مازلت أتذكر في مرحلة الطفولة عندما كان المؤذن في الجامع القريب إلى البيت يختتم الأذان بدعاء قصير خاتمته ( اللهم لا تسلط علينا من لا يرحمنا ) هذا الدعاء زرع في اذهاننا منذ الصغر بإننا نحن البشر رهين الحاكم ومزاجه ، شاء أن يرحمنا أو شاء أن لا يرحمنا والرب هو المسؤول عن ذلك لأن الرب هو من يسلط الحكام على الناس . فهو في الحقيقة يمكن تسميته دعاء العبودية ، لأن العبيد فقط يظنون بأن الحاكم له الحق والسلطة في التصرف بشؤون الناس يرحمهم متى يشاء ولا يرحمهم متى يشاء ، فيستطيع أن يظلم ويستطيع أن يذل ويعز ، أما الأحرار فلا يخاطبون الرب بهذا الخطاب المذل لأنفسهم والمجحف بحق خالقهم . هذه واحدة من مشاكلنا عندما يكون الدين ورجال الدين سبباً لفقداننا البوصلة وسبباً لدفع الناس بتحميل الرب مسؤولية عبوديتهم . في مقابل هذا الخطاب الديني يظهر خطاب أخر بأن الشعوب هي من تصنع الحكام ، فالشعوب التي تتقبل العبودية تصنع الحكام الذين يستعبدون الناس ، وتصنع الحكام الجائرين ، والشعوب الحرة تصنع الحاكم الذي يكون هو العبد والخادم لها ، فهي نتيجة طبيعية لطبيعة الشعب وثقافة الشعب والفكر الذي يتحكم بعقول الناس .. وفي نفس الدعاء يظهر لنا لغز آخر ، وهو أن الحاكم الظالم الذي لا يرحم هو أختيار الله لنا ، أي أننا أبرياء من هذا الاختيار ، والرب وحده يتحمل المسؤولية للإختيار السيء بمعنى الرب ممكن أن يكون سيئاً ، لذا نحن نتوسل بالرب ليغير أختياره ، بمثل هذه المفاهيم تم تدمير عقول أجيال واجيال وأصبحنا نتقبل العبودية كواقع حال ، ولحد يومنا هذا نعاني من عقدة الحاكم فنستغرب عندما نسمع بأن بعض الشعوب انتفضت وحررت نفسها من الحاكم السيء ، ونستغرب من بعض الشعوب والأمم عندما نعرف بأن الحاكم عندهم مجرد موظف لخدمة شعبه لأن عقولنا لا تتقبل أن الحاكم إنسان عادي ، إذا كان شيخ القبيلة عندنا إنساناً مرعباً يخشاه الناس ، إذا كان رجل الأمن إنساناً مرعباً تنصاع له الناس فكيف بالحاكم …. صحيح أننا لا يصح أن نحمل أنفسنا كل السوء الذي يحدث فينا فنحن أيضاً ضحية ، فهناك موروثات هائلة لعبت دورها في البناء النفسي السيء والبناء العقلي السيء الذي يعيشه هذا الجيل . أنا هنا أطرح واحدة من الأمثلة الحية بينما تختبىء وراءها الالاف من الأمثلة التي لعبت دورها في تحجيم وتحجير عقول الناس ومازالت هذه الأمثلة قائمة ويعتمدها الناس في سلوكياتهم الحياتية ، لهذا السبب نحن بحاجة ماسة لمراجعة موروثاتنا التي هي الأساس في تخلفنا وتراجعنا .. عندما يدعون الله فيقولون له ( اللهم ارزقنا ) لأن الرزق بيد الله وهم جالسون كُسالى لا يحبون العمل ولا يتحركون للرزق متناسين بأن الله يقول ( وإن ليس للإنسان إلا ما سعى ) بمعنى السعي للرزق أولاً وليس الدعاء أولاً أو أن السلطة الحاكمة بسبب غباءها الإداري أو فسادها جعلت فرص العمل وكسب الأرزاق للناس شحيحة وكأنهم منعوا الأرزاق عن الناس . فالذي يمنع الرزق عن الناس يجب إزالته قبل أن نذهب للرب لنطلب منه الرزق أو أنهم يقولون ربنا شافينا وهم يرفضون الذهاب إلى الطبيب أو يفتقرون للمؤسسات الصحية ، أو أنهم يقولون ربنا أنصرنا وهم لا يمتلكون مقومات النصر فيهزمون وبعد الهزيمة يعتبرون هزيمتهم أختباراً من الله ولا يذهب تفكيرهم إلى تشخيص العلة ، هذه الأمثلة تدلنا على حقيقة واحدة مفادها بأننا مجتمعات أسيرة الأفكار الميتة تبحث عن المبررات لعجزها وخذلانها وتحاول أن تجد شماعة لتبرير عجزها ، فما يرشدنا به رجال الدين بأن لا نفكر ولا نسعى ولا نواجه الحاكم فالمبرر جاهز وهو أن الأمر كله بيد الله ، بهذه الطريقة قتلوا عقولنا ، يريدوننا أن نضحي بأنفسنا لقتال العدو الذي يتفوق علينا بكل شيء ولا نفكر بقتال التخلف الذي فينا ، فكل الخطابات الدينية والاجتماعية تصب في خانة الرضوخ والاستسلام والقناعة بالموجود إلا خطاب واحد أن لا نقيس الأمور بميزان عقولنا لأن ذلك من وحي الشيطان كما يقولون ، أنا هنا بصدد طرح هذه الأمور لتوضيح نقطة جوهرية بأننا شعوب متخاذلة مهزومة ، لم يأتي كل ذلك من فراغ ، إنما هي ثقافة متوارثة انتقلت إلينا من الأولين فأمتدت وتجذرت في عقولنا فلا نسمح لأنفسنا بمراجعتها خوفاً من غضب الرب ، فنظن بأن تحررنا من هذه المفاهيم نكون قد خرجنا من الدين ، فهل هناك أناس مغفلين مساكين أكثر منا ؟ عقولنا ممسوخة ونتباهى بأننا الأفضل .. للعلم لا توجد ثقافة سيئة في أي مجتمع إلا وتجد وراءها فئات اجتماعية قليلة مستفيدة من هذه الثقافة السيئة وطبقات اجتماعية واسعة متضررة من هذه الثقافة خاصة إذا كانت هذه الثقافة مغلفة دينياً فمن يعترضها يجد نفسه من اصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير وعليه لعنة الله ولعنة الناس أجمعين .