هذه القصة التي حدثت قبل أكثر من خمسين عاماً في احدى مناطق بغداد ، ستكون المنطلق للدخول الى صلب الموضوع ، القصة بدأت عندما كان مجموعة من الأصدقاء يلعبون الدومينو في احدى المقاهي الشعبية ، فجأة حدثت ملاسنة بكلمات غير لائقة بين أثنين من هؤلاء الأصدقاء ، ثم تحولت الملاسنة الى الضرب ، فقام احدهم بتوجيه لكمة الى الاخر وتسببت اللكمة الى خروج بعض الدم من وجه الشخص الاخر ، فأسرع المجروح بدمه الى بيته القريب من المقهى ، بينما ناشد الحضور الشخص الاخر الذي جرح صاحبه بمغادرة المقهى خوفاً من عودة المجروح والانتقام ، لكنه أبى ذلك وقال انه صاحبي و سأعتذر إليه إذا رجع ثانية الى المقهى ، ولم تمضي سوى عشرون دقيقة حتى عاد المجروح ومعه مجموعة شبابية يحملون السكاكين و العصي والسواطير او ( ما يسمى عند البغدادين قامات ) فدخلوا الى المقهى وطلبوا من جميع الحضور عدم التدخل وان من يتدخل سيلاقي نفس المصير الذي سيناله ذلك الذي ضرب اخوهم فهجموا على الشخص الذي ضرب اخوهم من جميع الجهات والطعنات بالسكاكين بأنحاء جسده ، فأردوه قتيلاً بالحال ، ولم يكتفوا بذلك بل مزقوا ملابسه ، ثم قطعوا الارجل والايادي وقطعوا رأسه ومثلوا بجثته امام انظار الناس ، بعدها ولوا مدبرين .
هذه القصة ليست خيال وليست منقولة ، كان السؤال الذي يدور في مخيلتي منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا ، هل يعقل ان يكون الانتقام لسبب تافه مثلما حدث امام اعين الناس ؟ لم أجد الجواب ، ثم أسأل نفسي هل هذا المجتمع الذي فيه هذه النماذج من البشر مجتمع طبيعي ؟ لأنني طالما أرى الطيبة والبساطة عند العراقيين ، والعراقي يذرف الدموع لأبسط الاسباب ، فهو كتلة من العواطف النقية ، ولكن هؤلاء الذين ارتكبوا هذه الفضاعة ايضاً عندهم طيبة وبساطة وعواطف و في لحظة سقطت الاقنعة ، فلم تكن الطيبة والبساطة الا قناع مزيف ثم أردت ان اقنُع نفسي ان هذه حالة نادرة في مجتمع كبير ولكن الاحداث التي عشناها خلال العقود الاخيرة بينت لنا رأي أخر ، بعد سقوط بغداد سقطت كل الاقنعة فظهر المعدن الحقيقي للغالبية العظمى من العراقيين ، بالقتل والتنكيل ، سقطت الاقنعة عندما بدأت عمليات الانتقام في الحرب الطائفية والاقتتال العشائري ، ، ، في منتصف القرن الماضي سقطت الاقنعة عندما هاجمت الجموع الغفيرة بيوت اليهود العراقيين الذين جاوروهم لألاف السنين ليقتلوهم ويسلبوا اموالهم وممتلكاتهم ويعاملوهم بحقد وكراهية شديدة ، سقطت الاقنعة عندما تم تسفير الكورد الفيلية و احتلال ما تبقى من بيوتهم وممتلكاتهم من قبل الجموع الغفيرة التي أخذت تصرخ وتعبر عن فرحتها بترحيل هؤلاء الايرانيين عن ديارنا ( كما كان يحلو لهم ذلك ) ، سقطت الاقنعة عندما تقدمت الجيوش نحو كوردستان وماذا فعلوا بأبناء شعبهم الكوردي كما يدعون ، سقطت الاقنعة عندما دخل الجيش البطل الى مدينة المحمرة العربية وسرقوا وقتلوا الابرياء من المدنيين العزل من ابناء قوميتهم وسلبوا كل شيء حتى البلاط الارضي ، سقطت الاقنعة عندما دخلوا الكويت ولم يسلم شيء من اياديهم التي تعودت القتل والسرقة ، وهل ننسى ايام الحواسم التي جعلت الناس يتقاتلون من اجل السرقة ، كم مرة يسقط هذا القناع ؟ هذه حقيقة الغالبية من الشعب ، والاحداث التي عشناها وسمعنا بها تبين كل ذلك بوضوح . . انا استذكر هذه الاحداث واشعر بالخجل والعار ان يكون بين ابناء هذا الشعب طيف واسع وكبير لا يحمل من الإنسانية والاخلاق ما مقداره صفر او تحت الصفر . ألم تسقط الأقنعة حين تم سحق واغتيال الالاف من الشباب الذين خرجوا مطالبين بلقمة الخبز في ساحة التحرير والمدن الجنوبية ، ألم تسقط الاقنعة حينما سرقوا الملايين والمليارات ومازالوا يسرقون ، لو كانوا هؤلاء أقلية ، لما دام بقاءهم حتى يومنا هذا . لا يا أخوتي هؤلاء السيئون ليسوا أقلية بل الطبيين هم الأقلية ، لقد كنا نعتقد سابقاً عن البعثيين بإنهم أقلية سيئة ، وان بقية العراقيين هم الاغلبية الطيبة ، فرحلت تلك الاقلية السيئة وجاءت الاغلبية الحسنة ، تبين ان الاغلبية أسوأ من الاقلية ، فهل كنتم تتخيلون ان الاغلبية التي حلت محل الأقلية ستكون أسوأ من الاقلية السيئة ، وهل ستتخيلون ان من سيحل محل هؤلاء الاغلبية مستقبلاً سيكون أطهر من هؤلاء ؟ قد يكون هذا صحيحاً ، ولكن تذكروا لا مكانة للطيبين الطاهرين بين جموع السيئين ، فالطيبين سيفشلون او انهم سيكونون مجبرين على ان يتبعوا سيرة السلف الفاسد بالفساد او أنهم يلتحقوا بمن هاجر قبلهم الى ديار الغربة ليعيشوا مرارة الغربة محافظين على ما تبقى لهم من إنسانية وكرامة ، وهكذا تدور عجلة الحياة في ارض الرافدين تلك الارض التي ابتدعت العجلة المدولبة للناس لتكون خيراً للعالمين فعرف الناس كيف يستفيدون منها لكننا بقينا داخل العجلة نتدولب منذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا .