منذ فجر التاريخ، ظل الكورد يُجسِّدون واحدة من أكثر القضايا تعقيداً في الشرق الأوسط: صراع وجودي بين الحفاظ على هوية مميزة ومواجهة سياسات ممنهجة لطمسها. بين جبال زاغروس الوعرة وجدران الدول القومية الحديثة، تشكلت هوية الكورد عبر دماء المقاومة ودموع التهجير، لتبقى أسئلة الهوية والانتماء تلاحقهم أينما حلّوا. كيف يحافظ شعبٌ مُقسَّم بين أربع دول على وجوده في عالم يرفض حتى الاعتراف بحقه في الاسم؟
الجغرافيا السجَّان: حين تحوّلت الجبال إلى حدود وطنية
لم تكن جبال زاغروس ملاذاً آمناً للكورد فحسب، بل سجناً جغرافياً حوَّلهم إلى رهائن في دولٍ نَشأت على أنقاض اتفاقية سايكس-بيكو. فبين تركيا وإيران والعراق وسوريا، توزع الكورد كأمة كبيرة تواجه سياسات قومية متطرفة ترفض تنوعها. لطالما مثَّلت الجغرافيا لعنةً مزدوجة: حمَتهم من الغزاة، لكنها عزلتهم عن بعضهم، وحوَّلت أرضهم إلى ساحة لصراعات إقليمية ودولية. فالدول التي تحتضنهم لم ترَ فيهم إلا تهديداً لوحدتها، فشرعت في تفكيك هويتهم عبر إستراتيجيات متعددة، بدءاً من إنكار الاسم وانتهاءً بالتهجير القسري.
سياسات الطمس: من التتريك والتفريس إلى التعريب… حرب على الذاكرة
واجه الكورد عبر عقود حروباً غير معلنة على هويتهم. ففي تركيا، جُردوا من اسمهم ولغتهم، وصُودرت أراضيهم تحت شعار “أمة واحدة، لغة واحدة”. وفي العراق، حوَّلت سياسات التعريب مدناً مثل كركوك إلى ساحات صراع ديموغرافي. بينما واجه كورد إيران قمعاً مزدوجاً: قومياً تحت غطاء “الوحدة الإسلامية”، وثقافياً عبر حظر التعبير بلغتهم الأم.
لكن الكورد، رغم ذلك، حولوا البيوت والمدارس السرية إلى حصون للثقافة. حافظوا على لغتهم عبر الشعر الشفهي والأغاني التي تناقلتها الأجيال، ورسموا بدمائهم تاريخاً موازياً للتاريخ الرسمي الذي حاول محوهم.
الشتات: هوية بلا أرض أم جذور في الريح؟
مع تصاعد القمع، تحول ملايين الكورد إلى لاجئين في أوروبا وأمريكا، حاملين معهم جراح الماضي وحلم العودة. لكن الشتات، رغم دوره في تدويل القضية الكوردية، يطرح إشكالية جديدة: كيف تحافظ الأجيال الجديدة على ارتباطها بلغة لم تسمعها إلا في المنزل، وبثقافة لم تعشها إلا عبر الشاشات؟
هنا، تحولت التكنولوجيا إلى سلاحٍ فعَّال. فمنصات التواصل الاجتماعي والمحطات الإعلامية الناطقة بالكوردية، مثل “روداو” و”كوردستان 24″ وروناهي وغيرها، حوَّلت الشتات إلى جسر بين الماضي والحاضر، بينما تُنظم الجمعيات الكوردية في المهجر حملات ضغط دولية لكسر جدار الصمت حول معاناتهم.
المرأة الكوردية: من حارسة الهوية إلى أيقونة المقاومة
لم تكن المرأة الكوردية مجرد حارسة للتراث في المنزل، بل تحولت إلى رمز عالمي للمقاومة بعد أن قادت وحدات حماية المرأة (YPJ) معارك شرسة ضد داعش في روجآفا. صور المقاتلات الكورديات وهن يحملن السلاح والكتب معاً هزت العالم، وكشفت عن نموذج فريد يجمع بين النضال المسلح والدفاع عن قيم التحرر والمساواة.
لكن دور المرأة يتجاوز ساحات القتال؛ فهي كاتبة وشاعرة وناشطة تسعى لبناء هوية كوردية حديثة تتسع للجميع. هنا تكمن المفارقة: بينما تقاتل المرأة من أجل هوية قومية، فإنها تدفع أيضاً نحو هوية أكثر انفتاحاً على حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
الإعلام الكوردي: صوتٌ يخترق جدار الصمت في عالمٍ تُسيطر عليه الروايات الرسمية، نجح الإعلام الكوردي في كسر الاحتكار. فمن إذاعات سرية في الثمانينيات إلى قنوات فضائية ومواقع إلكترونية اليوم، أصبح الكورد يروون قصتهم بأنفسهم. لم يعد العالم يعتمد على روايات الأنظمة المضطهدة، بل يسمع أصوات الضحايا مباشرة.
لكن هذا الإعلام يواجه تحدياتٍ جسيمة: ففي تركيا، تُغلق القنوات الكوردية بحجج أمنية، وفي إيران يُعتقل الصحفيون بتهمة “الانفصال”. رغم ذلك، يبقى الإعلام الكوردي شاهداً على أن الهوية لا تُقتل إلا بقتل آخر حامل لها.
مستقبل الهوية: بين شمولية العولمة وأمل الاعتراف
في عصر العولمة، تواجه الهوية الكوردية مفارقة صعبة: فمن ناحية، تهدد الثقافات المهيمنة بابتلاع التقاليد المحلية، ومن ناحية أخرى، تفتح العولمة آفاقاً لنشر هذه الهوية عالمياً. الأغاني الكوردية تتصدر قوائم الموسيقى العالمية، والأدب الكوردي يُترجم إلى عشرات اللغات، لكن هل يكفي ذلك لتعويض قرون من الاضطهاد؟
الجواب يعتمد على عاملين: الأول، قدرة الكورد على توحيد رؤيتهم السياسية رغم انقساماتهم الجغرافية. والثاني، ضغط المجتمع الدولي على الأنظمة التي تنتهك حقوقهم. ففي العراق، تمنح إقليم كوردستان حكماً ذاتياً هشاً، وفي سوريا تبقى تجربة الإدارة الذاتية تحت التهديد، أما في تركيا وإيران فلا يزال الطريق إلى الاعتراف طويلاً.
الهوية ليست مجرد ماضي… بل مستقبل يُصنع بالمقاومة
الهوية الكوردية ليست حجراً أثرياً يُحفظ في المتاحف، بل نهرٌ يجدد مساره كل يوم. إنها تُبنى في مدارس سرية تحت القصف، وفي ساحات القتال حيث تُرفع الأعلام، وحتى في غرف المهجر حيث يتعلم الأطفال كلماتٍ من لغة أجدادهم. رغم كل محاولات الإقصاء، يثبت الكورد أن الهوية ليست حدوداً على الخريطة، بل إرادة شعب يرفض الاندثار. السؤال الآن: هل سيبقى العالم صامتاً أمام أحد آخر الفصول المأساوية لـ”الهويات الضائعة” في القرن الحادي والعشرين؟
أزاد فتحي خليل
كاتب وباحث سياسي