صفحات سوداء … انقلاب شباط 1963..الأسباب والنتائج –  عبد الخالق الفلاح

إن الرغبة في الثأر والانتقام واستخدام القوة المضادة مقابل العنف من قبل القوة السياسية المختلفة والتي كانت تربطهم جبهة عمل مشتركة للخلاص من النظام الملكي  قبل ثورة تموز، لقد حكم الإمبرياليون عن طريق بعض الأحزاب الرجعية وعلى رأسهم ( البعث والقوميين العرب) وهناك عبارة مشهورة تنسب لعلي صالح السعدي أمين سر القطر لحزب البعث في العراق عام 1963، كثيرا ما ذكرت هذه العبارة حتى أصبحت من المسلمات التاريخية،يقول فيها “لقد جئنا إلى السلطة بقطار أمريكي” دون أن نقرأ مصدرا يوثقها تاريخيا، وإنما قيل الكثير عن هذه المقولة اعتمادا على النقل الشفاهي، وجاء على لسان خالد علي الصالح عضو قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي 1959-1975 في مذكراته المعنونة (على طريق النوايا الطيبة) ان الحكومة الامريكية ابدت استعدادها الى تقديم المساعدات المالية والعسكرية لدعم حزب البعث العربي الاشتراكي ضد حكم عبد الكريم قاسم في العام 1959، ونقلت تلك الرغبة عن طريق طالب شبيب عضو القيادة القطرية للحزب 1958-1963،” في مقابلة للباحث البريطاني بينروز مع هاشم جواد وزير خارجية العراق اكمد الاخير للباحث البريطاني انه كان على علم بوجود نوع من التواطؤ بين المخابرات الامريكية والبعثيين، وفي اشارة اخرى للباحث نفسه ان موظفين عراقيين موثوق بهم ومن ضمنهم بعثيون قد اكدوا له ان المخابرات الامريكية قد تعاونت مع حزب البعث للاطاحة بعبد الكريم قاسم وفضلا عما تقدم فقد ذكر زكي خيري عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ان السفير الامريكي في بيروت كلف احد اقارب عبد الكريم قاسم بتحذيره من مغبة التوقيع على مسودة قانون رقم 80″ وما ذكره الملك حسين في السابع والعشرين من ايلول 1963 الى ضلوع المخابرات الامريكية بتقديم المساعدات للبعثيين لغرض تسلم السلطة في الثامن من شباط 1963″،والحكم بالموت على الزعيم عبد الكريم قاسم وهو عسكري عراقي عرف بوطنيته ولكن شابة تلك الفترة المزيدة من الأخطاء كان للمعارضين والمؤيدين دور في المساهمة فيها والذي كان يسميه معظم الشعب العراقي باستثناء اعدائه في الشارع ووسائل الإعلام آنذاك بـ”الزعيم الأوحد” وتفرده في محبة الفقراء والمساهمة في بناء الكثيرمن المرافق الحيوية من مدارس ومستشفيات ومعامل انتاجية ضمت الالاف من الايدي العاملة ودور رعاية ومؤسسات حكومية ..الخ رغم قصر الفترة الزمنية لحكومته  والتي تتجاوز 4 سنوات وستة أشهر و لازالت اثارها شاخصة في جميع محافظات العراق .و غابت عنه التجربة السياسية في ادارة الحكم التي كانت تحتاجها الفترة تلك ،رغم ذلك كانت نهاية محزنة له ،فمنذُ اللحظة التي قاد فيها ثورة 14 تموز ضد النظام الملكي المرتبط بهم ، قد حاولوا اغتيال الثورة في أيامها الأولى، بالتدخل العسكري المباشر،،

واستغلوا إعلامهم المضاد الأخطاء التي حدثت في الموصل اثر الاطاحة بالعملية التآمرية الخبيثة للشواف ومجموعته “بعد القيام بأعمال العنف في الموصل وكركوك على أعقاب الحركة التأمرية العسكرية المسلحة ومظاهرها تدل على أنها كانت عملاً لم يدرس بنضج وأنها جرت بتخطيط سيئ دون حسابات دراسة المرحلة والشارع ، كما ان المساعدات التي كانت من المؤمل ارسالها لهم تأخرت عن موعدها مثل محطة البث التي قدّمتها الجمهورية العربية المتحدة للمتآمرين عادت للبث على الموجة القصيرة وصلت متأخرة وفي حالة سيئة ولم تبدأ العمل على الهواء إلا بعد الساعة التاسعة صباحاً،ونفذت المؤامرة دون علم المجموعة المشاركة من  ضباط بغداد .

اما مقاومة انقلاب 8 شباط الاسود فقد كان للكورد الفيلية الى جانب الكثير من فئات الشعب  دور مشرف في الوقوف ضدها خاصة في شارع الكفاح بمناطقها المختلفة مثل عگد الأكراد والصدرية وباب الشيخ وابو سفين وساحة النهضة وقنبرعلي و الفشل- أبو دو دو-المهدية – الدهانه –الكولات – بنى سعيد – العوينة – عكدملا نزر- باب الشيخ- الدوگجية – التسابيل- والفضل وخاضت المقاومة معارك عنيفه لمدة ثلاثة ايام متتالية تصدت للقوة المهاجم بكل بساله وعزم ويحملون معهم بنادق قديمة ومستهلكة سرعان ما توقفت عن العمل وعصي و بالحجارة وقناني المولتوف المصنوعة محلياً فيما قابلتهم الدبابات والمصفحات منزلة بهم خسائرفادحة في الأرواح من أبناء الشعب  وهدمت البيوت واصابت الاطلاقات والقذائف البيوتات التي تقع على الشارع وحتى الان اذا مررت بشارع الكفاح يمكن لك مشاهدة تلك الآثار على الجدران ، ومن هنا جسد البعث الحقد ضد الشعب العراقي وخاصة الكورد الفيلية على خلفية الضغينة التي حملوها لهم منذ أحداث إنقلاب 8 شباط.

وبعد عودتهم الى السلطة وفي سنوات 1970 و1980 شرعت  في تسفير وتهجير أكثر من  600 ألف إنسان بعد ان تم تجريدهم من كل مقومات الحياة الشخصية وعزل الشباب عن اهليهم  في معتقلات ودهاليز لم يعرف مصيرهم فيها واختفت اثارهم لحد يومنا هذا  وهكذا فقد أولت سلطة البعث بعد عودتها بقوة في انقلاب 17 تموز عام 1968 لاستكمال حقدها البغيض  على شرائح مختلفة من الشعب العراقي .  

للحقيقة فأن “لا أحد يستطيع أن ينكر وقوع أحداث وتصرفات وأخطاء ما كان لها أن تحدث لولا قيام عناصر معينة من الحزب الشيوعي بألاساءت لتاريخ حزبهم” و كان عدنان جليميران عضو اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في مدينة الموصل أثناء حركة الشواف قد أعترف بتاريخ 28 آذار/ مارس 1963م بما يلي (في رأيي أن أبرز الجرائم التي نتحمل نحن الشيوعيين مسؤوليتها الكاملة مجزرة الموصل ومذبحة كركوك، ففي الموصل كانت لدى الحزب أوامر قاطعة من القيادة بإبادة القوميين حالما يتحركون” و إلاساءة للثورة الكبرى في 14 تموز 1958،” فقد جرى قتل وسحل عدد من المشاركين في المحاولة الانقلابية الفاشلة “، والتي أحيل قادتها والكثيرين  من المشاركين والمشتبه بهم وبضمنهم قادت الانقلاب وعلى رأسهم العميد ناظم الطبقجلي ومدحت الحاج سري وغيرهم الذين اشتركوا فيها وزجهم مع المتهمين الاخرين في محكمة الثورة المعروفة” بمحكمة الشعب “وكان االتلفزيون العراقي يبث وقائعها بشكل مباشر على الهواء”كان من الاسباب المباشرة لما حدث في  8شباط 1963 من انتقام يندى لها الجبين ، لقد استيقظ العراقيون، في عاصمة السلام بغداد الحبيبة ، على أصوات الدبابات المزنجرة واطلاق أعيرة نارية و جولان فصائل مسلحة برشاشات بور سعيد المصرية يجبون المحلات والازقة والشوارع لاعتقال من يرغبون لارعاب الناس في كل أنحاء العراق وقطع الشوارع والمدن والسيطرت على مراكز الشرطة والمقرات الحساسة وكان ذلك الانقلاب الاول  للبعث أو ما أطلق عليه « ثورةرمضان» ،والتي كانت بعيدة كل البعد عن الثورة انما مذبحة دموية وسجون ومعتقلات شملت الالاف من مختلف الاعمارو جلب الانقلابيون معها، عصابات من الشواذ والمنبوذين تحمل على يدها شارات خضراء سميت ب«الحرس القومي»ولم يكن بيان الانقلاب مصادق عليه من قبل خلية الضباط المشاركين كما اسلفنا في بغداد ، وقامت مجموعات خلق جو رهيب من الرعب ” والحرس إلأ قومي “كما اخذ ابناء العراق يطلقون عليهم في تأسيس مراكز للاعتقالات مثل خلف السدة الشرقية الذي كان يضم الالاف من المعتقلين “قرب موقع وزارة الداخلية حالياً في شارع فلسطين وملعب الشعب”  والنادي الاولمبي في الاعظمية والخيالة في الكسرة وابوغريب وقصرالنهاية والفضل  والكرادة والكاظمية التي ساهمت في المقاومة ايضاً واالدور التي تم الاستلاء عليها  بعد تشريد اهلها او اعتقالهم ومعتقلات اخرى في المحافظات ومورست فيها انواع التعذيب والاعدامات دون محاكمات و المستهدفة لكثير من شرائح المجتمع دون استثناء  واصدر الحزب الشيوعي نداء الى المواطنين في الساعات الاولى للانقلاب يدعوهم فيه ” الى حمل السلاح لسحق المؤامرة الاستعماريةالرجعية” ، وخرجت مظاهرات تطالب بالسلاح من الزعيم عبد الكريم قاسم والتي جوبهت بالرفض خوفاً من اراقت الدماء، وكان للمرأة حصتها في التعذيب والاغتصاب،ليصبح جسد المناضلة مشاعا للجلادين. ومن استعادة لأحداث الأيام والسنوات التي تلت هذا التاريخ، سيدرك أن العراقيين، من ذلك الجيل الذي عاصر تلك الفترة، أبناء ذلك الجيل الى حد ما، لايزالون يعيشون آثار ونتائج ذلك اليوم المشؤوم . فالمشاعر مشحونة بجروح عميقة لم تندمل على الرغم من مرور عشرات السنين،تحتشد بالاعتقالات ودماء الضحايا والاحتجاز والاختفاء القسري والمعاملة المهينة والإعدامات الفورية دون محاكمات نظامية على اعواد مشانق  واطلاق الرصاص ومجازر تغذيها ذاكرة كل من عاصر ايام تلك الاحداث القاسية. « إنه يوم مشؤوم » كما يعبر عنها كل من عاش ايامها، شهد العراق اقتتال من ساهموا، سوية، في جبهة وطنية للاطاحة بالحكم الملكي وإعلان الجمهورية المستقلة .

يقول عنها القيادي البعثي محسن الشيخ راضي “في يوم 9 شباط نفذ حكم الاعدام بحق الزعيم عبد الكريم قاسم وصحبه الشهداء طه الشيخ أحمد والمهداوي في مبنى دار الاذاعة في الصالحية بقسم غرفة الموسيقى بعد أن أستسلم للانقلابيين رغم محاولاته الحثيثة ومن خلال سلسلة اتصالات من وزارة الدفاع ببعض قادة الانقلاب وقادة الفرق العسكرية عارضا استسلامه على شرط الموافقه على إجراء محاكمة علنية له وتسفيره وابعاده خارج العراق ، كانت ردات الفعل أن يسلم نفسه بدون قيد وشرط ورأسه مطلوب ، مثلما أكد له طاهر يحيى رأسك مطلوب فقط ومع كل هذا وهو القائد العسكري ذهب طوعاً الى الموت وهو أدرى بمصيره و كان الاجدى به الموت في القتال , وليس الاستضعاف و العطف من أعدائه . ان العقل ا العراقي ، ما زال يتغاضى عن سياسة الزعيم المربكة في أدارة أمور البلاد ، يتغلب ذلك العقل ومازال يعتقد انه الزعيم الاوحد بدون مراجعة ميدانية ( نقدية ) ، عن سلوكياته التي أدت الى هتك البلاد والتي لا يمكن تبريرها بجملة إنجازاته و لم يعر أهتماماً بصرخة تلك الجماهير التي خرجت الى الشوارع في الدفاع عنه بأسلحة يدويه وخفيفة ، ولم يمتثل لها وهي تطالبه بالسلاح كما يفسرها البعض خوفاً كما اسلفنا من إراقة الدماء في الوقت الذي اسيلت الدماء في الشوارع منذ الصباح الباكر لذلك اليوم الشباطي في شوارع بغداد. وهي أشد الأيام  ظلاما وسوادا ووحشية ودموية في تاريخ العراق حيث تعاونت وتحالفت كل قوى الظلام والوحشية في الأرض  وتوحدت وأعلنت الحرب على العراق  لوقف مسيرته الإنسانية الحضارية لذبح الروح العراقية الإنسانية الحضارية الجديدة التي ولدت في نفوس العراقيين روح الحب والتضحية ونكران الذات وتوحدت تلك الأرواح المختلفة من مختلف الأطياف والأعراق والألوان بروح عراقية إنسانية حضارية  هي الروح العراقية الاصيلة التي بدأت في بناء  الحياة الحرة والإنسان الحر وتأسس عراق واحد موحد ووحدة عراقية صادقة ..

لقد كان الدم يستسقي الدم، يعود بشكل أساسي إلى غياب وانعدام ثقافة الحوار والتفاهم مع الآخر المختلف عبر الاعتراف بالاختلاف معه والاعتراف به ابتداءً بما يؤدي الى الحلول والتسويات المقبولة لدى ا  الأطراف المختلفة .

لم تمض اسابيع على  8 شباط حتى صار الحرس القومي في بغداد جيشاً يضاهي عدده جميع القوات العسكرية في معسكرات العاصمة. تحول الحرس القومي من حماية الأمن الى ارهاب الناس والتدخل في شؤونهم وشؤون الادارة والحكومة، وأصبحت لا يمكن ضبطها، تمارس أعمالاً سيئة في المدن العراقية، ومن الطريف أن يقوم الحرس القومي دون أسباب ودون أوامر بمضايقة وتفتيش ضباط الجيش وقادته وأعضاء السلك الدبلوماسي.

الشعب العراقي اليوم يتمتع بالوعي السياسي والإدراك العميق للواقع الذي نعيشه ، فإنه يطالب مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية بضرورة استخدام القوات الامنية صنوفها المختلفة والحشد الشعبي لمواجهة العنف الذي يحيط بالبلاد ويخنقها، ويطالب القوى السياسية باصلاح فساد الكتل الحزبية التي استغلت هشاشة السلطة وسرقة اموال الفقراء والتي تشارك في العملية السياسية والتخلي عن أفعالها المشينة والعودة للشعب في تحقيق أحلامهم وآمالهم في اعادة النظام القائم على تحقيق أمانيهم المفقودة  واصلاح السلطة والحكم مرة اخرى، كما ويطالبهم ابنائه ايضا بالوحدة والشعور العالي بالمسؤولية تجاه الشعب الذي أوصلهم الى ما هم عليه من معاناة وظلم في ظل الحكومات المتعاقبة التي حكمت العراق بعد عام 2003 فبعد ان تعقد المشهد العراقي وكثرت الاطراف المتناحرة وانتشرت الجرائم فالقرار وحده لا يكفي وانما يجب تكاتف الجهود والإخلاص والسعي الدؤوب لايجاد حكومة قوية ووضع تشريع سليم يأخذ مدة زمنية كافية للتخلص من هذه القوى وتأثيراتها 

عبد الخالق الفلاح