قبل أكثر من اربعة قرون وضع ديكارت اساس فلسفته حول الشك واليقين بعبارة ( أنا أفكر إذاً أنا موجود ) ويقصد من خلالها بأن الشك يؤدي إلى التفكير والتفكير يعني أول اليقين ( مفهوم أستطاع من خلاله تحريك العقل والفكر أمام كل شيء يخص حياة الإنسان ) بذلك يكون الإنسان موجود بشكل فعلي ككائن راقي يختلف عن باقي الكائنات الحية لأنه يفكر ، لا مجرد أن يشغل حيز من الفراغ . استطاعت فلسفة ديكارت أن تكون واحدة من أكبر التحولات التأريخية المهمة في تغيير الأفكار ، وواحدة من اسرار هزيمة الكنيسة وهزيمة جميع الأفكار المتحجرة امام الثقافة التي عصفت بأوربا خلال فترة القرون الوسطى ، ومازالت هذه الفلسفة تحرك العقول وتدرس في الجامعات العالمية حتى يومنا هذا ، وقد وصلت أثار هذه الفلسفة منطقتنا الاوسطية في وقت متأخر ، لكن سرعان ما وجد المثقف الذي أراد السير في درب ديكارت وجد نفسه يقترب من الجنون ، لماذا ؟ لأن مفهوم الشك عندنا حرام من الأساس ، والحرام بمعنى الخروج عن طاعة ولي الأمر ، وهذا يعني الأستعداد للجنون قبل القتل والتنكيل .. خلال فترة سقوط بغداد في العام ٢٠٠٣ م تعرضت دوائر ومؤسسات الدولة إلى السرقات والنهب بشكل علني وفي وضح النهار بغياب القوى الأمنية وغياب الوعي المجتمعي وغياب الرادع الاجتماعي والديني عند أغلب الناس ، كان من نتاج تلك الكارثة إنتشار السلاح في كل مكان والفوضى والقتل والتخريب ، في خضم هذه الأحداث المريعة ظهرت كتابات على جدران بعض الأبنية في مناطق مختلفة من العاصمة بغداد كانت تقول ( السرقة حرام بأمر المراجع ) وأظن جميع أهالي بغداد الذين عاصروا تلك المرحلة يتذكرون ظهور هذه العبارة في كل مكان .. منذ تلك اللحظة التي قرأت فيها تلك العبارة انتابني إحساس بإننا سندخل مرحلة تأريخية يجب أن يتوقف فيها التفكير ويجب أن تكون المرحلة الزمنية القادمة هي مرحلة سبات العقل ، وأن فلسفة ديكارت التي تقول أنا أفكر إذاً أنا موجود ، يجب أن تصبح أنا أفكر إذاً أنا مجنون ، فالتفكير هنا يجب ان يتوقف مع ما كان يحدث وما كان يكتب على جدران المبان ، وما سوف يحدث لاحقاً ، ماذا نبغي من وراء التفكير ؟ هل نريد الناس يعيشون الشك ؟ بمعنى أننا نريد تدمير المجتمع ، أنا عندما قرأت تلك العبارة ( السرقة حرام بأمر المراجع ) لم أعد أشك منذ ذلك اليوم ، ولم أعد أفكر ، لأنني وجدت نفسي دخلت السبات العقلي طوعاً ( هل هناك عاقل يستطيع الصمود أمام هذه السيول الجارفة من الجهل والتخلف ) . فلو سمحت لنفسي أن أفكر لأصبحت مجنوناً قبل أن أصل إلى اليقين ( المقصود عامة الناس ). قد يكون كاتب هذه العبارة على الجدران يقصد إنه على الجميع الإمتناع عن السرقة من باب ديني ، لكنه أساء التعبير ، هذه هي مشكلتنا التي لا يدركها الناس ، وهي أن نوايا الناس لا يمكن رؤيتها بل يمكن رؤية ما تبدر منهم من قول أو فعل ، فالقول والفعل لها تأويلات وتفسيرات كثيرة ، وكلما ضعفت الثقافة كلما أبتعدت التأويلات والتفسيرات عن الحقيقة ، فلا يظن أحد ما ، بأن كلامه أو فعله سيتم تأويله وتفسيره بشكل سليم من قبل الجهلاء الذين يسيئون الظنون ، لأن الجهلاء بطبيعتهم لا يعرفون الشك والتفكير فهم مجبولون على ما يملى على عقولهم ، فهم على يقين دائماً . في لحظات تطلعي إلى عمق فلسفة ديكارت تذكرت شيئاً غريباً قد يكون فيه تناقضاً جوهرياً لفلسفة ديكارت ، وهو أن بعض الناس من الأفضل أن لا يفكروا ، فالتفكير عند هؤلاء مصيبة وتدمير لهم وللمجتمع ، هؤلاء أن يفكروا يصلون إلى نتائج أسوأ مما كانت عليه عقولهم قبل التفكير ، فيصبح عليهم التفكير بلاء وابتلاء ، وللأسف مثل هؤلاء الناس ليسوا أقلية بل هم الغالبية العظمى ، ديكارت يشترط للتفكر هو المرور بمرحلة الشك أولاً ، بينما هؤلاء الناس لهم القدرة أن يشكوّن بكل شيء إلا بأفكارهم ، يشكوّن بنوايا الناس وبأنساب الناس وشرف الناس وعقول الناس واموال الناس واخلاق الناس ولا يشكوّن بما تلقحت به عقولهم من أفكار متحجرة ، لأن أصل الشك الوارد في فلسفة ديكارت تحريك العقل ، بينما أصل الشك عند الجهلاء تحريك الكراهية وتحريك الاحقاد وشتان بين هذا وذاك .