الذي حلَّ بالاقتصاد الدولي  بعد الحرب العالمية الثانية    – د. ماجد احمد الزاملي  

 

 

عرفت بداية السبعينات و بالضبط منذ 1973 جهود  مكثفة من جميع أطراف المجتمع الدولي لإعادة ترتيب العلاقات الاقتصادية فيما بينها و تصحيح الاختلالات الناتجة عن النظام الاقتصادي السائد من قبل. وتزايد إدراك ووعي الدول النامية بعد نجاح دول الأوبك بالتحكم في أسعار و كميات النفط  لتحقيق مصالحها منذ عام 1973، وبعد حرب أكتوبر واكتشاف أن لدى الدول النامية من الإمكانيات ما يؤهلها لتغيير هذا النظام لصالحها، حيث إن قرار الأوبك قد نقل لأول مرة – و لو لأجل محدود و بمناسبة سلعة واحدة- السلطة الاقتصادية إلى العالم الثالث و على صعيد آخر اتضح من انتصار الشعب الفيتنامي بعد حرب الثلاثين عاماً أن إستخدام القوة العسكرية لم يعد الوسيلة الفعالة لتأكد السلطة الاقتصادية. ولعل نتائج المرحلة الأولى الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى 1973 قد أبرزت الحاجة الشديدة إلى نظام اقتصادي دولي جديد و خاصة تلك النتائج المتعلقة بمدى الظلم الواقع على الدول النامية و التفاوت الذي كانت تتسع هوته بين الدول الرأسمالية والدول النامية، و اكتشاف أن استمرار تلك الأوضاع ليس في صالح الدول المتقدمة نفسها، بل و أدركت عناصر مستنيرة في الغرب أن الرخاء لا يمكن أن يستمر و أن السلام الدولي لا يمكن أن يستتب، إذا لم تؤخذ تطلعات شعوب العالم الثالث في الاعتبار. ودعت دول عدم الانحياز في مؤتمرها الرابع المنعقد في سبتمبر 1973 بالجزائر إلى إقامة نظام اقتصادي دولي جديد يتيح ظروف أفضل للتقدم الاقتصادي والاجتماعي لجميع البشرية و يعطي فرصا متساوية للنمو والتنمية لجميع أطرافه. ومند هذا التاريخ اهتمت الهيئات الدولية بهذا الموضوع. و خلال دورتها الخاصة لسنة 1974 المخصصة لمناقشة موضوع قضايا التنمية والمواد الأولية، المنعقدة بناء على طلب من الجزائر، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارين تاريخيين و يتعلق القرار الأول إعلان بشأن إقامة نظام اقتصادي دولي جديد والقرار الثاني يتعلق ببرنامج العمل لإقامة نظام اقتصادي دولي جديد. وهكذا تبلور شيئا فشيئا الإحساس بأن تعديل نظام العلاقات الاقتصادية الدولية الراهنة تعديلا جوهريا يقتضي تعديلات جذرية في إستراتيجية التنمية و السياسات الاقتصادية بل و الاجتماعية داخل الدول المعنية، و مؤدي ذلك هو أن البحث عن نظام اقتصادي دولي جديد يجب أن يتعمق و يمتد ليصبح بحثا عن نظام اقتصادي عالمي جديد. وجاء مؤتمر الحوار بين الشمال و الجنوب في ديسمبر 1975 و يعرف أيضاً بمؤتمر الأغنياء و الفقراء الذي عقد بباريس حول قضايا الطاقة و المواد الأولية و التنمية والشؤون المالية والديون، ثم مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية و التجارة الذي عقد في نيروبي بكينيا في مايو 1976، و طرحت في جدول أعماله قضيتين متصلتين، هما قضية المواد الأولية و قضية المديونية الخارجية للدول النامية، و فيما يتعلق بقضية المواد الأولية تقدمت الدول النامية بمشروع برنامج متكامل لأسعار المواد الأولية، يتلخص في إنشاء صندوق خاص للمحافظة على أسعار 17 مادة خام تمثل فيما بينها ثلاثة أرباع صادرات الدول النامية (فيما عدا البترول) على أن يخصص له حوالي ثلاثة مليارات دولار، و قد انقسمت الدول الرأسمالية المتقدمة حيال هذا الموضوع، فعلى طرف النقيض وقفت كل من الولايات المتحدة الأمريكية و ألمانيا الغربية و اليابان تعارض التدخل في قوى السوق وجهاز الثمن، شاهرة بذلك الأسلحة الخاصة بتقسيم العمل الدولي و مبدأ حرية العالم الثالث، بينما تبنت فرنسا موقفا وسطاً.

