الشاعر والكاتب والناقد جوتيار تمر: للكتابة قوانينها ومناهجها، والكاتب يمكن أن يصبح رمزاً لكن صفة لا تأتي بمجرد الكتابة
جوتيار تمر: علينا العمل وفق منظومة مدروسة لإيصال الرسالة الكُردية الإنسانية والتاريخية إلى الشعوب الأخرى
حوار مع الشاعر والكاتب والناقد جوتيار تمر
جوتيار تمر صديق، من مواليد 1972 محافظة دُهوك ـ إقليم كُردستان ـ العراق.
يحتفظ جوتيار في مخيلته ببعض الصور عن طفولته، لا سيما تلك التي تخص دراسته وحض والداه له على القراءة المستمرة وتحديد أوقات اللعب (اللعب بالكرة مع الأصدقاء)، وكيف كانت العقوبة تنتظره إذا ما تجاوز الأوقات المحددة للعب، أو التأخير عن العودة إلى البيت.
كما يحمل بعض الصور الأخرى التي تخص الكتب والمجلات التي كان والده يتداولها، فتركت في نفسه رغبة في معرفة ما تحتويها تلك الكتب، على الرغم من كونها أغلبها باللغة العربية أي ليست بلغته الأم، إلا أن دراسته منذ البداية كانت باللغة العربية.
أما الصور التي يحملها في مخيلته في مرحلة الشباب تختلف قليلاً لكونه انتقل من احدى الاقضية التابعة لمحافظة دهوك الى المدينة نفسها، حيث أصدقاء جدد ومعطيات أخرى تفرضها المرحلة العمرية من جهة، والدراسة من جهة أخرى، ولكن أهم ما في تلك الصور هي التي اختزلتها الذاكرة والمخيلة معاً حول الصراع الذي كان قائماً بين البشمركة (القوات الكُردية) وحكومة نظام البعث العراقي وصوت قذائف الهاون والرصاص ومن ثم الانتفاضة وبداية مجيء البشمركة حيث تركت هذه الصور أثراً كبيراً في مخيلته، ناهيك عن الهجرة المليونية فيما بعد، في عام 1991 التي عمقت الصور بشكل آخر، وجعلته كما بقية أقرانه أن يخوض تجربة مؤلمة جداً حتى أصبح بعدها يقارن ما حصل في حلبجة والأنفال بها(الهجرة المليونية).
جوتيار تمر الأب فهو طفل صغير، تلعب معه أيقونته الفريدة “تالا” بشكل ربما قد يستغرب منه من يجد جديته في التعامل مع الأمور بصورة عامة، وهذا ما خلق في الأساس شخصية جوتيار الإنسان، الذي ينظر إلى الأشياء بعين أخرى غير الظاهرة، ويحاول دائماً أن يقارنها بالممكن الوجودي الإنساني كي لا تتعارض مع إيمانه بكون الإنسان يجب أن يرسم مساره بنفسه دون فرضيات سبقية ودون إجحاف بوجوده، ولكن جوتيار الإنسان دائماً يجد نفسه مصدوماً من كون الإنسان نفسه يحترف صناعة وخلق ما يبيده ويدمره ويدمر أقرانه.
رحلة النشأة والتكوين الأدبي:
بدأت الرحلة منذ أن كنتُ في مرحلة المتوسطة ” الدراسة ” حيث محاولتي في قراءة الكتب وكذلك بعض الجرائد، ولدت رغبة لدي للكتابة أو لنقول التعبير عن بعض المشاعر التي تنتابني وكذلك تدوين بعض الأفكار التي غالباً ما كانت تؤرق ذهني، بدأت وقتذاك أقلد بعض الكتابات في تلك الجرائد، ومن ثم حاولت فرض أسلوبي والذي طغى عليه الوجداني في البداية وشيئاً فشيئاً بدأت الأفكار الغريبة عن المجتمع تخرج إلى الأفق، وبلا شك البيئة الخاصة بي خلقت مساحة واسعة للعمل الأدبي، حيث كانت الظروف المحيطة بنا تفرض علينا انطباعات خاصة حول المسارات التي نتخذها في الكتابة مع الصور الملتصقة حينذاك في المخيلة، إلا أن الطابع الوجداني كان الغالب، فالوالدة بالذات كانت ولا تزال مدرسة مليئة بالمشاعر الجياشة التي جعلتنا نتأثر بها كثيراً.
حال الأدب والثقافة في أجزاء كُردستان:
تحاول الرؤية الثقافية والأدبية في إقليم كُردستان ـ العراق مواكبة التحديثات الجارية على الساحة الكُردية العامة من جهة والعالمية من جهة أخرى، لا أنكر بأن المسارات أحياناً تتداخل وتتشابك في دائرة التقليد أو التكرار إلا أن الأمر يستحق الحديث عنه، لكونه (الإقليم) خرج من بيئة مضطهدة كما يعلم الجميع، ومر بالعديد من الكوارث والمآسي الإنسانية، ومع ذلك فإن الرؤية الثقافية والأدبية أراها تنتقل من مرحلة إلى أخرى وبشكل تتناسب مع الواقع العياني للإقليم.
إما عن إمكانية وجود اختلافات بين تلك الرؤية مع باقي أجزاء كُردستان، أراها أمراً وارداً في نواحي كثيرة على الرغم من وجود النواحي المشتركة، باعتقادي أن الفكر السائد في كل جزء لاسيما الفكر السياسي هو الذي يتحكم بمفهوم الثقافة والأدب، مع وجود المشتركات كالمسائل المتعلقة بالديكتاتوريات التي تحكم تلك الأجزاء والسياسات التعسفية تجاه الكُرد فيها، والحلم الكُردي، هذه الأمور مشتركة، ولكن الاختلافات الحاصلة تكمن في البنية الفكرية والسياسية لكل جزء وكيفية النضال وكيفية التعامل مع الأجزاء الأخرى، وهذه الأمور تشكل اللبنة الأساسية في الاختلاف.
وفيما يخص التواصل والنشاطات معهم (مثقفو وأدباء بقية أجزاء كردستان) هي في الحقيقة على أرض الواقع قليلة ولا تتعدى كتابة تقديم لديوان شعري لأحد الشعراء أو الشاعرات أو قراءة حول نص أدبي، أو مشاركة في حوار سياسي، ولكنها على الشبكة العنكبوتية موجودة ومستمرة.
يشرح مفهومه للحداثة في الشعر وعن بنية الشعر الكُردي قائلاً:
الحداثة الشعرية حسبما أرى هي إخراج الكلمة الشعرية من قالبها المتحجر المقيد وفسح المجال أمامها كي تؤثث عوالمها الخاصة لتكون وسيلة استبطان واكتشاف، ولتثير وتحرك وتزلزل وتهز من الداخل وما تختلج في الأعماق وتفتح ممرات الاستباق لها.
إما بنية الشعر الكُردي فإنها بين ماضيها الغارق في المؤثرات الدلالية الخارجية، وبين حاضرها الساعية لخلق مساحات من رؤى منوعة ومستحدثة بقوالب تنفي المزج اللغوي القديم وتبيح للواقع العياني وللمخيلة الخصبة أن تنتج أواصر الربط بين ماضيها وحاضرها لتفتح الآفاق أمام مستقبلها، أجدها يمر بمرحلة استباق واكتشاف، على الرغم من كونها ما تزال تتمحور ضمن دوائر الرصد الوجدانية العاطفية والملحمية ” الوطنية ” وقلما نجد خروجاً عن تلك الدوائر إلا إنها على العموم تعطي انطباعاً تجديدياً يمنحنا الثقة بها، ويعطيها في الوقت نفسه تميزاً لكونها تنمو ذاتياً على الغالب وتخلق مساحاتها الصورية والمشهدية والسردية وحتى البلاغية الدلالية ضمن الموجودات الحسية والعاطفية التي تُلم بها.
بداية مشواره مع القصة بدأت:
في الحقيقة مشواري مع القصة بدأت بما يسمى في النقد الحديث بالرواية القصيرة، والتي هي في بنيتها تشبه الرواية ولكنها ضمن هيكلها الحداثي لا تخرج عن دائرة القصة القصيرة.
والموضوعات التي بنيت القصص عليها، فإنها بدأت بالمخالجات والرؤى الذاتية بكل تصنيفاتها من وجدانية، نفسية، عاطفية، وكذلك من الوخزات الذهنية الفكرية المتقدة التي تبيح التجول في المعيقات الخارجة عن السائد كالخوض في المسائل الاجتماعية واللاهوتية والسياسية معاً ضمن دوائر مغايرة للسائد.
والقصة القصيرة جداً فهي الوخزة المكثفة التي يمكنها أن تعطي صاحبها مفتاح الولوج في العوالم الأدبية بقوة لكنها تعتمد على اللغة القوية والرؤية الثاقبة والتكثيف الممنهج، لذا أراها قفزة نوعية كما قصيدة النثر الحداثية.
حول الاختلافات بين الكتابتين المسرحية والقصصية يسهب في شرحه قائلاً:
قد تكون كتابة بعض الأجناس الأدبية الأخرى كالرواية مثلاً من حيث المبدأ أصعب من كتابة النص المسرحي، ولكن في الحقيقة أن الأخيرة أيضاً لها صعوبات كثيرة ومن طليعة تلك الصعوبات هي ازدواجية اللغة، وكذلك صعوبة التوفيق بين النص المسرحي المكتوب وبين اختيار الممثل الذي يمكنه أن يؤدي المكتوب بأداء يشبه التقمص المرن والمتميز، ناهيك عن كون النص المسرحي في طوره الإبداعي يخلق لدى الكاتب العديد من المشاكل، فالكاتب عليه أن يكون حاضراً ذهنياً في جميع مراحل الكتابة ويقوم في الوقت نفسه بالمقارنات اللازمة بين ما يكتبه ” الممكن ” وبين الواقع الذي يعيش فيه ” اللا ممكن ” فمثلاً من إحدى الصعوبات التي يواجهها المسرح في الكثير من الأماكن هي ما تتعلق بالحالة الاجتماعية لاسيما فيما يخص مشاركة المرأة وغير ذلك، لذا نجد بأن الكاتب دائماً ما يواجه تحديات ذاتية وأخرى خارجية قد تقيد حركته أثناء الكتابة.
والاختلاف بين القصة والمسرحية، فالقصة كما هو معلوم، نص أدبي يسرد فيه الكاتب أحداثاً معينة، تجري بين شخصين أو عدد من الأشخاص، يستند في قصِّها على الوصف والتصوير، مع التشويق، حتى يصل بالملتقي إلى نقطة تتأزَم فيها الأحداث وتسمى “العُقدة”، فيتطلع المتلقي معها إلى الحل الذي يأتي في النهاية، ويُشترط في القصة من الناحية الفنية أن تحتويَ على ثلاثة عناصر: تمهيد للأحداث، ثم عقدة تتأزَّم عندها الأحداث، ثم خاتمة يكون فيها الحل.
إما المسرحية: فهي نص قصصي حواري، يصاحبه مناظر ومؤثرات فنية مختلفة. ويراعى في المسرحية جانبان: جانب النص المكتوب، وجانب التمثيل الذي ينقل النص إلى المشاهدين حيًّا، وتتفق المسرحية مع القصة في بعض الجوانب وتختلف عنها في جوانب أخرى، فالعناصر المشتركة بين المسرحية والقصة: الحدث، والشخوص، والفكرة، والزمان والمكان.
والعناصر المميزة للمسرحية: البناء، والحوار، والصراع، ومع ذلك لا يمكن حصر جميع العوامل المتشابهة والمختلفة ضمن هذه الدائرة فحسب.
يؤكد بإن للكتابة قوانينها ومنهجها قائلاً:
لا تسير الفضاءات الكونية ضمن دوائر العبثية الفوضوية، فحتى العبثية نفسها وحسب ما ذهب إليه كامو(ألبير كامو كاتب ومسرحي وروائي فرنسي ـ جزائري) تستند على فكر ناضج، لذا فالكتابة يمكن أن تأتي من إحدى الفسحات التي ذكرتها، وقد تأتي من اجتماع أكثر من واحدة وقد تأتي بأسلوب جمعي شمولي، وهذا يعني بإن للكتابة أغراضها وأهدافها ووسائلها ومناهجها وقوانينها أيضاً، على الرغم من التيارات الداعية إلى رفع جميع القيود عن الكتابة، فأنها نفسها لا تستطيع أن تتجاوز أهدافها في رفع القيود وذلك مما يعني مهما حاول الإنسان ” الكاتب ” تجاوز المنطق الساعي لخلق هدف للكتابة فإنه يقع في دائرة الهدف نفسها الذي يحاول أن يتجاوز بها الأهداف القيدية الأخرى.
الكاتب يمكن أن يصبح رمزاً لكن صفة لا تأتي بمجرد الكتابة:
تعج الساحة الأدبية بالعديد من الكتاب على جميع الأصعدة، فمن الهاويين ومن المثابرين الساعيين لخلق مكانة لهم، ومن البارزين الذي خلقوا مساحات واسعة لوجودهم الفعال ضمن الأجناس والهياكل الأدبية، ولكن كوجهة نظر خاصة، إطلاق صفة الكاتب أو الشاعر لا تأتي بمجرد الكتابة أو نشر نص، لكونها (الصفة) تحتاج إلى معايير وتلازميات ترافق العملية الكتابية والإبداعية معاً، فعدم اتباع نهج ضمن منظومة أدبية وكذلك عدم الإلمام بالأساسيات المعرفية للكتابة والأجناس الأدبية قد يخلق هوة سحيقة بين مفهوم الكتابة وصفة الكاتب أو الشاعر.
والكاتب الرمز، بلا شك باستطاعته أن يكون أو يصبح رمزاً، فحين يوظف ويكرس إمكانياته وحياته لقضية ويصمد أمام جميع المعيقات والقيود فإنه في وقتها يفتح أمام قضيته أبواب الخلود ويتحول هو إلى رمز لتلك القضية.
كيفية اختيار النصوص النقدية:
هنا علينا ألا نتجاوز بعض الخطوط ذات العلاقة بموضوع الاختيارات النقدية قبل أن أخوض في موضوع من يلفت النظر، ربما تجد الشاعرات أكثر حضوراً وأنا سأتحدث عن تجربتي ولن أعمم، لكونهن أكثر جرأة في الطلب والسعي لإبراز أعمالهن، فالشعراء ” الذكور ” على الغالب يرى نصه وشعره أرفع من أن يكتب عنه مثلاً أي ناقد، لذا يبقى ضمن دائرته الفوقية تلك ولا يبحث عمن يقرأ ويكتب عن تجربته إلا ضمن حدود الفوقية نفسها، أي إلا إذا استطاع من إقناع ناقد له شهرته ومكانته وإلى غير ذلك.
إما الشاعرات فهن يدركن بإن المسيرة يجب أن تبدأ بكسر الحواجز والمعيقات الأساسية التي تواجهها كعنصر أدبي، فتبحث عمن يكتب عن نصوصها لتدخل دائرة الرصد الأدبي عبر النقد نفسه، وهذا ما يجعلهن بنظري أكثر حضوراً، ناهيك عن أمر آخر فأنهن يؤمنن بأن النقاد ليسوا كلهم نقاد أدب، بل ومن خلال تجاربهن أصبحن يؤمنن بإن الكثير ممن يدعون النقد لا يقدم لهن شيء دون مقابل، وهذا أيضاً يفسر بحثهن عمن يحترم وجودهن ويثقن به.
والشيء الملفت لنظر الناقد، بالتأكيد نظرياً يجب أن يكون النص هو الأساس للتفاعل النقدي والاختياري، ولكن هذا لا يمنع أبداً أن يختار الناقد، نص على الأساس الطلب أو المعرفة الشخصية على أن يلتزم الناقد بالأساسيات الممنهجة في دراسته، وشخصياً أرى أن النقد الذي يحاول أن يقتل الكاتب في نصه، بعيد كل البعد عن الرؤية الحداثية للنص الأدبي، لأنه لا يوجد نص كامل، فتجد دائماً هناك ما يشوب النص ولكن على النقاد التعامل مع ذلك بعين لا تحط من قيمة الكاتب فالنقد الحقيقي بنظري لا يبنى على محاولة عرض العضلات أثناء كتابة الدراسة النقدية أو القراءة النقدية، لكون النقد الحقيقي بنظري هو ما يمجد الفعل الإنساني الأدبي ومحاولة في إبراز مكنوناته الذاتية عبر تلك الدلالات التي قد تأتي ضمن دوائر النقد بصورة إيجابية أو قد يشوبها بعض الخلل.
