تُشكل الثقافة في قيام الدول وبناؤها أساساً هاماً في استقرار الشعوب، وتشخص بأن لها حدود ومعالم، وماضٍ وحاضر، وآمال وطموحات تسهم في تمليك شعوبها الثقة والعلم في صناعة الواقع وتقدمه، وعلى ترسخ حسن العلاقات بين الدول المختلفة، والكيانات الحادثة، التي باجتماعها ومواقفها وتحضرها تزدهر الأمم، ويعلو البناء،والحكومة المخلصة تشرف في إدارة شؤونها، وترفع راية عزتها و نهضتها و’ تشكل الثقافة العمق الوجداني في حياة الشعوب والأمم، وإذا كانت التنمية في جوهرها تعمل على تعزيز مستويات العيش المشترك بين الناس، والنهوض بحياة الأفراد في المجتمع، فإن الجهود التنموية لا يمكنها أبدا أن تنفصل عن التكوينات الثقافية للمجتمع ، والثقافة تؤدي دورا محوريا في العملية التنموية ، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان في الميدان التنموي المعاصر بالنسبة للباحثين والمختصين’.
ان الدولة بتكامل سمات ثقافتها التي تعني كيان قائم، فاعل، ومنظومة حضارية لتحكيم مصالح الأمة فتكون اعمالها متقدمة ومنظمة ، وذلك من خلال الحكومة المدركة لمصالحها التي تشرف عليها، وتتابع إدارتها للمؤسسات السياسية والثقافية المختلفة، ولا ترقي الحضارات، وتتقدم الشعوب إلا من خلال الدولة ونظام حكومي واعي و الاستقلال السياسي الكامل الغير منقوص،
ان للثقافة التي تعني مجموعة من السمات المادية والفكرية والعاطفية ولغة وتاريخ وتراث وانتاجات فكرية وعاداة وانماط فكرية وسلوك تلك الدول ‘التي تتميز بها باتجاهاً عاماً ينعكس على ارتقاء الأذواق والتقدم الحضاري، والتمثيل الصادق لعادات المجتمع وتقاليده وعقائده وديانته، وتراثه و واقعه بما يكشف النقاب عن الآمال والطموحات، التي تأخذ كلَّ أمة من خلالها مركزها ومكانتها، وتقدير الشعوب الأخرى لها، وذلك هو التطور المشاهد في فعاليات المجتمع الدولي، الذي يعبر عنه ويكشف عن بعض تفاصيله: الإعلام والمؤتمرات، وتوصيف مقدار السبق والبروز، وحدود التقدم الحضاري الذي أخذت الدول الناهضة تنشده وتسعى إليه؛ حتى لا تتراجع من المقدمة إلى المؤخرة، أو من الأمام إلى الخلف.
لا احد يشك من كون ان الثقافة هي قوة مؤسسة وداعمة في البناء، وتوطين البشرية المستدامة، وخالقة المجتمعات المسلمة القائمة على مبدأ المساواة والحقوق والواجبات، إضافة إلى إسهامها في الحفاظ على النمو الاقتصادي وبالتالي القضاء على الفقر. ولهذا فإن الثقافة تُعد اليوم لها الركيزة الأساسية لتنمية المجتمعات، وبناء القدرات، وتعزيز الروابط والعلاقات بين القطاعات التنموية المختلفة، لأنها تحمل أبعادًا اجتماعية واقتصادية وبيئية وإذا أردنا تحقيق الأهداف التنموية الوطنية المستدامة علينا العناية بالثقافة ودعمها، وتمكين الصناعات الإبداعية، التي تُعد اليوم الملاذ الآمن للاقتصادات الواعدة في المستقبل، ولن تتمكن من ذلك سوى بتقييم واقع هذه الصناعات وكيفية النهوض بها في ظل التطور الهائل في منظومة التقنية وتنمية الابتكار، ويمكن للتكنولوجيا الرقمية الحديثة الدور الأسرع بعد ما أصبحت أداة رئيسية مكتشفة في العقود الاخيرة للتعبير الفني والثقافي والإبداعي و تحديات الفجوة الرقمية وتبدو وكأنها تتجاوز الجوانب التقنية، ومن ثم توضع في منظورها الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية . اذاً للثقافة كما يقول الفيلسوف الألماني عمانويل كانت ‘ مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقا من طبيعته العقلانية وهي أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه’.
لا تقف فعاليّة الثّقافة في مساراتها المحلية بل تتجذر وتأخذ فعاليتها وتقوى في قلب المجتمعات العابرة للقارات، أي في عمق الحياة الثقافية للعالم على مختلف تشعباتها وامتداداتها. ويتم هذا التفاعل الثقافي في المستوى العالمي بتأثير التكامل الفعال بين التنوعات الثقافية والبيولوجية في العالم، وهو نوع من التفاعل الذي لا يمكن أن تنفصم عراه. وقد تشكل هذا التكامل الثقافي من خلال عمليات التكيف الثورية المستمرة بين الإنسان ووسطه الطبيعي عبر التاريخ ،
من المخاطر التي تهدد هي إن أية ثقافة أو لغة تتعرض للانقراض أو تهدد بالزوال هي خسارة للبشرية وللإرث البشري وأن وعي البشر يتشكل من خلال المعطيات اللغوية أولا. من هنا اختلاف الوعي البشري وتنوعه الذي هو مصدر غني للبشرية ،لكن هناك وعيًا بذلك الخطر ودلالاته المستقبلية، ونحن نعتبر مسألة الاختراق الثقافي حقيقة جلية في هذا العصر، عصر الثورة المعلوماتية والاتصال الرهيب، ولكن المواجهة وعدم القبول بكل ما يفد إلينا، ليس والتقوقع والانعزال بل بالفرز والانتقاء والاستعداد والتكيف مع الواقع والدعوة إلى الخصوصية الحضارية والتمايز الثقافي والفكري، مع الانفتاح على الآخر والتفاعل مع الجديد المفيد
عبد الخالق الفلاح باحث واعلامي