تحديات إعداد جيل اليوم ببصيرة نوعية : الجزء الأول – خديجة مسعود كتاني

المبادئ والمفاهيم الأساسية لا تتصل جميعها بالعمل التربوي (اليوم)، والمشكلة العمل التربوي على الاغلب يقتصرعلى الثقافة الدينية على حساب الثقافة العامة التي مازالت دون  المستوى٠التربية هي آداة تنفيذية تعكس في أحسن صورها ما تتطلع الأمم الى تحقيقها في أبناءها على ضوء المعارف والخبرات والظروف والعالم الذي نعيش فيه اليوم، وسط إعصار العولمة فيما يشبه الخلاطة الكبيرة، فلم يعد هناك شيء مغلق أو بعيد عن الفكر والنظر٠فالعزلة التي كانت تحمي الأمم الضعيفة، صارت اليوم على مستويات متعددة مستحيلة٠

مع إن لكل أمة طريقها الخاص في هذه الحياة، ومنظورها للفرص والمخاطر, تنبع من نتاج تفاعلها ومنهجها كهوية خاصة، تشكلت من مجموعة مبادئها ورؤيتها٠هذه الهوية تتعرض اليوم للمخاطر وتضعها أمام التحديات أكثر فأكثر كلما زادت الحياة تعقيدا وسط فيض من الصور والرموز والمفاهيم المربكة التي لاعهد لها٠ وبدورها تنغرس هذه الهوية في أذهان (الناشئة) فضلا عن إنها بحاجة مستمرة الى إكتشاف، بلورة، طرح نظري، وموقف عملي٠لذا الشعوب لاتستطيع المحافظة على أبناءها الا خلال تحسين العمل التربوي الإعلامي، بطريقة وأخرى على سبيل المثال، خلال التعامل السليم والمتابعة المستمرة والاحتواء والرعاية الرشيدة داخل البيت والمدارس، عن طريق الزيارات، االقصص والمسرح والأفلام التربوية الهادفة مع شرحها وتفسيرها، ليكون العمل التربوي أصيلا ومعاصرا في آن واحد، والعمل على خطوط ثقافية متعددة تسد أكبر عدد من فجوات الترهل الثقافي الذي طال أبناءنا٠ أما السلبيات التي تترتب عليها هي عدم الاكتراث بكل هذا٠

خطوات الى الحل

والأكثر أهمية من كل هذا إدارة وتفعيل الإمكانات المتاحة، التي تتوقف على الارتقاء بالعنصر البشري المؤهل والمدرّب ليكون هذا التربوي أو المعلم أو الرعيل في مستوى الهدف واعيا بعصره وبأجياله اليوم ٠ فمثلا الانفتاح وفهم المتغيرات الحاصلة كثيرا ما يفسرها البعض كنوع من الترهل الأخلاقي للأسف٠ مما يشكل إساءة للفكرة، لان الانفتاح يعني الاستعداد والرغبة في الاطلاع على كل جديد ومفيد ومحاولة الاستفادة في اطار الطموح والنظرة المستقبلية ٠الانفتاح المعتدل أو (المتزن) يعني ليس بالضرورة النظر اليه في إطار حداثته بقدر ما يكون أهميته في مدى نفعه وإنسجامه مع تطلعات الجيل على إختلافها٠ فمثلا الاستعداد للارتحال والانتقال من بلد الى آخر ومن وظيفة الى أخرى، التي تلف حياتنا المعاصرة بالتعقيد والتي تزداد يوم عن يوم، والمرهونة بكثرة البدائل والفرص المختلفة، لكن القصور الثقافي والتربوي هو الذي لايمكننا من التلائم مع البدائل والفرص الجديدة٠ إذن أبناءنا بحاجة الى العقلية والنفسية التي تساعدهم على على إكتساب المهارات والتعرف على الأوضاع الجديدة رغم الصعوبات التي تصاحبها، كونها أفضل من البطالة والفراغ والعيش على هامش العصر٠ لذا نحن بحاجة الى روح مغايرة للروح السائدة في بلداننا التي شلت تحت سقف التقاليد البالية والعقائد المتحجرة، والخبرة المحدودة، التي تنال من العزيمة الحقيقية الضرورية للانطلاق الإيجابي للأجيال٠ ومن الصور السلبية التي مازالت قائمة في بعض أركان المجتمع، حيث نرى من المعلمين والمربيين يضبطون إيقاع الحركة لدى الأولاد في بيوتهم، مدارسهم، مؤسساتهم، التعليمة، أكثر مما يقتضي، فيستهلكون كامل جهودهم في هذا الشأن، فلا يتصورون بديلا سوى الفوضى والخروج عن النظام والآداب ٠