أما بالنسبة لقضية المديونية الخارجية، فقد اقترحت مجموعة السبع و السبعين، عقد مؤتمر دولي لهذا الغرض، تناقش فيه كل الجوانب المختلفة بهذا الموضوع، و توضح قواعد عامة للتخفيف من عبء المديونية على الدول النامية، و في الجانب الآخر، رفضت الدول الرأسمالية المتقدمة هذا الاقتراح و أصرت على التفاوض مع كل بلد مدين على حدة. و إزاء هذه المواقف المتعنتة من الدول المتقدمة لم يكن من الممكن الوصول إلى نتائج محددة فيما يتعلق بالجهود الدولية لمعالجة قضايا المواد الأولية و التنمية. و بالرغم من فشل هذا المؤتمر في الوصول إلى نتائج محددة إلا أنه شهد أكثر من أي وقت مضى، توحد جبهة الدول النامية، و لم تنجح الجهود التي بذلتها الدول الرأسمالية المتقدمة سرا وعلانية في تمزيق وحدة هذه الدول، و هذا إنجاز حقيقي، فالصراع لتغيير النظام الاقتصادي الدولي الراهن ,فهو صراع بين طرف قوي هو الدول الرأسمالية المتقدمة، و طرف ضعيف هو الدول النامية، و تكمن قوة الطرف الأول في توحيد صفوفه، و يرجع ضعف الطرف الثاني- بصفة رئيسية- إلى عدم توحيد صفوفه، و من هنا يمكن القول إن نجاح الدول النامية في توحيد صفوفها إزاء الطرف الأول، و اتجاه القضايا المطروحة على الساحة الاقتصادية العالمية، شرط ضروري، وإن لم يكن كافيا لنجاح الجهود التي تبذل لتغيير النظام الاقتصادي الدولي الراهن.

وقد شهد الاقتصاد العالمي منذ بداية السبعينات اتجاها نحو تكوين الكتل الاقتصادية وإنشاء مناطق للتجارة الحرة و الاتحادات الجمركية. و قد تسارع هذا الاتجاه في أعقاب الثمانينات مع إعلان برنامج إنشاء السوق الأوربية المشتركة الموحدة سنة 1992 و إنشاء سوق حرة للتجارة بأمريكا الشمالية سنة 1989 ضمت الولايات المتحدة و كندا و المكسيك أخيرا، و بذلك أصبحت الكتل التجارية الإقليمية تتقلد دور المحرك لتنمية التجارة الدولية، و تبيّن الإحصائيات أن حصة التجارة الخارجية لأهم التجمعات التجارية الإقليمية في قيمة التجارة العالمية لعام 1989 بلغت 96%. و هكذا أصبح الاتجاه الإقليمي المتزايد في التجارة الدولية يشكل وسيلة هامة للتصدي للأزمة التي يعيشها النظام التجاري الدولي بسبب انهيار دعائم اتفاقية بروتن وودز Bretton Woods منذ بداية السبعينات

و لقد رافقت ظاهرة الإقليمية في نمط التدفقات العالمية للتجارة ظاهرة تزايد وتيرة التقدم التقني و تنظيم الاقتصاد الدولي. لقد ساعد هذان العاملان ( الثورة التكنولوجية والتنظيم الاقتصادي) على إمكانية التخصص الجزئي في الفرع الواحد.

ونتيجة لذلك أصبحت أجزاء منفردة من فروع الإنتاج هدفاً للتخصص بدل هذه الفروع بالكامل، و قد أتيح تحقيق هذه الإمكانية إلى حد كبير بفضل العامل الثاني أي التنظيم الدولي للاقتصاد الذي عرف قفزة نوعية في تطور التعاون الإنتاجي الدولي، وتطورت بشكل لم يسبق لها مثيل الأشكال الجديدة للتبادل الدولي.و قد أدت الاتجاهات المعاصرة في التخصص إلى إدماج وثيق للاقتصاديات الوطنية بصورة مباشرة في عملية الإنتاج و هكذا فقدت الدول المتطورة استقلاليتها، و أصبحت تعتمد أكثر فأكثر على بعضها البعض و على بعض الدول النامية. فوجد هذا الإدماج تعبيراً موضوعيا له في الزحف الكبير لعمليات التكامل الاقتصادي الإقليمية. فارتفع مثلا نصيب السوق الأوربية المشتركة من الصادرات الرأسمالية العالمية خلال فترة 1950 /1978 من 27% إلى 30% و يمثل التبادل بين بلدان هذه السوق حوالي 5/1 حجم التبادل التجاري العالمي (ماعدا الدول الاشتراكية). و تعزز هذا الاتجاه أيضا بإتقان تنظيم التجارة الخارجية من الاحتكارات الدولية المنتشرة عبر أنحاء العالم و المرتبطة مع بعضها البعض و التي تشكل إمبراطوريات اقتصادية حقيقية حلت محل الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة.و بواسطة هذه الأشكال الجديدة لتنظيم الاقتصاد الدولي وفق التقدم التكنولوجي، أصبحت تؤمن الدول المتقدمة مصالحا و سيطرتها على التجارة الدولية خاصة تجارة المواد المصنعة أي المجال الذي يمنح المزايا الرئيسية المرتبطة بالثورة العالمية التكنولوجية و الأشكال الجديدة للتجارة التي تنبثق عنها. و هكذا أصبح التبادل بين الدول المتقدمة يمثل 3/2 تجارة السلع الصناعية، أما صادراتها من هذه السلع للدول النامية بلغ 4/1 من إجمالي التبادل الدولي.

و نتيجة هذه التغيرات هي استيلاء الدول الرأسمالية الرئيسية و احتكاراتها على أهم ميادين التجارة الدولية، و ذلك بواسطة سيطرتها على ميادين الإنتاج التي أصبحت تخلق مزايا نسبية جديدة بفضل زيادة وتيرة التقدم التكنولوجي. بينما لم يبق أمام البلدان النامية إلا أن ترضى بإمكانيات مشكوك فيها للتنمية من خلال النمو الكمي في صادرات المواد الخام، و هو المجال الذي لم يمسه التقدم العلمي التكنولوجي إلا قليلا نسبيا، باستثناء مجموعة صغيرة فقط من الدول النامية التي استطاعت أن تحتل مكانا في هذا التدويل للإنتاج، و حققت جزئيا نموا في تجارة السلع الصناعية، و هذه الدول هي: كوريا الجنوبية، هونكونغ، سنغافورة، البرازيل، المكسيك، الأرجنتين و ماليزيا. وخلال السبعينات صَدَّرَت هذه الدول 70% من السلع المصنعة إلى الدول المتطورة لكن الجزء الأكبر من هذه الصادرات الصناعية لا ترتبط إلا قليلا بالثورة التكنولوجية. و من تم فقدت مزاياها النسبية بالنسبة للبلاد المتقدمة. و تتشكل هذه الصادرات بصورة رئيسية من الألبسة الجاهزة و الأقمشة و المنتجات الغذائية، و لم تشكل المكائن و المعدات إلا 4/1 هذه الصادرات بالقيمة حتى هذه المنتجات الأخيرة ما هي إلا تجميع للقطع التي تصنع في البلاد المتقدمة. إن ظهور إنتاج مثل هذه السلع المصنعة في الدول النامية لا يرتبط بتصنيعها بقدر ما يعكس إستراتيجية المصالح الأنانية للشركات المتعددة الجنسيات التي تعمل على إنشاء هذه الصناعات في البلاد النامية للتمتع بالمزايا النسبية لليد العاملة الرخيصة التي فقدتها داخل بلادها بسبب ارتفاع الأجور. و بالموازاة ركزت الدول المتقدمة جهودها في الصناعات الأكثر استعمالا لرأس المال التكنولوجي حيث تكون المكاسب عالية، و تخلت عن فروع الصناعات ذات المكاسب الضعيفة بتلوث البيئة. فعلى صعيد التدفقات التجارية، عرفت أواخر السبعينات و بداية الثمانينات نموا في التجارة الدولية يفوق النمو في الإنتاج الدولي، كما تميزت هذه التجارة بالتبعية المتبادلة للأقطاب الرئيسية و بعض دول المحيط بالتمركز في مناطق جغرافية معينة. و اتسم تطور التجارة الدولية بين الدول المتقدمة و الدول النامية باللا تكافيء.

