبهذا كُلَّما جهِدوا في حَلِّ مُشْكلة ظَهَرَت لهم عشْرُ مُشْكلات! لذلك ورد في بعض الأحاديث أنَّ سرَّ القضاء والقدر ادُّخِرَ إلى يوم القيامة،
    فقوله تعالى:

    (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4))

    [سورة الإخلاص]

    أليس هذا الكون الذي أمامك يدلّ على عظمة ما بعدها عظمة؟ ألا يستأهل ربنا جل جلاله أن تُسلِّم له في قضِيَّة أخبرك عنها؟ وأذكر ذكر حادثة لِوَزير خارِجِيَّة دولةٍ مُتخَلِّفَة الْتقى مع وزير خارِجِيَّة دوْلة كبيرة بِمِقْياس العصْر، فسأله سؤالاً: فأجاب عنه، فقال له: لي معلومات غيرها، فَطَرَدَهُ! فهذا الإنسان وما تَحَمَّل، أعطاك معْلومات، وهو أكبر مِن أن يكْذب تقول له عندي معلومات أخرى غير هذه! لذلك خالقُ الكون، وهو بِكُلِّ شيء عليم،
    قال تعالى:

    (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)

    [فلا يمكن أن يرقى مخْلوق بِصِفاته إلى صِفات الله تعالى.
    قال: وهو السميع البصير ردٌّ على من نفى الصِّفات، فالآية على صِغَرها قال تعالى:

    (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)

Comments are closed.