في سوريا المنتصر لا يجادل بل يفرض قدره – د. محمود عباس

 

صدى الحقيقة بين جدران الصمت يعكس ما يقال عن “الحكومة السورية الانتقالية”، التي شكلها قادة هيئة تحرير الشام والمنظمات الموالية لها، بما في ذلك التنظيمات المصنفة إرهابية عالميًا والمدرجة ضمن قوائم الجرائم ضد الإنسانية لدى الدول الكبرى وفي سجلات هيئة الأمم ومنظمات حقوق الإنسان. ورغم ذلك، فإن أي نقد يوجه لهذه الحكومة يبدو أشبه بالصراخ في وجه أصنام الحقيقة، حيث يتردد الصوت بين جدران الإنكار ولا يجد صدى في عقل السلطة المنتصرة.

في منطق التاريخ، المنتصر لا يفاوض ولا يتقاسم، بل يفرض رؤيته ويكرس واقعه. هذا ما نراه اليوم مع هيئة تحرير الشام التي لم تنتصر فقط على النظام السوري المجرم بقيادة بشار الأسد، بل أيضًا على الفصائل المعارضة الهشة، التي كانت تدّعي حمل راية الثورة لكنها تحولت إلى أدوات متفرقة في أيدي قوى إقليمية ودولية.

لقد هزمت الهيئة المعارضة السياسية المنقسمة على ذاتها، وأحبطت مساعي الائتلاف الوطني السوري وهيئة التفاوض، وأزاحت المنظمات السياسية والعسكرية التي لم تكن سوى أسماء بلا تأثير حقيقي، بل وحتى المجموعات التي شكلتها تركيا لمحاربة الكورد والإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، بينما لم يكن النظام نفسه في دمشق ضمن أولوياتها القتالية.

انتصرت، حتى ولو كان مؤقتا، على المعارضة الوطنية النزيهة، التي كانت في الأصل نواة الثورة السورية، قبل أن يتم اختراقها والانحراف بها عن مسارها.

انتصرت على المعارضة المتواطئة مع النظام، أو تلك التي أنشأها النظام نفسه ليظهر أمام المجتمع الدولي بمظهر المتسامح مع معارضة ديمقراطية زائفة

انتصرت على الضباط والسياسيين البعثيين المنشقين، الذين التحقوا بمعارضات انتهازية، ساعين وراء المصالح المادية، ومتواطئين مع الجهات الخارجية التي استغلت القضية السورية لتحقيق أجنداتها.

انتصرت على فصيل من الحراك الكوردي، الذي ارتمى في أحضان بعض أطراف المعارضة المذكورة، متجاهلًا قضيته القومية مقابل وعود زائفة.

لكن كما يقول ميكيافلي في الأميرالمنتصر يمكنه أن يحكم بالسيف، لكن دون ولاء الشعب سيظل ضعيفًا. فرغم انتصار الهيئة على كافة الأطراف السياسية والعسكرية، فإنها لم تنتصر على الشعب السوري بمكوناته الإثنية والقومية.

  • لم تنتصر على الشعب الكوردي في سوريا، ولا على قوات سوريا الديمقراطية التي تضم مختلف مكونات المجتمع السوري.
  • لم تنتصر على القيم المدنية والديمقراطية، ولا على الوعي المتزايد بأن سلطة الأمر الواقع لا تدوم إذا لم تستند إلى شرعية مجتمعية حقيقية.

عبر التاريخ، لم يتنازل المنتصر طوعًا لصالح القوى المهزومة. من نابليون بونابرت الذي أطاح بجمهورية فرنسا الأولى وأسس إمبراطوريته على أنقاضها، إلى ستالين الذي سحق المعارضة وأقام نظامًا مطلقًا، إلى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية حين فرضت رؤيتها عبر مشروع مارشال، لم يحدث أن منحت قوة منتصرة خصومها المهزومين دورًا في الحكم إلا إن كانت مضطرة.

ما يطلبه بعض السياسيين والمثقفين السوريين اليوم – أن تكون هيئة تحرير الشام ديمقراطية وعلمانية وتحكم بالقانون – ليس سوى وهم ساذج يتجاهل سنن التاريخ ومنطق السلطة. فالسلطة، كما يقول نيتشه، ليست فعلًا بريئًا، بل رغبة في “القوة”، ومن يملكها لا يفرّط بها إلا مكرهًا.

المعادلة الدولية والإقليمية: كيف تساهل العالم مع الهيئة؟

  • تغاضت القوى الغربية، بما فيها أمريكا وأوروبا، عن تصاعد نفوذ الهيئة رغم تصنيفها إرهابية.
  • تناست واشنطن مكافأة الـ 10 ملايين دولار التي وضعتها على رأس زعيم الهيئة، ليصبح رئيسًا لحكومة سوريا المستقبلية.
  • بدأت بعض القوى الإقليمية في إعادة تشكيل موقفها من الهيئة، على أمل أن تظل شريكًا يمكن التفاوض معه.

لكن، في النهاية، تبقى الحقيقة أن القوة تصنع الواقع، وأن المنتصر – سواء كان مستبدًا أم مصلحًا – لا يبني حكمه على مطالب المهزومين، بل على إرادته ورؤيته الخاصة، ما لم تظهر قوة جديدة قادرة على فرض واقع مغاير. فهل سيأتي يوم تتغير فيه موازين القوة، أم أننا أمام مشهد آخر من مشاهد الصراعات الشرق أوسطية التي يعاد إنتاجها عبر التاريخ؟

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

30/1/2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *