سوريا ولادة من رماد الطغيان إلى صراع على هوية المستقبل – د. محمود عباس

 

في المستقبل القريب، ربما خلال عام واحد، قد تتاح الفرصة لبناء دولة ديمقراطية على أنقاض الدولة الإجرامية العنصرية، دولة بعيدة عن التعصب الديني والقومي. ولكن إذا لم تُستغل هذه الفرصة، ستطفو على السطح خلافات متعددة، بعضها يتعلق بفصل الدين عن الدولة وبناء نظام ديمقراطي، وأخرى مرتبطة بالطموحات التركية في سوريا، التي قد تتطور لاحقًا إلى صراع على السلطة بين الميليشيات المدعومة من تركيا، التي كانت تعمل تحت عباءة المعارضة السورية ومنظمات الحكومة المؤقتة، وبين هيئة تحرير الشام.

واليوم، مع زوال النظام وانتهاء دور المعارضة التقليدية، تستمر الفصائل التي تحتل مناطق عفرين وكري سبي وسري كانيه، وبدعم مباشر من تركيا، في تعميق الصراع القومي بين الكورد والعرب. هذا الصراع، الذي غرسه نظام البعث سابقًا، تغذيه تركيا بشكل منهجي لخدمة أجنداتها الخاصة، في حين كان يتوجب على هذه الفصائل العمل لصالح الشعوب السورية. تستغل تركيا البنية القومية والدينية الهشة لهذه الفصائل، التي تضم شرائح تجمع بين توجهات قومية عروبية تشمل منشقين عن نظام البعث، وأخرى إسلامية تتراوح بين الاعتدال والتطرف.

من المتوقع أن تبدأ هذه المنظمات بالصراع مع التيارات المنضوية تحت خيمة هيئة تحرير الشام، التي قد تتجاهل المصالح التركية بالكامل وتسعى إلى تحقيق مشروعها الإسلامي العربي السوري. الهيئة نفسها تضم تيارين رئيسيين: الأول يحمل فكرًا متطرفًا يشمل فلول داعش، والآخر يميل إلى نهج ليبرالي مستوحى من حزب العدالة والتنمية. على الأرجح، سيتفاقم الصراع بين التيارين داخل هيئة تحرير الشام قبل أن يتطور إلى مواجهة أوسع بين الفصائل ذات التوجهات الإسلامية والقومية.

ولا يمكن إغفال دور المعارضة السياسية التي كانت لها ثقل كبير داخل سوريا قبل ظهور النصرة وهيئة تحرير الشام، وقبل تشكيل المنظمات المدعومة من تركيا لخدمة أجنداتها الخاصة. هذه المعارضة، التي كانت تمثل طيفًا واسعًا من القوى السياسية، أصبحت تدريجيًا أقل تأثيرًا بعد صعود المنظمات الإسلامية التكفيرية والفصائل المسلحة.

الصراع المحتمل قد يحول المنظمات السياسية المعارضة، التي تخضع لوصاية تركية أو سعودية أو إقليمية أخرى، إلى قوة سياسية مكافئة قد تواجه النفوذ العسكري لهذه الفصائل. هذا السيناريو يذكرنا بالقوى التي واجهت آلة النظام البائد في بدايات الثورة السورية، قبل أن يتم حرف مسار الثورة على يد التنظيمات التكفيرية والإسلامية المتطرفة.

المواجهة العسكرية بين المنظمات المسلحة تبدو احتمالًا واردًا في مرحلة قد تستغرق عامًا أو أكثر بقليل، لكنها ستكون كارثية مقارنة بالخلافات القومية والطائفية مع سلطة هيئة تحرير الشام، التي تبدو أقل تعقيدًا. هذه الخلافات يمكن معالجتها عبر مطالب قومية وحقوق ضمن إطار النظام القائم، لكنها تبقى مشروطة بمدى مرونة هذا النظام وقدرته على استيعاب التنوع وحل الأزمات بطرق عقلانية.

الصراع الحقيقي، مع ذلك، سيكون حول السيطرة على السلطة، إلى جانب محاولة تحقيق مصالح الدول الإقليمية المتنافسة، خاصة بين المحاور التركية والعربية، في مشهد مشابه للصراعات التي وقعت بين إيران وميليشياتها وبين الدول العربية. ومع انهيار أدوات إيران التقليدية في سوريا، تتصاعد أدوات تركيا المتمثلة في التنظيمات السنية التكفيرية والجماعات الإخوانية التي تدعي الليبرالية، محاولة أن تحل محل الميليشيات الإيرانية. رغم الاختلاف في النهج بين إيران وتركيا، فإن الأهداف تظل متشابهة، وهو ما قد يؤدي إلى نزاع دموي يعمق الأزمات ويزيد من معاناة السوريين.

السوريون اليوم يعيشون نشوة التحرر من نظام طاغية غادر البلاد هاربًا مع حاشيته، كما قالت إحدى الناجيات من سجونه: “نحمد الله أنه لم يُقتل، وإلا لوجد من يصفه بالبطل، لكنه الآن هرب قذرًا وذليلًا.” ولكن هذه النشوة قد تتبدد مع تعمق الصراعات وغياب الحلول السياسية، مما يترك مستقبل سوريا في مهب الريح، مرهونًا بإرادة القوى الإقليمية والدولية.

رغم هذه التحديات، يبقى الحل الأمثل هو بناء نظام ديمقراطي بعيد عن التعصب القومي والديني، حيث إن رفع الشعارات الدينية التي تنتهجها هيئة تحرير الشام لا يختلف كثيرًا عن الشعارات القومية العنصرية التي كان يروج لها حزب البعث.

في هذا السياق، يُعد حل القضية الكوردية مفتاحًا أساسيًا لمستقبل سوريا كدولة تتسع للجميع. الاعتراف بالحقوق القومية للكورد، وضمان مشاركتهم في صنع القرار السياسي، وإعادة الأراضي المصادرة، خطوات جوهرية تضمن وحدة سوريا وتبعدها عن شبح التقسيم والدعايات الموجهة ضد الحراك الكوردي. هذا التقارب لن يقتصر على طمأنة الكورد فقط، بل سيمتد ليشمل المكونات الأخرى الأقل ثقلًا، إلى جانب المكونات الدينية، مما يرسخ مفهوم الشراكة الوطنية. الكورد، بموقعهم الجغرافي وتنوعهم الثقافي، يشكلون عامل استقرار محوري لسوريا، وتحقيق العدالة لهم سيضع أسسًا لوطن يحتضن الجميع، حيث يساهم كل مكون في إعادة بناء البلاد بعيدًا عن سياسات الإقصاء التي دفعت بسوريا إلى حافة الانهيار.

النشوة بزوال النظام الإجرامي، ورغم أنها مبررة، ستتلاشى مع الوقت، ليجد الشعب السوري نفسه أمام أسئلة مصيرية حول طبيعة النظام الجديد، الهوية التي ستشكل ملامح المستقبل، والخوف من هيمنة الإسلام السياسي المتطرف. الجميع يعرف من هو الجولاني ومن هي جبهة النصرة، حتى وإن غيرت مظهرها أو اسمها.

سوريا، التي تخلصت من طغيان طويل، تقف الآن أمام فرصة نادرة لبناء وطن جديد يليق بتضحيات أبنائها، وطن يقوم على المساواة ويبعد شبح التقسيم، ليصبح نموذجًا يُحتذى به في المنطقة. لكن هذا الحلم سيبقى مشروطًا بتجنب السقوط في مستنقع شبيه بما كانت عليه سوريا السابقة، حتى لو أتى بوجه مختلف تمامًا.

ولإنقاذ سوريا من خطر الصراعات الداخلية، يصبح الحوار الوطني مع جميع الأطراف ضرورة ملحة، باستثناء مخلفات النظام المجرم وحزب البعث. على سبيل المثال، يُتوقع أن يبدأ قريبًا حوار مع حكومة أو قوى الإدارة الذاتية، والتي يجب أن تقدم مشروعًا يتسم بالوضوح ويتوافق في خطوطه العريضة مع المجلس الوطني الكوردي، حتى وإن كان المجلس الوطني الكوردي لا يزال جزءًا من الحكومة المؤقتة التي تمثل الائتلاف الوطني السوري.

المطلب الأساسي يتمثل في بذل جهود لإقناع قوى حكومة الإنقاذ بقبول الطروحات الوطنية التي ستُعرض عليهم، مع التأكيد على أن النظام اللا مركزي الفيدرالي يمثل الحل الأمثل لسوريا المستقبلية. هذا النظام ليس فقط وسيلة لحماية البلاد من خطر الانقسام، بل هو خطوة أساسية لمعالجة الدمار الهائل الذي خلفه النظام المجرم البائد.

الفيدرالية تفتح المجال لخلق شراكة حقيقية بين جميع مكونات المجتمع السوري، مما يتيح إعادة بناء سوريا كوطن ديمقراطي يحتضن جميع أبنائه. هذه الرؤية تتطلب التحرر من هيمنة الإسلام السياسي ومنطق الهيمنة القومية العربية، لتأسيس دولة تعكس تنوعها وتضمن العدالة والمساواة بين جميع مكوناتها.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

12/12/2024م

6 Comments on “سوريا ولادة من رماد الطغيان إلى صراع على هوية المستقبل – د. محمود عباس”

  1. لنناقش الاستاذ الكاتب..
    تقول جنابك الكريم..(رغم هذه التحديات، يبقى الحل الأمثل هو بناء نظام ديمقراطي بعيد عن التعصب القومي والديني، حيث إن رفع الشعارات الدينية التي تنتهجها هيئة تحرير الشام لا يختلف كثيرًا عن الشعارات القومية العنصرية التي كان يروج لها حزب البعث.).. اها
    سؤال:
    تقول بعيدا عن التعصب القومي ..ماذا تقصد به؟ وماذا تقصد (الشعارات القومية العنصرية التي كان يروج لها حزب البعث).. فاذا سالك عربي سوري.. ما الفرق بين شعارات حزب البعث وحزب قسد او الاحزاب الكردية بالمحصلة؟ وكلاهما احزاب قومية.. تطالب بدول قومية عابرة للحدود.. قائمة على العنصر القومي..

    ثانيا:
    تكتب جنابكم الكريم (هذه الرؤية تتطلب التحرر من هيمنة الإسلام السياسي ومنطق الهيمنة القومية العربية، لتأسيس دولة تعكس تنوعها وتضمن العدالة والمساواة بين جميع مكوناتها.)..
    ماذا تقصد بمنطقة الهيمنة القومية العربية؟ فهل مناطق كوردستان التي يطرحها القوميين الكورد لا تضم مناطق عربية وتركمان ومسيحيين وغيرهم.. فهل يمكن ان نقول منطق الهيمنة القومية الكردية؟

    مجرد تساؤلات والله بريئة لا اهدف الا ان يوضح لنا ذلك..

    1. يا حسين أذا كان جنابك لا يعرف الفرق بين حزب البعث و قسد فهذه مشكلة كبيرة لديك. الا تقول لي لماذا أنضم العرب الى قسد أذا كان مشابها لحزب البعث؟ الم يكن الافضل لهم البقاء مع البعث العربي الاشتراكي بدلا من اختيار قسد؟ لكن الحقيقة هي أن قسد ليس بحزب قومي و هو لا يناضل من اجل الكورد فقط بل من أجل جميع القوميات العائشة في سوريا. قسد لديها مشروع الادارة الذاتية أي سياسة البلديات التي تدير نفسها. الا يعلم قسد أن الرقة مدينة ذات أغلبية عربية و مع ذلك هي ضمن الادارة الذاتية. لعلمك فأن حوالي نصف قواة قسد من العرب و و الطوائف الاخرى. قسد لا يحمل العلم الكوردستاني ولم يفرض اللغة الكوردية على أحد. حضرتكم تنقلون النظرة التركية و تنشرون الرؤية التركية لقسد.
      الحزب القومي الكوردي في سوريا هم المجلس الوطني الكوردي… قسد و لا تحمنل حتى أسما كورديا. فهي قواة سوريا الديمقراطية.. و حتى الحزب المسيطر هناك أسمة الاتحاد الديمقراطي… لا يحمل أسم كورد ولا كوردستان. أنها تركيا التي تتهمهم بالانفصاليين و الارهابيين لأنهم ليسوا عملاء لها. هذه هي القصية .

  2. سؤال ثالث للاستاذ الكاتب..
    لطفا.. تقصد سوريا لكل السوريين.. ومنهم اكراد سوريا.. ولكن كوردستان للاكراد؟
    هذا السؤال اوجهه لاكراد العراق باقليم كوردستان العراق .. ايضا..
    صدقوني اطرح تساؤلات.. ضرورة طمئنة باقي المكونات بالدول التي يتواجد بها الاكراد..
    تحياتي