ويبتعدون عن حقيقة بناء الوعي لدى الطلاب وتنمية روح المسؤولية الشخصية، التي لاتنمو الا وسط الحرية، ولا يمكن أن تتوسع ولا تنمو الحاسة الأخلاقية والوازع الداخلي (التحفيز الداخلي) دون تهيئة فرصة الاختيار لديهم ٠ وأن لاينسى أولئك المربون أن الحرفية المبالغة في التربية تؤدي الى سوء الاضطراب النفسي وسوء الاخلاق وتورث السأم والضجر وضيق الأفق والإحباط لدى الأبناء٠

 النظام الياباني

من المعروف عن النظام الياباني أنه (صارم جدا) كونه يحاول بكل وسيلة تعزيز النمطية السائدة في المجتمع الياباني، لكن المشرفين التربويين هناك وجدوا أن ذلك لن يتم على الوجه الصحيح والاكمل، إلّا عن طريق (غرس حب النظام وإقناعهم بضرورته للحياة)، وهذا لن يتأتى أو يتحقق إلا عن طريق (الانضباط الذاتي)، لذا أتوا على السماح بشيء من الفوضى داخل فصول الدراسة، حتى تتولد الدوافع الذاتية للنهوض والنظام من خلال التوجيه الهادىء والرفيق٠

أسباب تقف في مسيرة الاجيال

من الصعب أن تتقدم التربية بشكل عام على النحو الذي نطمح اليه، إذا لم يحدث تقدم إجتماعي عام٠ فالمعلمون والمربون، بكل كفاءتهم لايستطيعون الانفراد ببناء الأجيال، فوسائل الاعلام و أخلاق الاقرباء، والجوار وعاداتهم والنمطية ، بالإضافة الى الظروف الاجتماعية السائدة و الظروف العقائدية والاقتصادية التي نعيشها ؛ كل ذلك يترك أثر وبصمة في طريق تربية الأبناء وشخصيتهم٠على سبيل المثال: لايخفى أن التنظيم العام لعالم التجارة والمال والاعمال أصبح من العوامل المؤثرة والشاغل الأكبر لدى الغالبية العظمى، والذي بات أهم أسس نجاحه ونموه جذب الناس الى المزيد من الاستهلاك والانفاق٠ وقد تولى الإعلان التجاري قيادة مهمة في الاعلام بمختلف صوره، ذلك في ظل الفراغ الفكري والروحي وصارأكثر مايشغل اهتمام أصحابها في توفير المال لارواء طموحهم من إمتلاك السلع الجديدة والمتطورة، والتي توزع على الأجيال حتى وصل بعضها الى الجيل السابع، مما ولد استحالة الشعور بالاكتفاء الذاتي وقد يتسبب في أكثر الأحيان في التنافس الغير الشريف والخروج عن القانون لدى البعض والتي أخذت بالتوسع، وأكثر ما تكون على حساب الجوانب الروحية كالقراءة والتزود بالمعرفة والثقافة والدين وإكتشاف المجهول والسيطرة على نوازع الشر والانشغال عن الجيل وتحديات التربية٠

أطفالنا ولغة الام

ونخص كذلك أطفالنا حول العالم التي دفعت بهم شرور الحروب والتلاطم السياسي وانتهاك حقوق الانسان أي حقه في العيش بعز وسلام في بلدانه وإحتواء الاختلاف في العقيدة والأصول والرأي والحد من أسباب التغرب الاضطراري٠

