مع الناقد هاشم مطر في قطوف التجربة – الدكتور صادق اطيمش

 

مرة اخرى يغمرني الصديق العزيز هاشم مطر بفيض قطوف قادني من خلالها في جولة يزداد الشوق فيها بتزايد خطواتها نحو الجديد اليانع من الثمار التي ضمها ابداعه الجديد حينما عالج موضوعة  نقد النقد في ادب الكاتب الكبير سهيل سامي نادر ضمن صفحات ” قطوف التجربة ” ، الصادر عن دار قوس قزح للطباعة والنشر في كوبنهاكن عام 2024، والذي يضم 190 صفحة من الحجم المتوسط ، بطباعة ممتازة وتنسيق رفيع المستوى.

قبل سنوات كثيرة ، وضمن نشاطات النادي الثقافي العراقي في برلين وفي واحد من اسابيعه الثقافية التي كان يقيمها كل عام، شرفني النادي آنذاك بالمساهمة في اسبوعه الثقافي من خلال الحديث عن شخصية الكاتب والمثقف والعالِم العراقي علي الشوك. واثناء تصفحي للكثير من المصادر التي ضمت اهتمامات هذا العالِم الفذ لم اجد ما أُعنون به حديثي عن انجازات هذا الرجل سوى عبارة ” جولة في مزرعة على الشوك ” حيث لم اجد افصح ما يشير الى الكم الهائل من العلوم والأبحاث والمجالات التي نالت اهتمام هذا الرجل فادلى بدلوه فيها فاحسن واجاد.( الحوار المتمدن https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=227871

ما دعاني الى التطرق الى هذا الحدث الذي مضت عليه سنين طويلة ، هو صراع الافكار الذي وضعني فيه ابو نخيل ، حيث اثار بي اسلوبه الرائع ، بكل ما يحمله من عمق الأصالة الأدبية وغزارة المعرفة الموضوعية وتنوع  القطوف ، نفس تلك الأحاسيس التي خالجتني  اثناء التجوال في مزرعة علي الشوك . إلا انني ادركت من خلال تذوق القطوف الأولى في هذا السفر الجميل والعميق بانني لم اكن الوحيد الذي غزته هذه المشاعر التي تشعبت امامها سبل  التجوال بين ثمار يانعة ، بل سبقني المعمار الأكاديمي الدكتور خالد السلطاني الذي كتب في مقدمته لهذا المؤلَف ” علي الإعتراف بان الجهد المبذول الذي بذله هاشم مطر في تاليف كتابه القيم ، لهو جهد كبير ومميز لجهة كثرة واختلاف مواضيع النصوص المدروسة، اولاً ، ولناحية تعدد المقاربات النقدية التي وظفها المؤلف في قراءة (او بالأحرى “لإعادة قراءة “) تلك النصوص ، ثانياً.

قد يضع هذا التنوع ” الهاشمي ” بعض القراء في صعوبة التواصل مع ما يقارب الاربعين من النصوص ، التي كان من الممكن ان يوضع كل منها على شكل فصل لكتاب على نمط الكتب المألوفة. إلا ان براعة هاشم مطر في صياغة النص قادته الى ان ” يتبع في تأليفه طريقة اكثر استغراقاً ، مقارنة ومقاربة، تاملاً وفحصاً للمفاهيم النقدية ، سيشتشعر القارئ سهولته مقارنة بالنصوص النقدية الصارمة او تلك التي وضعت للمختصين والباحثين “. وبذلك اكتسبت النزهة بين قطوف هذا البستان الجميل عذوبة خاصة في نسيمها العبق.