و تجدر الإشارة إلى أنه في السبعينات مع الاستقلال السياسي لمجموعة كبيرة من دول العالم الثالث ساد شعار التصنيع و التنمية و رفع مستويات المعيشة في البلاد النامية. و قد استطاعت هذه الدول في البداية أن تتحكم في المشروعات الاستثمارية و أن ترفع من قدراتها التحويلية الذاتية عن طريق تعبئة الموارد المحلية و الرقابة على ثرواتها الوطنية. إلا أنه مع ازدياد طموحات هذه الدول في التنمية بدون دراسة دقيقة و علمية الاختيارات التي طبقتها لتحقيق هذا الهدف، و محافظة الرأسمالية العالمية على أهم مواقعها بهذه البلاد، بقيت هذه الأخيرة مع استثناء بعض التغيرات الطفيفة تحتل نفس الموقع في التقسيم الدولي للعمل و ذلك بتخصيصها دائما في إنتاج و تصدير المواد الأولية مقابل استيرادها للسلع الاستهلاكية و المصنعة من الدول الرأسمالية. و هكذا بقيت الأسس الموضوعية لعلاقات الاستغلال و التبعية بدون تغيير، و هي العلاقات التي أفرزت التبادل اللامتكافئ الناتج عن تدهور شروط التبادل التجاري في المدى الطويل لغير صالح الدول النامية الشيء الذي أدى إلى إضعاف القدرة الذاتية لهذه البلاد على تمويل مشروعاتها الاستثمارية بسبب النزيف الكبير لفائضها الاقتصادي إلى الخارج. و لا يجوز أن ننسى كذلك أن هذه البلاد لم تتمكن من الحصول على المعونات والقروض التي كانت تتطلبها مشاريعها الاستثمارية الصناعية بسبب الموقع الضعيف واللامتكافئ لهذه البلدان في العلاقات الاقتصادية الدولية و بالخصوص موقعها في المنظمات التجارية و المالية الدولية. و مهما يكن، فإن هذه الدول استطاعت أن تتحكم في تسيير مديونيتها خلال عقدي الخمسينات و الستينات، بحيث لم تكن أعباء خدمتها ( الفوائد + الأقساط) تسبب حرجا شديدا لها، و لم تكن تتجاوز هذه الديون 75 مليون دولار في الستينات. و ذلك يرجع أولا إلى الاستقرار النسبي للنظام الاقتصادي العالمي و ثانيا إلى استطاعة هذه البلدان على مواجهة خدمة الديون و إدارة عجز موازين مدفوعاتها من خلال التحكم في الرقابة على الصرف و في قطاع التجارة الخارجية. بيد أن هذه الأساليب سرعان ما فقدت فاعليتها منذ بداية السبعينات حينما بدأت الفوضى تعم نظام النقد الدولي و حينما خيم الكساد الاقتصادي على الدول الرأسمالية الصناعية.

فهذه السمات الجديدة، التي رسمت الملامح الأساسية لصورة الاقتصاد الرأسمالي في عقد السبعينات، أثرت بشكل شديد على حالة البلاد المتخلفة و دفعت ديونها الخارجية إلى تطور مفزع لا مثيل له في العلاقات النقدية الدولية. و الواقع أنه خلال النصف الثاني من السبعينات و إلى أوائل الثمانيات كانت إمكانية القروض متوفرة و إن كانت شروطها صعبة. فكانت الأسواق العالمية النقدية، خاصة قصيرة الأجل، تسمح بتلبية حاجيات البلاد المتخلفة من الاقتراض المتزايد بسبب الإفراط الشديد في السيولة الذي أصاب هذه الأسواق من جراء ما راكمته من رؤوس أموال في سوق الأورو – دولار، استطاعتها في إدارتها تدوير الفوائض النفطية بعد الصدمة البترولية الأولى. و ساعد أيضا على هذا، طبيعة التشكيلات الاقتصادية و الاجتماعية السائدة في البلاد النامية و التي جعلتها تفضل اللجوء إلى الاقتراض الخارجي كمخرج رئيسي للعجز في موازنتها الجارية و التخفيف من أزمتها الاقتصادية. كما أن سهولة الحصول على الموارد المالية في ظل هستيريا الإقراض العالمي شجعت المسئولين في البلاد النامية على تشجيع الواردات و خاصة تلك الخاصة بالاستهلاك الترفي، عدم تطبيق سياسات اقتصادية ناجعة تواجه بها العجز في مواردها المالية. كما أوهمت هذه والقروض هؤلاء الحكام. بإمكانية مواصلة التنمية بدون الوقوع في مشكلة السداد في المديين القريب و المتوسط و على العموم فإن المديونية الخارجية للبلاد النامية عرفت تطورا سريعا في أحجامها و خاصة منذ النصف الثاني من عقد السبعينات. لقد خلقت هذه الأعباء المرتفعة للمديونية صعوبات كبيرة للدول النامية، خاصة تلك التي لم تستطيع تسديد مستحقاتها في أوقاتها المحددة، في الحصول على قروض جديدة تستعملها في إنعاش اقتصادياتها التي أصبحت تعاني انكماشا مستمرا. وصلت هذه الصعوبات درجة الانفجار سنة 1982 عندما أعلنت بعض دول أمريكا اللاتينية توقفها عن تسديد مستحقاتها, الأمر الذي أدى إلى انخفاض محسوس في الائتمان المصرفي الدولي الذي يشكل المصدر الرئيسي للسيولة الخارجية المقترضة للبلاد النامية.

ترتب عن حصار المديونية المضروب على البلاد النامية سقوط هذه الأخيرة في فخ إعادة الجدولة للديون. و تعني إعادة جدولة الديون إقرار الدول المدينة بأنها عاجزة على تسيير أمورها لوحدها و بالتالي تسمح لتدخل سلطات الدول و البنوك المقرضة لفرض شروطها المجحفة على هذه البلاد. والاتفاق على إعادة الجدولة ينص على أنه يجب على البلد المدين التقيد بجملة من السياسات و التوجهات الاقتصادية و الاجتماعية، و تكون هذه السياسات على شكل تعهد في ” خطاب النوايا المتبادل بين البلد المعني و صندوق النقد الدولي ويخص الإنفاق العام و السياسة الاستثمارية و التجارية الخارجية.

نستخلص مما سبق أن عقد الثمانينات عرف أزمة اقتصادية عالمية لم يسبق لها مثيل. هذه الأزمة أدت إلى نكسة عملية التنمية في البلاد النامية. و كان لتردي البيئة الاقتصادية الخارجية مسؤولية كبيرة في هذه الوضعية و ما نتج عنها من تدهور في مجالي التجارة و التمويل الخارجي. و قد فرضت هذه الأزمة تكاليف ضخمة على البلاد النامية مما أدى إلى تفاقم مديونيتها و انهيار تنميتها، الأمر الذي جعلها تخضع للشروط القاسية و التدخلات السياسية و الاقتصادية في شؤونها الداخلية من المنظمات و الهيئات الدولية المالية و التجارية.

لهذا ينبغي على الدول المتقدمة أن تأخذ بعين الاعتبار الترابط الاقتصادي العالمي وتعتبر أن مشاكل العالم النامي جزء لا يتجزأ من المشاكل العالمية. و بدون شك أن انتعاش التنمية بالبلاد النامية سيساعد على نحو فعال في إنعاش الاقتصاد العالمي وبالتالي في حل المشاكل الاقتصادية الدولية.لما كانت جملة من الملامح و التطورات الجديدة التي طرأت على طبيعة و هيكلة النظام العالمي قد اتضحت معالمها بدءا بسقوط المنظومة الشيوعية و اندلاع حرب الخليج الثانية مع مطلع التسعينات في القرن السابق. و ما تلا ذلك من نهضة عارمة في نظم الاتصال و المعلومات و بروز قوى لتكتلات اقتصادية عملاقة، فقد بات من الضروري على أية دولة في هذا المحيط المتلاطم بأمواج التحدي المتنوعة التكيف مع إرهاصات هذا الواقع الجديد و ذلك من خلال وقفة جادة مع الذات لمراجعة و تقييم جميع الفرص المتاحة أمامها و كذلك القيود المفروضة عليها لاجتياز هذه المرحلة بأكبر نجاح ممكن، سواء من خلال إمكاناتها الفردية أو عبر التنسيق و التعاون مع الدوائر الإقليمية و العالمية المحيطة بها. و في ظل هذه الظروف التي تشهد سلسلة متواصلة من التغييرات الكبيرة على مختلف الأصعدة محليا و إقليميا و عالميا وسط حيز مكاني و جغرافي آخذ في الانكماش و التقارب، و الذي استقطب أيضا تعريفات جديدة كالعولمة أو الكوكبة، تواجه منطقة الخليج تحديات وصعوبات حقيقية تحتم على دولها منفردة و مجتمعة المبادرة الفورية إلى صياغة مسارات جديدة تتفق مع طموحاتها و تطلعات شعوبها من جهة، و مع إمكانياتها ودورها الارتكازي في سيناريوهات محتملة لطبيعة و هيكلية النظام العالمي من جهة أخرى. إن الدول مطالبة، اختيارا أو قسرا، خلال فترة التحول التاريخي إلى الألفية الثالثة، بتحديد الدروس المستفادة من انحيازاتها السابقة و كذلك الإخفاقات التي اعترت مسيرتها التنموية محليا، و خطواتها نحو تفعيل و ترجمة حلم التكامل الاقتصادي إقليميا كخيار لا يقبل المساومة أو التسويق في مواجهة تحديات العولمة القادمة بقوة و إصرار، و الدوران في فلك النظام العالمي الجديد بثبات و ثقة و اقتدار.