معاينة النصوص النقدية:
أقرأ النص في أول الأمر وثم اكتب أهم الانطباعات التي تراودني أثناء القراءة وبذلك يتشكل عندي المسار الذي قد اتخذه في القراءة، ولذلك أعود للنص لاختار وأحسم المسلك أو المنهج الذي قد اعتمده في الدراسة والقراءة ومن خلال ذلك، اختار العينات اللازمة لإبراز تلك المعالم النصية التي احتاج إلى ذكرها سواء الإيجابية منها أو السلبية، ومن خلال المعاينة والدراسة والمتابعة والتفاعل مع الحراك النصي أضع النقاط على الحروف، فأشير إلى المبهر والمدهش والمثير والجدي والجميل والمعيق والسلس والخارج عن السرب والضعيف والمغاير والزائد والناقص ضمن منظومة تفاعلية تعطي لصاحب النص والمتلقي القدرة على الاستيعاب والفهم دون الاعتماد على الاصطلاحات التي قد تعيق الإدراك الصحيح للرؤية النقدية، وغالباً ما أحب المزج بين المدرسة البنيوية والنفسية في القراءات.
مفهومه لمصطلحي الناقد والمبدع:
الشمولية تعطي الناقد القدرة على خلق الكثير من الممرات الإبداعية ضمن الدوائر والأجناس الأدبية التي يعمل عليها فيستطيع أن يعطي لكل منها خصوصيتها النقدية، ولكن هذا لا يعني أن درجة الإبداع لا تأتي إلا بعد بلوغ أعلى الدرجات لكون المعايير التي تعتمد لاختيار أعلى الدرجات هي نفسها مثار نقد ونقاش بين الأوساط الأدبية، لذا اعتقد بإن المعيار يعتمد على نوعية العطاء الذي يقدمه الناقد وليس كمية العطاء، فالنوعية هنا يمكنها أن تعطي للناقد تلك الصفة الإبداعية العامة.
وما يثير من مقولة “الناقد شاعر فاشل” هنا سأقف. لأني لا أعلم بعد إذا كنت شاعراً فاشلاً أم لا…؟ مع إني لا أحب أن يصفني أحد بالشاعر، لكوني كَتخصص انجذب إلى التاريخ الفلسفي والخوض في الجدليات التاريخية أكثر من العمل الأدبي الذي غالباً ما أخوض في طياته للضرورة.
سر اهتمامه بالتاريخ:
كما قلت أنجذب وأحب التاريخ وسر اهتمامي به، هو كوني أراه يقربني للبشرية بصورة أعمق وأكثر، ويجعلني أقف على المساحات الترافقية للسعي البشري لخلق مسار غير سبقي لوجوديته، ففي التاريخ وحده يتعرف الإنسان على بداياته وعلى الوسائل التي ابتعها لخلق اسطورته الحالية والتي أصبحت تتحدى كينونته السبقية.
كما أن التاريخ أيضاً يجعلني أقف على تلك المسارات التي أخرجت الإنسان عن إنسانيته في الكثير من المراحل التاريخية، وبذلك يمكنني أن أجمع سعيه لخلق وجوديته، وبين المعيقات التي أخرجته عن طوعه ليتحول إلى مدمر لنفسه، فكما أقول دائماً الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع ما يدمره وينشر الخراب على خرابه الارضي ( القصد ان الانسان يصنع مثلاً السلاح ويستخدم السلاح في قتل الانسان نفسه)
الحيادية في كتابة التاريخ:
لا أنكر بإن الحيادية في كتابة التاريخ أصبحت أمراً مستعصياً، فقلما نجد من يتجرد ليكتب تاريخاً دقيقاً بعيداً عن الانحياز والتعصب لاسيما القومي والديني والمذهبي والطائفي، ولكن هذا لا يمنع أن التاريخ كعلم ومن خلال منهج البحث العلمي التاريخي استطاع من تنقية الكثير من الأحداث التاريخية وفق رؤية عملية محايدة، وبذلك انتصر التاريخ على كتابه، وهذا ما يجعل من التاريخ نفسه ذا حراك ديناميكي تقويمي يساعد على الفهم المتعدد للحدث الواحد، وعلى التأويل التعددي للحدث الواحد، ومن ثم البحث في المعطيات اللازمة لتحديد الفهم الأرجح للحدث ومن خلاله تجاوز عقبة القومية أو الانتصار لبني جنسه على حساب الحياد والتجرد.
إيصال رسالة الكُرد الإنسانية والتاريخية إلى الشعوب الأخرى وفق منظومة مدروسة:
لقد انتبهت إلى هذه الحالة منذ سنوات طويلة، ولطالما انتقدني أبناء قوميتي بأني اكتب باللغة العربية أكثر ما اكتب باللغة الكُردية، فكنت ومازالت أقول بإن الكُردي من المفترض إنه يعلم عن بني قومه ويسمع عن بني قومه أكثر من الآخرين، لذا علينا من يجيد اللغات الأخرى العمل وفق منظومة مدروسة بعيدة عن التعصب القومي لمحاولة إدراج العمل التاريخي للكُرد ضمن الاستدراكات العلمية والأدبية” الإنسانيات” التي ينتهجها كي يستطيع إيصال الرسالة الكُردية لجميع القوميات الأخرى التي تنظر إلى الكُرد بشكل مغاير عن ما هم عليه، وتاريخياً يوجد في كتب المستشرقين و” الكوردناس ” ونقصد بهم مع المستشرقين كل من كتب عن الكُرد من غير الكُرد، العديد من المعلومات الخاطئة عن الشعب الكُردي، لا سيما من حيث الدلالات القومية والانتمائية والجغرافية وحتى الدينية لا يمكن الخروج من تأثيراتها على الشعوب الأخرى إلا من خلال اتباع منهج أكاديمي لطرح الرؤية الصحيحة التي تقنع الآخرين وتجعلهم على اطلاع كامل بالتاريخ الكُردي.
واعتقد بأني من خلال بعض الدراسات، قدمت أكثر من موضوع تاريخي أكاديمي يساهم في خلق فهم صحيح لتاريخ الكُرد “التطور التدويني لظهور تسمية كردستان في المصادر التاريخية، آراء ومقولات حول الأصل الكُردي، مفهوم مصطلح الكوردناسي، تقسيم كوردستان ….” وبعض المقالات الأخرى التي تعطي انطباعاً خاصاً عن الشخصية الكُردية سواء السلبيات أو الإيجابيات منها. مع عدم الإنكار بأني في بعض المقالات اندفعتُ بصورة جعلتني أتجاوز عن الحياد أحياناً ولذلك لضخامة الضغوطات الأخيرة والتي أثرت على نفسيتنا.
أهم ما جاء في كتابان له “أمراء في الدولة الأيوبية” وكتاب ” الكورد القيمرية”:
في البداية أشكر دار تموز لمساهمتها في نشر مثل هذه الدراسات والكتب التاريخية التي تساهم في الوقوف على بعض ملامح التاريخ الكردي.
سأبدأ بالكُرد القيمرية باعتبار هذا الكتاب طبع أولاً:
القيمرية كانت إحدى القبائل الكُردية المقيمة بإقليم الجزيرة – حسب التقسيمات الادارية في العصر الاسلامي – وهاجرت على ثلاث مراحل، واندمجت بسرعة مع الأحداث على الصعيدين الداخلي والخارجي التي عصفت بالعالم الإسلامي، ففي خضم هذه المرحلة الانتقالية ظهر القيمريون وبرزوا من خلال مواقفهم وتنامي دورهم حيث شاركوا في الأحداث بشكل مؤثر وفعال أثناء العهد الأيوبي، وبعد سقوط الدولة الأيوبية برزوا في محاربة الاعتداءات الخارجية على ديار الإسلام ويظهر ذلك من خلال مشاركتهم في معركة عين جالوت ضد المغول، وكذلك مشاركتهم في صد الصليبيين.
ومن جهة أخرى، فإن المنشآت العمرانية التي شيدوها شاهدة على سمو مكانتهم وعلوها، وهي أجمالاً تفرض على الباحثين تقصيها، وتخصيص دراسات عنها.
