“ومن الشك ما قتل”، لقد بدأ المؤلفُ محمد آيت علو مجموعة مسافاته القصصية بعنوان مثير” كأن لا أحد”، والذي يثيرٌ حبا وشجنا وريبة وألما وغبنا وتشويقا وشكا ودلالات عميقة لاحصر لها…، مما يجعل مقارباته عديدة ومن تم درجات إبداعيته بامتياز. على الرغم من الدلالة الواضحة والمتاحة للجميع على مختلف مستوياتهم، والتي لن تلتبس على أي أحد.
فهذا العنوان يحيلك إلى التيقن بأن الإنسان يخرجُ من بطن أمه وحيداً، وينتهي به المطافُ إلى لحده وحيداً. فهو وحيد من البداية حتى النهاية فما بعدها، وحيدٌ من المهد حتى اللحد، رغم ما قد يصطنعه في محيطه وحياته من أواصر وقرابات، فهو كائنٌ إجتماعيٌّ بطبعه، لكن سرعان ما يجد نفسه يعيش في وحدة خصوصا عند أحلك الأحوال وتشابك مسافات الحياة. فضلا عن ذلك، فكلنا نشتهي سفراً ورحيلا نعود بعده لا نعرف أحدا.
فما أكثر الخلان والأحباء حين تعدهم، ولكن في الشدائد والنوائب قليلون، يغيبون بل يندرون، وباختلاف العلاقات والصداقات يصيرالإنسان يشعرُ بالاحتماء والانتصار المزيَّف، والذي سرعان ما يتحولُ إلى انهزام ووحدة عند أي طارئ حاجة أو خصاص، فيبقى عزاءه الوحيد رحمة الله التي وسعت كلَّ شيء…”فنسأل الله ألايكلنا إلى أحد، ولايحوجنا إلى أحد، وأن يغنينا عن أي أحد، فهو وحده نعم المستند والمعتمد، الفرد الصمد، الواحد الأحد”.
إن القارئ للنصوص السردية التي أبدع فيها الكاتبُ يجد أنها على الرغم من تنوع مضامينها ظلت ملتصقة بتيمة العنوان الذي سافر وتنقل عبر مسافات كأنه سندباد طاف الدنيا عبر بساطه وغاص في حروف هذا العنوان، فحاول استكشاف عالم آخر يتوهج بالآمال، أكثر حرية وبلا قيود… فالذين يعيشون الوحدة يعرفون حق المعرفة دور العزلة. فهي مدعاة إلى التفكير وتشغيل الذاكرة والسفر بالخيال إلى عوالم الإيحاءات. بهذا، فالمؤلَّف تجربة حياتية معيشة، مفعمة بالحياة وحصيلة لمن خبر الحياة، وتعبر عن حقائق إنسانية، حيث يجدُ الإنسانُ نفسهُ في آخر المطاف وحيداً:
لقد كان قومي
مرة مثل
رمال الشواطئ…،
والآن
أناديهم ولا تجيبني سوى
الرياح
وباختياراته الفنية والجمالية، وفاءً منهُ لمنهجه المتميز، والمختلف في صوغ المتن النصي الحكائي والقصصي الموسوم بطابع التجريب والممانعة، المسكون بميل جارف لخلخلة الأساليب التقليدية للسرد القصصي، وخروجاً بالنص إلى عوالم خاصة مفتوحة على احتمالات الدهشة والمغامرة، وكمواصلة للحفر عميقاً في ذواتنا ولكُواته، إنها نصوص/ طبقـات تداخل فيهـا مـا هو نفسي واجتماعي و قصصي وسيري وشعري و إخباري…
أما لفظة المسافات، فهي تؤشرعلى حقيقة بادية، ولكنها غيرعادية، تتمثل في المسافات التي تفصل هذه النصوص من حيث الزمن، مسافات زمنية استطاع الكاتب أن يكثف فيها تجربته الحياتية، وأن يصقل تجربته الإبداعية، ومن حيث المكان، أماكن دافئة جعلت النصوص تمتلك دفقا شعوريا وإحالة على المسافـات. وأردد ما ذكره بعض النقاد: ]لقد دخل المؤلف في سباق المسافـات الطويلة مع الزمـن والمكان وهذه طبيعة الأدب[. من هنا يعتبر الكاتب محمد آيت عـلو كبسولة تدَّخِرُ كل الأسئلة المحرقة، أو” رادار” يلتقـط كل التفاصيل من على شاشة الإرسال النفسي والإجتماعي، إبداعهُ متنوعٌ ينصهر فيه ماهو نثري وشعري وسير ذاتي/مصورة للـذات، وانشطاراتها سواء في حزنها أوفي يأسها المرير..، وسرعان ما تتسامى لتشارك الآخرين التطهير ونشر الفرح الإنساني”.
لقد تعددت الطرق والسبلُ وبقي العنوانُ تابثا بشموخ يراقبُ القراء وهم يقاربون ويحللون كل على شاكلته للكشف عن دلالاته الممكنة، وهذا دليلٌ أكبر على تنوع وغنى هذا العنوان ومحتويات نصوصه.
لقد شغفت بهذه النصوص كثيرا، فكلما قرأتها إلا وتمنيتُ إعادة قراءتها، وعوض أن أقوم بتحليلها والتعمق في فحوى نصوصها، ارتأيتُ أن أقوم بقراءة عنوانها الذي نجح الكاتب وبشكل كبير في اختياره.
فبعدونا خلف مسافات الكتاب، رسخت كل مسافة بعينها معتبرة نفسها حياة ولت بماضيها الحلو والمر، على الرغم من أنها وجهان لعملة واحدة شعارها:” الوحدة والصبر والأمل”.
وكأنك وحدك، والحياة لا ما تشتهي
كأنها غم مطبق وأنين…
تسير على الطريق التي طالت
والقلب وجع وحنين
وبالطريق حكايات لا تنتهي.