ظاهرة غياب العقل !- كامل سلمان

معظم المعلومات التي يسمعها ويطلع عليها الناس يومياً من خلال الإعلام ووسائل التواصل هي بحقيقتها ذات مضرة عقلية واستهلاكية فارغة تستهلك طاقة العقل وتشوش عليه ولا تمنحه السعادة ولا تمنحه الفائدة ولا تغير من حياته نحو الأحسن ، وفي نفس الوقت تغيب عقله عن أمور هو أحوج ما يكون لمعرفتها ، بل وتبعده عن جمالية الحياة . ظاهرة تغييب العقل أصبحت ظاهرة واسعة الإنتشار بشكل لا يصدق ، حالها حال الظواهر الغريبة التي تعصف بمجتمعاتنا هذه السنين ، وقد ساعدت التكنلوجيا على إنتشار هذه الظاهرة لإنها أصبحت هي الوسيلة التي من خلالها يتم ضخ مغيبات العقل إلى الناس على مدار الساعة بدل أن تكون هذه التكنلوجيا من مقومات العقل أصبحت هي الأداة لتدمير العقل وإلغاءه ، كيف يحدث ذلك ومن يقف وراءها وماهي مصادر قوتها ؟ هذه أسئلة جديرة بالإهتمام والتركيز .
نحن نعيش في عصر السرعة ، عصر تتلاقف فيه الأيادي لمستجدات التكنلوجيا ، وللأسف كانت حظوظ أعداء العقل هي الأوفر في تسخير مضادات بناء العقل مستفيدة من سهولة استخدام التكنلوجيا لصالحها ، سرعة انتقال المعلومة خدمت الأشرار قبل الأخيار ، خدمت الدجالين أكثر من الصادقين ، في عصرنا تتجدد فيها الأوبئة بإستمرار وتتنوع فيها الحيل ، فمن أوبئة فايروسية الى أوبئة ايدلوجية ومن حيل قانونية إلى حيل دينية إلى حيل تجارية وصناعية وزراعية ، فكلها بالنتيجة تخدم أطراف محددة على حساب عامة الناس ، فكل شيء أصبح قابل للإستثمار ، ( الرياضة ، جمال المرأة ، الفن ، الدين ، الإعلام )، وكأنما العالم أصبح ساحة للمراهنات والأرباح ، فماذا بقي من قيمة عقلك وعقلي وعقول الناس ، المهم المكاسب والإستثمار لمن يتفنن في استخدام التكنولوجيا .. أن من أسوأ الفايروسات وأقذر الأوبئة وأندر وأبشع الحيل القانونية والدينية هو إلغاء دور عقل الإنسان وتغييبه من أجل مكاسب مادية أو أيدلوجية أو من أجل اهداف محدودة . وهذا هو الشيء الذي يجهله غالبية الناس الا وهو غياب عقولهم دون إرادتهم خدمة لغيرهم ، ما هي مغيبات العقل ؟ لو قلنا أن المخدرات والمسكرات هن مغيبات للعقل ، سنقول نعم ، ولكن أغلب الأشياء التي يتعاطاها الإنسان عن طريق الفم والأنف والأوردة لها القدرة على تغييب عقل الإنسان لوقت محدد ، فهذه المواد تقوم بتغييب العقل والجسد سوية ولوقت معلوم ، بينما مشكلتنا هنا هي مغيبات العقل التي لا تأخذ من طاقة البدن شيء ، ولكنها تحجر وتشل العقل ، فكلنا نعلم بأن القطيع البشري ( وهم النموذج الواقعي الأمثل لمغيبي العقل ) يمتلكون أندفاعات بدنية كبيرة ، وأجسادهم تصبح رهينة عقول غيرهم ، فكلما زادت نسبة القطيع في المجتمع فهي إشارة إلى قوة تأثير وفعالية مغيبات العقل ….. فلو قلنا مغيبات العقل هي الخزعبلات والخرافات ، سنقول نعم ، ولكن الخرافات والخزعبلات يمكن لها أن تغييب العقل عند الجهلاء فقط ، وهؤلاء معذورون بسبب جهالتهم وقلة معرفتهم ، بينما مشكلتنا التي نتحدث عنها تشمل غياب العقل عند طبقات اجتماعية لها تحصيل علمي أكاديمي على مستوى عال . الحقيقة التي نتحدث بها هنا هي أن مغيبات العقل تجعل ذلك الكائن الراقي الذي أسمه إنسان يصدق ويعقل مالا يعقل ومالا يصدق ويتداوله اجتماعياً وكأنه على يقين من صحة ما يقول ، إدراكه العقلي وتحكيمه العقلي يصبح عديم الوجود ، هناك لغز بسيط يمكن أن يدلنا على الحقائق المخفية . هو أن نبحث عن من يسعى لتغييب العقول ، سنجدهم ثلاث فئات ، هم أولاً رجال الدين الذين يجدون وجودهم وتأثيرهم ينحسر مع التطور العلمي الذي ينسف معتقداتهم ( لا أقصد الإيمان بالله وبالدين ) بل أقصد المعتقد الذي ينادي به رجال الدين بإنهم الأصلح لقيادة المجتمعات . ثانياً الأشرار والمجرمون الذين يظنون بأن وجودهم ينتهي بسلامة عقول الناس وهم يبغونها عوجا ، يريدون إنتشار الفساد والمخدرات والجريمة . هؤلاء لهم القوة والدهاء والجسارة ، فلا يستطيعون العيش كباقي الناس ، إنما يريدون لأنفسهم العلو والسلطة . ثالثاً الأعداء من خارج الحدود الذين يسعون إلى فرض هيمنتهم … مفهوم الاستعمار أصبح عند الأعداء الخبثاء هو تدمير العقول ومسخها قبل تدمير البلدان ونهب خيراتها ، فما بالك ببلد محاط بمختلف أنواع الاعداء ؟ … حقيقة الثقافة عند بعض الناس مع وجود مغيبات العقل مشكلة كبيرة على صاحب الثقافة ، في مجتمع فرضت عليه الحياة الدونية ، فالمثقف لا يستطيع تقبل من حوله ومحيطه بإفكارهم ومعتقداتهم الدونية وبنفس الوقت لا يستطيع الإفصاح مافي نفسه خوفاً من العنف الذي سيطال حياته ، ولا يجد لكلماته آذان صاغية ، فهي مشكلة تسلب راحة البال وتمنع عنه أمور كثيرة ، فأنا على قناعة بأن تعيس الحظ من يحمل الثقافة والوعي وسط المجتمع الجاهل الذي فقد الطموح الراقي ، هذه حقيقة يجب الأعتراف بها وهي أن مجتمعاتنا فقدت الطموح بأن تكون بنفس رقي المجتمعات الراقية ، ماذا يستطيع العقلاء فعله أمام أمواج القطيع ، فهذا المثقف حتماً سيكون منبوذاً من قبل الناس لأنه لا يشبههم ولا يستطيع أن يكون مثلهم ، وتراه حزيناً كئيباً يتحسر على نفسه لأنه يشعر بالغربة وسط أحبابه وناسه الذين يعيش بينهم ، ويكون ملاماً من قبل الأقربون لأنه يسبّب لهم المتاعب والآلام .