إما كتاب “أمراء في الدولة الأيوبية”: فقد حاولت أن أركز على نظرة الدولة الأيوبية العميقة والمعاصرة للأحداث، فقد أدرك الملوك من البيت الأيوبي أن الاعتماد على الكُرد فقط سيشكل عائقاً أمام امتدادهم نحو المناطق الأخرى، وكذلك ستكون تحركات القبائل غير الكردية من العرب والتركمان خطراً ملموساً على أمن وسيادة الدولة، لذا فإنه كان من الضروري إسناد بعض المهام الخطرة والحساسة إلى أمراء غير الكُرد، حيث ساهموا بشكل أو آخر في توسيع المدارك السياسية للدولة من جهة، وأعطوا زخماً عسكرياً وقوة من جهة أخرى ، أمثال الأمير “جهاركس الصلاحي” و”جمال الدين بن يغمور” و”شمس الدين لؤلؤ” الذين شكلوا علامات فارقة في تاريخ الدولة الأيوبية من الناحية العسكرية والقوة التي تميزوا بها، وكذلك من الناحية الإدارية، حيث استطاعوا من خلال سير الأحداث إلى كسب ثقة السلطات الأيوبية، بحنكتهم السياسية، ونفاذ بصيرتهم، وقوة حضورهم في الأحداث، وفي الوقت نفسه كان هناك أمراء آخرين أمثال “زين الدين الحافظي” كانوا وباءً على الملوك والدولة حتى أن أمثالهم أثاروا تساؤلات كثيرة حول المعايير والمقاييس التي يتبناها بعض الملوك والأمراء المسلمين بصورة عامة وقتها في اختيار وزرائهم وأمرائهم.
أسباب تأليف الكتب المشتركة مع الآخرين:
لدي في الأساس تسع أعمال خاصة التي طبعت ورقياً والكترونياً.
إما الأعمال الأخرى فهي تأتي في الغالب وفق رؤية خاصة نتبناها فيما يتعلق بمزج الحضارات، ومحاولة التقارب بين الحضارات والقوميات، واعتبرها مدخلاً مهماً لتعريف الآخرين بنا ككُرد، لذا ولحد اللحظة لم أجد أبداً ما يشوب تلك الثنائيات ولا التشاركيات بالعكس تماماً وجدتها خلقت نموذجاً جميلاً للشخصية الكُردية بعين الآخرين لاسيما المحيط العربي.
أهم إنتاج الإبداعي للشاعر والكاتب والناقد جوتيار تمر:
تاريخياً:
ـ كتاب “الكورد القيمرية”
ـ كتاب “أمراء في الدولة الأيوبية
فضلاً عن الأعمال الفكرية والفلسفية مثل:
ـ كتاب “بشر يمتهنون صناعة الآلهة ”
ـ كتاب ” قراءات حول الإرهاب”
ـ كتاب “البركان الذي لا يخمد” قراءات في أوضاع الشرق الاوسط والقضية الكُردية
أدبياً:
ـ ديوان شعري ” سيثل – sepal”
ـ كتاب نقدي ” قراءات نقدية حول نصوص كردية مترجمة من الشعر الكردي المعاصر ” ترجمة ونقد
ـ مجموعة قصصية ومسرحية ” موت أكبر من موت ”
ـ كتاب ” قراءة في دوافع هلكورد قهار الشعرية وتنوع مصادره ”
فضلاً عن بحوث تاريخية منشورة في مجلات أكاديمية والعديد من الدراسات والمقالات المنشورة في الكثير من المواقع الالكترونية والمجلات المحلية.
في الختام:
الشكر موصول لكم على فتح هذه النافذة لي كي أستطيع من خلالها التقرب إلى الكتاب والأدباء والقُراء معاً، وبحق مثل هذه المساحات تعد ذات أهمية قصوى لنا ككُرد (بعيداً عن التعصب) ولكن كي نستطيع أن نوصل للمتلقي غير الكُردي رسالتنا وفكرنا وإنسانيتنا وتاريخنا …. وهذا لا يمكن تحقيقه بسهولة، ولكن من خلال هكذا الحوارات ومن خلال مواقع جدية كموقعكم بلا شك سيكون الأمر أسهل.
مرة أخرى أشكركم على هذه الفسحة، وأتمنى أن تكون إجاباتي بقدر اهتمامكم.
حوار أجراه: خالد ديريك