و لرصد الآثار الناجمة عن التحويلات المثيرة التي تشهدها المنظومة العالمية منذ العقد الأخير في القرن العشرين و أطرادها مع مطلع الألفية الجديدة، خصوصا في البعد الاقتصادي، على إقليم الخليج، لا بد من شرح أبرز ملامح ظاهرة العولمة و تفسيراتها العلمية و النمطية و الأركان التي تقوم عليها إضافة إلى أهم آليات عملها في الوقت الراهن و تعود بدايات استخدام مصطلح العولمة إلى عقد السبعينات من القرن العشرين، وتحديدا في عام 1970 عندما أصدر مارشال مال لو هان كتابه المعنون “حرب في القرية الكونية”، تبعه كتاب زنبينو بريزنسكي، مستشار مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، بعنوان “أمريكا والعصر الالكتروني”. فقد بين الكاتبان الاتجاه الذي بدأ يفرض نفسه على صعيد العلاقات الدولية فيما يتعلق بالتأثير المتبادل بين مختلف دول العالم بفضل تقدم وسائل التكنولوجيا والمواصلات .وما لبثت مفاهيم العولمة و ملامحها الأولية تغزو المحافل الدولية في منتصف السبعينات من خلال الحديث الذي قاده معسكر دول العالم الثالث عن النظام الاقتصادي العالمي الجديد، و على مدى عقد كامل افتتحت الدول النامية الدورة الاستثنائية السادسة للجمعية العامة للأمم المتحدة في مايو 1974 ملف بوقايتها من آثار العملقة الاقتصادية العالمية التي يقودها العالم الصناعي و ذلك عن طريق تعزيز سيادة الدول على مصادر ثرواتها الطبيعية و الاهتمام أكثر بالدول النامية عبر دعم و مساندة مسيرتها التنموية والعمل على تنظيم التجارة الدولية و إصلاح النظام النقدي العالمي بما يحقق أكبر قدر من العدالة لصالح دول العالم الثالث. و استمرت هذه المطالب بكثافة عبر منابر دولية أخرى مثل المؤتمر الوزاري الدولي لدول دعم الانحياز الذي عقد في ليما 1975، و مؤتمر القمة الأول لدول الأوبك في الجزائر، و مؤتمر داكار حول المواد الأولية في مارس 1975 ثم الدورة الاستثنائية للأمم المتحدة في سبتمبر 1975، و أخيرا مؤتمر الأمم المتحدة الرابع للتجارة و التنمية في مايو1976 لقد ساهم تردي الأوضاع الاقتصادية خلال عقد الثمانينات في التشكيك في قدرة النظام الاقتصادي العالمي على تحقيق النمو المستمر الأمر الذي أضعف وتيرة العولمة.

و ليس من المستغرب أن تكون المصطلحات الجديدة مثل “العولمة ” أو ” الكوكبة” أو “الأقلمة” أو “القرية الصغيرة مختزلة و مختصرة في كلمة واحدة كتعبير عن حجم الاختزال والتقارب الكبير الذي أخذ يربط كل ما على الكرة الأرضية دولا كانت أم تنظيمات إقليمية وعالمية، شركات أم أفراد و جماعات.