لقد استعرت عبارة ” نزهة ” واقول في بستان قطوف ” مطرية ” ، تيمناً بالجولة التي سبق وان اشرت اليها في حديثي عن فقيد العلم والدب علي الشوك. إلا ان هذه النزهة لها طعمها العراقي الخاص بها وذلك بالنظر لما اراده صاحب القطوف لها في ان تكون معبرة عن  ” الكثير من الإحتباسات بين الواقع والوهم ، بين المصاب والأمل ، بين الماضي والحاضر ، بين الصروف والمآلات “. ومما ازاد في روعة هذه النزهة وبهجتها هو ذلك الغوص في اجواء لم يجعلها هاشم مطر خاصة بالكتابة عن سهيل فقط ، بل تجاوزها الى ” كل من توارى عن الأنظار ” بعيداً ، ولا اقول هروبا ، إذ ان الفكر الحر يظل يجوب حتى في اجواء الجبابرة ” يستل من اظفارهم ويحط من اقدارهم “(مع الإعتذار للجواهري الكبير)، عن اجواء التنكر الموبوءة بكل ادران الإنتهازية السياسية والتخلف الفكري والجهل المطبق ، هذه الاجواء التي لا يمكن لعِظام الناس ان يتوالفوا معها ومع ما تجر معها من ابتذال.

وقفت على عتبة المدخل لبستان القطوف للدخول الى عالم كاتب ” معني بالحياة ، والدفاع عنها ، وعن القيم المدنية ” التي جعلها هاشم مطر من سمات بطله سهيل سامي حينما يتطرق في نقده المتألق هذا الى كتابه ” نزولاً من عتبات البيت “. فلا غرابة اذن اذا ما تناول سهيل المعني بالحياة والقيم المدنية ” بغداديات جواد سليم ” الذي ارَّخ لوادي الرافدين بملحمة ربطت امسه بيومه برباط  تحطيم السجن الكبير. لقد جمع النقد اواصر العلاقة بين الأديب سهيل سامي والفنان جواد سليم ” بتوازن يبلغ بازاحته مبلغاً واضحاً وضعه سليم واجاد رصده سهيل “. قامتان عراقيتان لم تنسهما عتمة الأجواء التي طغت ازمانهم من ان يضيئوا تلك العتمة بالفكر التنويري الذي صاغته اناملهما كلمة تارة وصورة تارة اخرى.

ارى في الإشارة الذكية التي التقطها هاشم مطر حين السؤال عن بغداد القديمة  في رثاء سهيل ” لمعالم عظيمة ككنيسة كانت قائمة منذ العام 1870 تقابل جامع عباسي (لم يبق منه غير منارته) ” رداً شافياً لإطروحات التضليل التي تسود اجواء وطننا اليوم  لتؤطر لفكر جعل من المواطنة والإنتماء الوطني هوية ممسوحة المعالم ، ليضع بديلها تلك الهويات الطائفية والعنصرية والمناطقية التي جعلها تجار الدين ورواد الشوفينية سوقهم المتميزة للفاحشة  والثراء وما يتمخض عنهما من بؤس وشقاء في بلد كالعراق.  وما يجسد هذا الإنتماء خير تجسيد هو ذلك الحنين الذي سماه الكاتب بالآخر حينما انتقل بصاحبه من بغداد الى البصرة التي لا مكان للنخلة إلا فيها ، حتى اوحت له بذلك النشيد الأزلي ” احيا واموت ع البصرة ” الذي لابد لنا من ترديده اليوم على مسامع مَن جعلوا من العراق وبصرته مكبات مزابل لأفكارهم البدائية التي ستُزاح  يوماًما حيث تدوير النفايات من اجل بيئة وطنية نظيفة تتناغم مع بيئة الحداثة والعلم في عالم اليوم.

لم يكتف سهيل بلوعة حنين الى الحاضر الذي رحل به الى بغداد والبصرة، بل اضاف عليه حنيناً آخر وكأن لسان حاله يقول، لا بديل  لك ايها العراقي غير الإنتماء ” الى ماضٍ متصل هو الآخر بماضٍ قبله ” ، قاده الى اسئلة تبحث عن آثار يحاول ان يجهل ثقافتها الرائدة آنذاك بعض الجهلة الذين يكشفون بذلك عدد السنين الضوئية التي تبعدهم عن هذا الوطن في الوقت الذي يسعى فيه اهله ” الى ان يخلطون حياتهم بهذه التربة العظيمة ، وبهذه الازمان الغابرة الضائعة بالتراب “.