 

 

السؤال الذي يطرح نفسه

هل لغتنا ثقافة، هوية أو حب الوطن أو تراث أجدادنا وأصولنا أوعرق ؟ وإن كنا من أبوين كورديين لكننا لانتقن لغتنا كما ينبغي أن نكون٠ فمن الممكن أن يتقن ممن لم يكون كورديا لغتنا تعلمها وأجادها وتكلم بها ٠ لذا يجب التكلم بلغة الام أن تتكلل بحب الأرض (الوطن) وحب موسيقاها، خطها، جمالياتها وكل ماكتب فيها من تأريخ وأدب، شعر، وعلوم٠ رغم أن الفضاء الدراسي المتقدم لدينا انگلیزی والذي لابد يؤثر على لغة الام ٠ولكن لابد من وجود حلول بالخصوص٠ كون الحس العام في الأوساط الغير الدراسية هو (اللغة الكوردية ) رغم إفتقادها للجودة ٠ لذا يجب أن نبذل جهدا مع شيء من التخطيط والتنسيق والعمل مع المدارس والبيوت بقرار من الجهات المختصة للحفاظ على لغتنا كلغة الضرورة والهوية٠ للأسف فنحن قد تغاضينا في المدارس عن إظهار جمال لغتنا لاجيالنا وأريناهم على الأكثر ماهو صعب ورتيب ونسينا ماهو وجداني وفكري وأبقينا على ماهو مستعصي من غير البحث عن أساليب وطرق تحبب نفوس الأطفال في لغتهم (الام) وذلك بالتنسيق مع أصحاب الخبرة من اللغويين الواعدين لان التعليم الغير الجيد يتطلب مزيد من الرؤية والخبرة والتمرين، كوننا نتكلم اللغة الكوردية لايعني بالضرورة إننا نتقنها أكاديميًا، لذا تبقى المشكلة مع التعليم الجيد أن ينبع من الشعور بمسؤولية أحياء اللغة المستمر، وإستثماره في الأجيال وتوعيتهم إبتداءا من مرحلة الابتدائية فما فوق بثقافة اللغة وما يحيط بها على سبيل المثال من المحادثة المستمرة في محيطهم الاخذ والعطاء اللغوي السليم بين الطلاب والمربيين والمختصين وعن طريق النشاطات اللغوية من الأغاني، الشعر، الضرائف ، أقوال مأثورة، أمثال مقاطع لغوية، مصطلحات مركبة، المخزون اللغوي، القواعد وما الى ذلك من جماليات هذه اللغة مرادفات مما تتميز بها اللغة الكوردية الواسعة والمطاوعة للابداع في المجالات الأدبية أو العلمية واللعب على الكلمات (pans) فضلا عن ثقافة التخطيط والتفكير أو استخدام الكلمات البديلة في (اللباقة) لتفادي الإساءة الى مشاعر الغير مثلا، وتعلم اللغة الفصحى بشكل معقول، وعدم الحاجة الى التفكير لحين تتراود الكلمة الى ذهن الطالب أي التمتع بسلاسة الحديث ٠ ومن المهم أن تتمحور اللغة الكوردية في مرحلة الابتدائية من الصف الرابع على الأقل (وهذا لايعني إهمال اللغات الأخرى أبدًا (فاللغة الانگلیزیة) هي لغة العالم واللغة العلمية شئنا أم أبينا ولكن لغتنا تبقى الهوية٠ دراسة اللغة ليست فقط لاجل اللغة، بل يجب أن تبقى براقة لاجل المواضيع التي تعالجها هذه اللغة وخاصة في مرحلة الثانوية٠ وهناك طرق عديدة نحبب الطلاب في لغتهم كبحث أولي ونلاحظ النتائج ثم يصبح التطبيق جدي ليأتي ثماره وذلك عن طريق النصوص الممتعة التي يحبها الطلبة، وتوجيه الأسئلة بالخصوص، على سبيل المثال (لماذ قلت ذلك؟)، (ماذا تعني بذلك؟)، (وهل يمكنك تفسيره بشكل آخر أو تصوغها بكلمات أخرى) فهذا يعد تدريب لدماغ الطالب في المجال اللغوي، وإطلاع الطلبة على الشخصيات اللغوية وماذا قدموا لنا، لتكملة هذه المسيرة العلمية القومية ٠كما قلنا اللغة لاجل اللغة فقط تفقد بريقها وفعاليتها في معالجة الأمور٠ لذا نحتاج أن نعالج مع طلابنا في مرحلة الثانوية خصوصا مواضيع متعددة دقيقة تجذب إهتمامهم ، وتعود بالنفع والاهمية لهم وتشدهم الى اللغة التي تعد الوسيلة المهمة الى فهم ومعالجة تلك المواضيع٠ من المهم إنتقاء الكلمات الجميلة والثرية عند تناول مواضيع مهمة كالوطن، والهوية، والكتابة في مواضيع مختلفة كالقصص والمقال والنثر والشعر والملاحم مع مراعاة عدم الاكثار من التكرار، وبناء الخبرة لدى الطلاب لامتلاك الأسلوب القوي والهادف في الكتابة والتأليف ومن النقاط المهمة تخصيص الوقت الكافي لهذا الدرس لانه الوقت الضيق لايوفي بالغرض أبدًا، وقت يسأل البعض هل نحن بحاجة لهذا الدرس أساسا مادامت المناهج باللغة الكوردية في المدارس العادية وليست باللغة الانگليزية؟