    1. عزيزي حسين كاظم.
      لن أجيب على أسئلتك السابقة مباشرة، لأنها للأسف تعكس نقصًا واضحًا في الإلمام بالقضايا المطروحة، أو ربما رغبة في التغاضي عنها، أو حتى تناسيها. كما أن الأخ كارزان قد أجاب على جزء منها مشكورًا.
      فيما يخص الدولة السورية “لكل السوريين”، أجد أنك تكرر ذات المعضلة، وهي إما عدم معرفة حقيقية بجذور القضية، أو التناسي المتعمد. سوريا، يا عزيزي، كيان لقيط، صُنع على يد الاستعمار الفرنسي دون أي اعتبار للمكونات العرقية والدينية المتنوعة في المنطقة. تأسست وفقًا لمصالح فرنسا بالتنسيق مع بريطانيا وتركيا الكمالية، وحينها تم اقتطاع جزء كبير من جغرافية كوردستان وإلحاقه بالدولة السورية الناشئة. جميعنا نعرف كيف أُعيد رسم خريطة الشرق الأوسط على أنقاض الإمبراطورية العثمانية.
      الغريب أن العرب والترك قبل الكورد، لا يزالون يتذمرون من اتفاقية سايكس بيكو، التي شارك في وضعها وزير خارجية روسيا القيصرية حينها. لكن عندما يتعلق الأمر بإعادة النظر في تقسيماتها الظالمة، يتمسكون بنتائجها ويبررونها! هذه المواقف المتناقضة تثير الحيرة، ومن المؤسف أنك تطرح أسئلتك بنفس هذه المنهجية، التي أعتبرها مستنقعًا فكريًا يستوجب إعادة النظر.
      أما كوردستان، فهي لكل الكورد ولكل الأقليات القومية والدينية التي تعيش على أرضها، تمامًا كما نقول إن السعودية للعرب. ولكن هل يمكن أن نقول إن سوريا والعراق ومصر وشمال إفريقيا وفلسطين هي فقط للعرب؟ أو أن إيران للفرس فقط، وتركيا للأتراك فقط؟ هذه الدول لا تقتصر على شعوبها الأصلية أو المهيمنة، بل هي أمم متعددة المكونات، لكن الأنظمة الشمولية القمعية المسيطرة على زمام الأمور فيها هي التي تعمق هذا التقسيم العنصري.
      المشكلة الحقيقية، يا عزيزي، تكمن في المثقف العربي، الذي رغم كل مجريات الأحداث والتحولات العالمية، لا يزال عاجزًا عن التحرر من العقد الذهنية التي زرعتها الأنظمة السابقة، ومن الصور النمطية التي فرضتها عليه.
      اسمح لي أن أسألك: ما الذي يمكن أن يخسره الإنسان العربي أو الفارسي أو التركي إذا تحررت كوردستان وأصبحت دولة ديمقراطية عصرية تعيش بسلام مع دول المنطقة؟ ما الذي ستخسره أنت كمثقف لو كانت كوردستان دولة ديمقراطية تُرحب بالجميع، وربما تكون مواطنًا فيها يومًا ما؟
      لقد طالبنا مرارًا أن تكون الدول التي تحتل كوردستان دولًا ديمقراطية وإنسانية، خالية من العنصرية والشوفينية. لكن للأسف، الأنظمة الحاكمة، والتي تدعمها شريحة واسعة من المثقفين العرب والفرس والترك، هي التي دفعتنا إلى تبني هذا الخطاب، لأنها جعلت الحلول السلمية والتعايش الديمقراطي شبه مستحيلة.
      مودتي.

  3. يا استاذ الكريم معا احترامي لك و انتم المثقفين صرتم مثل أحزاب و القادة الكورد كلام بدون افعال و بكلام لا يتحرر كوردستان يا استاذ الكريم و هل الكورد هم نائمون او هم جبنا و نعم الكورد جبنا ولا لديهم روح القومية و الوطنية و هم لا يريدون استقلال كوردستان . فمن افضل ان تناقض أحزاب الكورد و القادة الكورد الجبنا و شعب بدون فايده و الكورد سوف يظلون متفرقين و يظلون عبيد وبلا قيمة و ناقد أحزاب الكورد و القادة الكورد و حاربو هم لكي يتوحدو او يتركو الشعب ولا يتاجرو بدم الشعب و بكوردستان. فلعنا على أحزاب الكورد و القادة الكورد

  4. سيضل الكوردي يحلم بالديمقراطية في البلدان التي يعشونها وسيضل يحلم ان يكون الكوردي ياخذ حقه. ولكن اعداء الكورد المسيطرون على هذه الدول يفكرون كيفية التخلص من الكوردي. اليست في تركيا ديموقراطية ولمئة سنة ماذا كان مصير الكوردي غير التهميش وقتل الهوية. اما اذا اخذ الكوردي جزا بسيطا من حقوقه تسلط عليه بنو جلدته وحرمه من ابسط حقوقه كما حصل في كوردستان العراق. فليفهم الكوردي ان مصيره النزوح والقتل وعدم الاستقرار وتغيير ديموغرافي لمناطقه وكافي احلام. نحن شعب متخلف عشائري جاهل مصيرنا الزوال. انظر الى البارتي والايكتي ماذا يفعلون في الكورد. هذان الحزبان غارقان في الفساد والسرقات ومساعدة العدو في التغيير الديموغرافي يبنون الاف العمارات باسم الاستثمار ويبيعونها لغير الكورد وبيعهم عشرات الاف البراميل من النفط يوميا والشعب الكوردي لايجد قوت يومه. انظروا الى البككة التي ياخذها التركي ذريعة ليضرب الكوردي حتى في المريخ انظر الى نضاله واهدافه وشعاراته المفلسة المقيتة الفاشلة. انظروا الى حزب الايكرتو الكوردي وانصاره اللذين يتضرعون لربهم ليل نهار ان ينصر حبيبهم اردوكان المجرم اللذي يفكر ليل نهار كيف يدمر الكورد. نحن شعب جبان جاهل لانستحق الحياة.

Comments are closed.