ما جلب انتباهي حقاً في هذه النزهة الجميلة بين قطوف هاشم مطر هو ذلك الحقل الذي انبت فيه الكاتب فكرة ” الموت في الحياة “، حين تناولِه تأملات سهيل في مقاله ” الآثار ، الموت ، السلطة “.

قد يبدو هذا العنوان غريباً على أولئك الذين ما زالوا يُنَظِرون حول موت الحياة من خلال طبيعة ونوع حياتهم هم ، ثم من خلال ما يريدون به جعل هذا الموت رحمة يُجازى عليها المبتلى بها يومأً ما ، او إمتحاناً لصبر تجاوز الظاهرة اليومية ليصبح اسلوباً في حياة الاموات هذه. ومن المؤسف والمعيب ايضاً ان نرى اشباحاً  تدور بكل حرية واقتدار ايضاً على ربوع وطن اصبح الموت فيه يولد ولادة عسيرة لم تنفع معها ، ومنذ عشرات السنين ، صيحات النجدة بالقديسين ، او طلب العون من الأولياء ووكلائهم حتى اصبح النشيد الأزلي الذي تتغنى به جموع المحتضرين ” قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ” يتردد على شفاههم الجافة كما تتقافز قطرات الماء على شفاه الجسد المسجى منتظراً ولادة موته التي لم تزدد إلا عسراً.

قد اختلف قليلاً حول ما جاء في القطوف عن فلسفة الموت التي تناولها سهيل على انها جزء من التراضي مع الحياة قائلاً “الحياة لا تستمر اصلاً من دون هذا القبول والتراضي ، الشيئ ونقيضه قاعدة ،وما شذ عنهما غريب ، بينما الجمع بينهما شاعري الى حد بعيد “. من الناحية العلمية والفلسفية ايضاً فإن مثل هذا الطرح يتناغم وأطروحة صراع الأضداد الذي قد يؤدي الى ما وصفه صاحب الدعدية الشهيرة : ضدان لما استجمعا حسنا ….. والضد يُظهر حسنه الضد ، إلا ان هذا التراضي له مقوماته الإجتماعية التي تخلق من الجمع بين الاضداد حالة قبول اساسه الوعي بما يحمله الإثنان ، الحياة والموت ، من مسارات فرضتها اساليب الحياة لتتفهم بها الغاز الموت وسبل بلوغه. هذا التراضي والقبول هو الذي لا مناص منه . إلا ان هذا النوع من التناغم يشذ عن قاعدته الطبيعية حينما يتعلق الامر بحياة هي في مجمل ما تحمله يشير الى عسرة في ولادة موت يومي لا علاقة له بالحياة التي تتعاطى مع الغاز الموت وسبل الوصول اليه عبر درب  واضح المعالم لا ضياع فيه. الموت اليومي الذي تعيشه الملايين في بلد توفرت فيه كل اسباب الرضى والقبول بين الحياة والموت ، لا يمكنه ان يكون إلا بعيداً ، وبعيداً جداً ،عن القبول والتراضي المقصودان.

النزهة بين قطوف ابي نخيل تنقل صاحبها من جميل الى اجمل تتوجها رصانة ربط النتاج الفكري لسهيل مع ابداعات اخرى مختلفة الأوجه والإهتمامات، وذلك حينما تتجلى مقدرة هاشم مطر على اكتشاف العلاقة بين اهتمامات سهيل واصدقاءه الكثيرين ليس من الأدباء فقط ، بل ومن القامات العراقية المتالقة في سماوات الفنون والعلوم المختلفة ، والذين احاطهم سليم بكل ما يحمله من وفاء العِشرة وصفاء العلاقة التي صبغت حياة جيل تربى عليها واستأنس بها وناضل من اجل ان يتلقفها شباب الجيل الآخر.

قطوف هاشم مطر مساهمة فكرية اخرى منه تغني الأطروحات النقدية بجهد تتمثل فيه رصانة النص وعمق المقدرة على توليف حتى العصي على ذلك.