العولمة هو مفهوم يقصد به و بصرف النظر عن تعريفاته المتعددة، وصف خصائص المرحلة الراهنة من مراحل تطور العلاقات الدولية و ليس طرح نظرية جديدة أو منظور جديد لفهم آليات هذا التطور، و هي مفهوم مركب يعني أساسا بدراسة طبيعة التطورات التي طرأت على العلاقات الدولية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية والسياسية في المرحلة الراهنة و أثر ذلك على اتجاهات هذا التطور في المستقبل.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في سنة 1989 و سقوط جدار برلين. بدأت تتضح معالم مرحلة جديدة للنظام الاقتصادي العالمي دفعت بالباحثين خلال عقد التسعينات بالتخلي عن استخدام مفهوم النظام الذي ينطوي بالضرورة على آليات و قواعد واضحة و محددة. يهتم بدراسة التغيرات في العلاقات بين داخل أطرافه، لصالح مفهوم العولمة الذي يبدو أكثر حيادية في ظاهرة و أكثر غموضا في الوقت نفسه. غير أن هذا الحياد لا يخفي البعد الهيمني الكامن فيه و الذي يهدد الدول التي ترفضه بالزوال و الانقراض. وهكذا بدأت تظهر مند إعلان الرئيس بوش في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي في مارس 1991 أن حرب الخليج كانت المحك الأول لقيام نظام عالمي جديد يوصف بالعولمة لا زال في طور التكوين و التشكيل وقد تحدد معالمه وآلياته و أبعاده و مركزه وأطرافه في السنوات المقبلة. عرفت المرحلة الراهنة مجموعة من التغيرات الجذرية في النظام العالمي عموما و النظام الاقتصادي العالمي خصوصا، تنبأ عن بداية قيام نظام اقتصادي معولم يتميز بمعالم و اتجاهات تختلف عن تلك السائدة من قبل.

أصبح العالم يتحكم به اتجاهان مترابطان و إن كانا منفصلين، هما: العولمة والتحرير الاقتصادي. و هذان الاتجاهان ماضيان في تبديل الظروف، و تشكيل السلوك الاقتصادي ، على مستوى الأعمال، و التجارة في العالم و عبره، وأصبحا أكثر التصاقا و تأثيرا بمسارات الاقتصاد الوطني و الإقليمي و العالمي بحيث أصبح نجاح و تقدم الدول و التكتلات يقاس، بل و يرتبط بمدى المشاركة أو الانخراط بمسارات هذين الاتجاهين.لا بد من الإشارة هنا، إلى أن اتجاه العولمة، الذي أصبح سائدا بل مسيطرا على العالم حاليا، لم يكن وليد الصدفة. و إن عودة الحلم الذي رافق الإنسان المهيأ والمتطلع والساعي، منذ القدم، لتوسيع مداه، في التنقل و الاتجاه، و الاستثمار والاستغلال والاستفادة و الإقامة، و نقل الثروات و تحقيق الأرباح و تأمين الأسواق و فتح آفاق أوسع…إ….ألخ، أصبح ممكنا نتيجة لتفكك مجموعة الدول الاشتراكية، و تراجع مفهوم الاقتصاد المركز أو الموجه – ليحل مفهوم اقتصاد السوق، و اعتماده كأداة أساسية للتنمية، و بكل مكوناته و أدواته ومؤسساته وأهدافه و نشاطاته المعتمدة. و هذا المفهوم الذي تمدد في مجمل الأرجاء أصبح ينظر إلى العالم على أنه سوق واحدة، و بالتالي يحق له التجول في كل أجزائها والاستفادة منها. و هو بذلك يمثل و يجسد تصورا معتمدا وطموحا أكيدا، لدى شريحة كبيرة من الدول التي كانت تقود و تدافع عن مبادئ الاقتصاد الحر، وتعطي لقطاع الخاص دوره الرائد و الحساس . انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، و ما له من دلالة اقتصادية في وجود قطبية اقتصادية واحدة و خاصة بعد انضمام معظم دول المعسكر الاشتراكي سابقا إلى المؤسسات الاقتصادية العالمية. و الاتجاه إلى غلبة إيديولوجية اقتصادية (وسياسية) جديدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، بانتصار المعسكر الرأسمالي وبالتالي انتصار اقتصاد السوق و آليات السوق و الليبرالية السياسية.

