لقد فقدت أعز إنسان في حياتي
نعم …أعلم ان الموت حق، بل هو الحقيقة الوحيدة الثابتة، كنت أخشى ان أفقد أمي وأنا بعيد عنها، لكن شاء القدر أن أكون قربها، فكم أنا محظوظ، كنت أتوقع الفراق منذ فترة، وأهيء نفسي وأشد من أزري لأخفف وطأة ألم صدمة المصاب.
اليوم فقط شعرت باليتم، رغم أني عشت يتيم الأب الذي لم أره حتى في الصور، فحين توفي أبي لم يتجاوز عمري إلا بضعة أشهر، فكانت أمي هي الأب والأم والأخ والصديق وهي معلمي الأول، رغم كونها لا تعرف القراءة والكتابة.
اليوم فقط شعرتُ باليتم الحقيقي، رغم بلوغي الـ 63 عاما يتيم الأب، نعم فدونكِ يا أماه أحس بالغصة والوجع الكبير، لأنكِ كنت الصارية التي ترشدني. لكنكِ علمتني المكابرة والصبر على المصائب.
أنا لا أستطيع بعجالة أن أعطيها حقها أو أتحدث هنا عن طيبتها وحنيتها وروحها الشفافة، وعطائها اللامحدود، فقد كانت تفيض حنانا وعطفا ومحبة للجميع من صغارٍ وكبار، فكل أمهاتنا من جيلها يمتزن بهذه الصفات ولو بأشكالٍ متفاوتة، فكل من عرفها حبها متأثراً بحنانها، الأطفال الذين أصبحوا كبارا يسمونها حباً ((بيبي عمّيّه))، يتذكرونها ويبكون حنينا لها، الأطفال الجدد يلتمون حولها ويسمونها ((بيبي الكبيرة)). أجيال كبيرة مرت بها من أبناء وأحفاد ((آلـ صكر)) وهي آخر من تبقى من الجيل الأول من بيت الصكر.
لن أقول ان والدتي أفضل النساء، لكن أقول شبه جازم ودون مبالغة، أنها امرأة عراقية تحملت كل أنواع الظلم وقساوة الحياة، طيلة الثمانين عاما من عمرها، ظلم الحياة والأهل وجحود الأقرباء وأغتصاب الحقوق من أقرب الناس، والإكراه على الزواج، والترمل والفقر المدقع وأنواع الحرمانات التي تصلح لتكون قصصا وروايات، فهي المرأة أبنة المدينة التي تجبر على مغادرتها لتعيش في الريف القاسي حيث الفقر المدقع والآلام ومعاناة الطبيعة، ولتمر بمحن وكوارث لا تحصى، وحين تركتها مضطرا، كتبت…
((تركتها في كوخٍ طيني بائس نائي
يا لبؤسي.. يا لشقائي
أحلم باليوم الذي أعود فيه لتفرح بلقائي
صار ذلك اليوم عسيراً وخشيت ان لا يتحقق الحلم
فما نفع بقائي
الكوخ رث تتدلى من سقفه الحشرات وخرير ماء المطر
أثار خوفي وأستيائي
هل أعود لها وألقاها وهل تفرح للقائي….))
عانت من ويلات الحروب والحصار، وفقدان أعز الناس بصبرها وقوة شكيمتها، حرمت من متع الدنيا، وتشبعت من قساوتها بلا حدود، تجرعت الآلام تلو الآلام، عاشت أبية النفس قنوعة ببساطة وبحياة الكفاف.
كنا نحلم بتحقيق شعارنا (وطن حرٌ وشعبٌ سعيد) للجميع، لكننا لم نسعد شعبنا ولا أهلنا الذين تحملوا عذابات فراقنا ونضالنا ضد الدكتاتورية، ولذلك أسبابه. فتشردت والدتي من مكانٍ الى آخر، مكرهةً، تخشى السلطات، وليس لديها ما يسد رمقها، لولا وقوف أبناء خالي الغيارى، فهي عمتهم وكانوا نعم الأقرباء والأهل.
عندما سنحت لي الفرصة بعد انتهاء الكفاح المسلح التقيتها في الاردن عام 1999 ومن ثم عام 2002 في سوريا، وبعد سقوط الدكتاتورية كنت أزورها كلما سنحت لي الفرصة لعلي أعوضها عن بعض حرماناتها، رغم علمي بعدم أمكانية تعويضها عن السنوات العجاف القاسية التي مرت بها. ظلت تفكر بالصغير والكبير وتنثر الحب والحنان على الجميع حتى لحظات حياتها الأخيرة.
رحماكِ يا أمي يا نسمة شفافة مرت بحياتنا غرست فينا التحدي والحب، ونكران الذات والتسامح.
أمي حبيبتي سيمفونية روحي ولحن حياتي. فراقكِ أوجعني وهو جرح عميق في الروح لن يندمل، لكِ الرحمة والذكرى العطرة دوما.