الجواب نعم نحن بحاجة ملحة لأننا نخصص هذا الوقت للنصوص الأدبية، للشعر، لجماليات اللغة، لتقنيات هذه اللغة، للسجع، للزجل، لمعرفة موقع اللغة من الرابطة القومية٠كوننا أصحاب لغة متعددة المجالات لو أحسن تطبيقها حتى للخط له أهميته٠ لذا يجب أن تكون لنا مدارس متميزة تستثمر في أصحاب الخبرة والمعارف من المربيين والمعلمين والمدرسين، الذين لديهم الكثير ليقدموه من نتائج ملفته بحيث يكون الطلاب عند التخرج متميزين وليس فقط بلغة واحدة بل ثنائي اللغة أي لديهم اللغتين اللغة الكوردية والانگليزية على حد سواء بكفاءة وجدارة٠ حينئذ يتقنون لغتهم ويقدرون ثقافتهم وهويتهم ٠ وهذا يعد إستثمار ذكي٠ ونعرف حينها أين وكيف وعلى ماذا ندربهم ٠

لو ننظر الى البحث العلمي الذي له دور في مواضيع كهذه، إننا مازلنا نفتقد الى هذا الجانب المهم٠انه جانب غاية في الأهمية اليوم وبحاجة الى دعم، فالبحوث بحاجة الى فرق بحثية في أكثر من مجال ومنه اللغة فمثلا أين نحن اليوم من الصناديق البحثية الوطنية والتي تكون بحاجة الى قرار من الجهات العليا٠ كون الأبحاث بحاجة الى مراكز بحثية وأجندة بحثية جدية وطنية في أكثر من مجال وليست فقط في مجال اللغة ٠ وفعلا لدينا باحثون جيدون مبدعون لتخريج أناس شعلة في التعليم والتدريب وحينها لانضطر أن نأتي بخبراء من بلدان أخرى يأتونا بمعارف معلبة تعود لبلدانهم لا علاقة لها بالسياق الذي نحن فيه ٠

وسط فيض من الحلول الحل الاسهل هو الاستفادة دائما مما في متناول اليد (التكلم مع أولادنا بلغة الام وعدم تركهم أمام شاشات التلفزة والمبايل والأيباد لمصيرهم ومعالجة الأمور بهذ اللغة المهمة وبجمل كاملة ولغة مثقفة ان كنت مثقفا والاكثار من ذكر المصطلحات ليضطر أولادنا الاستماع لها والتعرف عليها وتدريب الادمغة على أصول لغتهم٠