الاتجاه إلى عولمة الاقتصاد على نطاق كل أطراف الاقتصاد الدولي، حيث يتحول العالم إلى قرية صغيرة محدودة الأبعاد متنافسة الأطراف بفعل ثورة التكنولوجيا والاتصالات، و تتمثل العولمة في نهوض إطار أعمال منظم عابر للقوميات يؤدي إلى عولمة الاقتصاد، بما في ذلك الدفع نحو توحيد و تنافس أسواق السلع و الخدمات و أسواق رأس المال و أسواق التكنولوجيا و الخدمات الحديثة. و بالتالي تحول العالم إلى كيان موحد إلى حد بعيد من حيث كثافة الاتصالات والمعاملات. و بالتالي فإن ظاهرة العولمة بدأت تنتشر على كافة المستويات الإنتاجية والتمويلية والتكنولوجية و التسويقية والإدارية، مع الإشارة إلى أن العالمية ترتبط بعولمة أو عالمية الاقتصاد القومي ، وبنفس الدرجة عولمة أو عالمية المشروع من منطلق السعي لاقتناص الفرص و تكبير العوائد.

 

من خلال إلقاء نظرة شاملة على الأوضاع العالمية، يمكن القول والملاحظة، أن العالم أصبح أكثر غنى من ذي قبل، و أن الرقي التقني أصبح أكبر من ذي قبل و أكثر انتشارا، و إن الفرو قات الاقتصادية أصبحت أكثر حدة و شدة مما كانت عليه و إن توزيع الدخل العالمي أصبح أقل توازنا و أقل عدلا، وإن هنالك هوة كبيرة و كئيبة مسيطرة على العالم، من المحتمل أن تمثل تهديدا جديا للنمو المتحقق و التطور المستمر مستقبلا. في مقابل ذلك يمكن الملاحظة أن بلدان العالم أصبحت تتوزع بشكل عام، على النحو التالي:

1- الدول الصناعية المتقدمة، التي التزمت بمبادئ الاقتصاد الحر سابقا و دافعت عنه وعملت على نشره، هذه الدول هي التي تقود التطورات العالمية و تصيغها بالشكل الذي يتناسب معها. فهي تمتلك مصلحة أكيدة و كامنة من تعميمها، نشرها و اعتمادها من قبل أكبر عدد ممكن من البلدان، فهذه الدول قد هيأت ذاتها مسبقا، و هي بالتالي مستفيدة منها و معتمدة عليها كمحرك و دافع لتفعيل مداخليها الاقتصادية و تنشيط مؤسساتها القائمة من خلال استغلال الفرص و الإمكانيات القائمة في العالم، بعد أن تمكنت من اكتساب الخبرة من التكتلات الاقتصادية الكبيرة التي أقامتها و منذ حين و تمكنت من إقامة الوسائل التي تتيح لها الاستفادة من الفرص عالميا من خلال تقنيات حديثة تم التوصل إليها و استخدامها بفعالية. ولا بد من الإشارة أنه رغم الفوائد الاقتصادية الأكيدة المتحققة لهذه الدول إلا أن هنالك بوادر تذمر مجتمعي من الانعكاسات السلبية على الوظائف و العمل داخل بعضها.

2- الدول الصناعية الجديدة، التي تمكنت من إقامة قاعدة صناعية تصديرية هامة وأحرزت تطورات عديدة بفضل عوامل عديدة و كثيرة. هذه الدول استوعبت خلفيات عملية العولمة، و هي تعمل لتأمين مكاسب إضافية من خلال الانخراط و المشاركة الواسعة بالتطورات العالمية الجارية، و هي الآن تواجه منافسة قوية من الدول السابقة كما أنها تمثل منافسا هاما لها.

3- الدول النامية التي تعاني من مشاكل انتقالية و اجتماعية كبيرة، و هذه الدول في معظمها ما تزال تصارع و تتأثر بالتطورات العالمية المتسارعة. و كل هذه القوى والاتجاهات شكلت هي و غيرها عملية الانتقال للنظام الاقتصادي العالمي الجديد – في المرحلة الحالية- و الذي يجب الاقتراب أكثر من تحليل مكوناته و تحديد خصائصه وملامحه، و التعرف على تحولاته وتحدياته، وقضاياه التي بدأت تتحدد في مجال التجارة الدولية، و تمويل التنمية الاقتصادية، والنظام النقدي، و التصنيع و نقل التكنولوجيا، والممتلكات العامة للبشرية والحفاظ على البيئة و غيرها.

و لا عجب في هذه المرحلة أن تظهر عدة مصطلحات تعبّر في رأينا عن ملامح المرحلة الحالية، بل و المستقبلية التي تمر بها عملية التحول نحو إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد مثل مصطلح العولمة أو الكوكبة أو الشمولية.