د. محمود عباس- كيف تُدار الحرب ضد الكورد بوجوهٍ بلهاء وألسنة مأجورة؟

أقنعة الجهل والخداع، بلاهة مدروسة وكراهية مبرمجة، تعابير الوجه كأداة لخداع الجماهير.

في الآونة الأخيرة، بات من الجلي أن بعض المحاورين المدافعين عن الطغيان التركي، أو المروجين لاستراتيجيات الأنظمة المعادية للكورد، لا يعتمدون على لغة العقل والمنطق، بل يستعيضون عنها باستخدام لغة الجسد وتعابير الوجه بدلًا من الكلام، ويكررونها بشكل نمطي، وكأنهم يتلقون تدريبًا ممنهجًا من جهة واحدة، في محاولة بائسة لتعويض فشلهم الذريع في مواجهة المحاور الكوردي بالحجة والإقناع.

هذه الأساليب، التي باتت مكشوفة ومتكررة، لا تهدف إلى خوض نقاش فكري متكافئ، بل إلى تحويل الحوار إلى استعراض أجوف. ولكن مهما تلونت وجوههم أو تشابهت إيماءاتهم، فإنها تبقى عاجزة عن إخفاء جوهرهم الفارغ، الذي لا يرتكز إلا على التلقين الأعمى والعداء الأيديولوجي.

هؤلاء ليسوا محاورين، بل مجرد دمى تتلقى التعليمات، وأدوات رخيصة تُستخدم في الحروب الإعلامية، لتضليل المشاهد، وخلق صورة زائفة عن الواقع، وفق مخطط ممنهج لتشويه الحقائق وتبرير القمع.

يمكن تصنيف هؤلاء إلى ثلاث فئات رئيسية، تتجسد في تعابير وجوههم المتكررة والمفضوحة، لا يستحقون حتى أن يُذكروا بأسمائهم، فهم أدنى من أن يُستشهد بهم، ولكنهم أدوات تُستخدم في حملة منظمة، هدفها تشويه الحقائق وخدمة أجندات أسيادهم.

أولهم، أولئك الذين يلجأون إلى السخرية المصطنعة، حيث ترتسم على وجوههم ابتسامة بلهاء تحمل مزيجًا من الغباء والخبث. الابتسامة هنا ليست تعبيرًا عن وعي أو إدراك، بل قناع يخفون به خواءهم الفكري وعجزهم عن تقديم حجج منطقية. عالم النفس بول إيكمان، المتخصص في دراسة تعابير الوجه، يشير إلى أن الابتسامة الساخرة التي لا توازيها مشاعر داخلية حقيقية غالبًا ما تكون دليلاً على القلق، أو محاولة للتغطية على هشاشة الحجة، وهو تمامًا ما نراه في هؤلاء المحاورين الذين يواجهون الكلمة بالحماقة.

ثم هناك الفئة الثانية، التي ترد بعصبية مفرطة، وتلجأ إلى الهجوم العنيف، إذ يتحول وجه المحاور إلى كتلة من الحقد والتشنج. هؤلاء يعكسون نموذجًا للكراهية المتجذرة التي زرعتها الأنظمة القمعية في أتباعها، فهم غير معنيين بالحوار أو تبادل الأفكار، بل يتم تلقينهم مسبقًا أن الكوردي هو العدو، وأن كل ما يصدر عنه يجب مواجهته بالغضب والتكذيب دون أدنى محاولة للفهم. هذه الفئة تندرج ضمن ما وصفه سيغموند فرويد في تحليله للنرجسية العدوانية، إذ يرى أن بعض الأشخاص، عندما يشعرون بعدم القدرة على مواجهة حجة عقلانية، يلجأون إلى الانفعال كوسيلة للدفاع عن هويتهم الهشة.

أما الأخطر، فهم أولئك الذين يهزون رؤوسهم بأسى مصطنع، وكأنهم يبدون الأسف على “جهل” الطرف الآخر. هؤلاء هم الأكثر خيانةً للفكر، لأنهم يمتلكون قدرًا من المعرفة، لكنهم يسخرونها لخدمة أسيادهم العنصريين، ويتقنون استخدام لغة الجسد لخداع المشاهدين. عالم الاجتماع إرفينغ غوفمان يشير إلى أن الأفراد الذين يتقنون تقمص الأدوار الزائفة في الحوارات غالبًا ما يكونون الأكثر خطورةً على وعي الجماهير، لأنهم يمنحون دعايتهم العنصرية مظهرًا مقبولًا زائفًا، وكأنهم صوت العقل وسط الفوضى.

نحن أمام شخصيات نمطية تتكرر في وسائل الإعلام، وخاصة على المنصات العربية، حيث يتم استقدام أبواق مأجورة لتلميع صورة الأنظمة القمعية وتشويه القضية الكوردية. من المؤسف أن القنوات التي تحظى بمكانة دولية، مثل الجزيرة والعربية والحدث، أصبحت ساحات لترويج هذه النماذج الفارغة، عوضًا عن أن تكون منصات لحوار جاد ومحترم، ومنابر للمعرفة والتنوير. أتمنى أن ترتقي هذه الأقنية بمستوى الحوار السياسي بدلاً من أن تصبح ساحات لنشر الجهل والسموم وتعيد النظر في تكتيكها الإعلامي، وتدرك حجم مكانتها وتأثيرها، وأن تعمل كصوت للمعرفة والتوعية، لتقديم محتوى قائم على أسس حضارية، مبني على البحث عن شخصيات معرفية تفيد المجتمع وتحاور على أسس تعزيز التفاهم والتقارب بين شعوب المنطقة، بدلاً من تغذية الكراهية وتعميق الانقسامات، فشعوبنا بحاجة إلى منابع للتنوير لا إلى أدوات تعزز التخلف والعداء، كالقنوات الغارقة في الانحطاط، كـ TRT التركية الناطقة بالعربية، والقنوات السورية والإيرانية الرسمية، أو التابعة لأدواتها، والتي هي منصات دعاية رخيصة تستهدف الشعوب المغلوبة على أمرها، وتبث سمومها بلا أدنى رقابة أخلاقية.

المسألة ليست مجرد اختلاف سياسي أو تضارب في وجهات النظر، بل هي حملة ممنهجة هدفها القضاء على الشعب الكوردي، بكل الوسائل الممكنة، إعلاميًا، عسكريًا، واقتصاديًا. ما يجري هو تجاوزٌ لمنطق الخلاف إلى مرحلة الكراهية المطلقة، حيث يتم تصوير الكورد على أنهم تهديد يجب إبادته، وليس مكونًا أصيلًا في المنطقة له حقوقه وتاريخه العريق. هذا التصعيد ليس عشوائيًا، بل يأتي نتيجة مباشرة للمكتسبات التي حققها الحراك الكوردي، والتي باتت تشكل هاجسًا للقوى الاستبدادية التي تدرك أن استمرار هذه الإنجازات سيؤدي حتمًا إلى انهيار هيمنتها.

إن هذه الحملات الدعائية، بكل أساليبها القذرة، لن تغير الحقيقة، ولن تخدع إلا من أراد أن يُخدع. الكورد كانوا، وما زالوا، وسيظلون جزءًا أصيلًا من نسيج هذه المنطقة، رغم كل محاولات الطمس والتشويه. والتاريخ أثبت أن الكذب، مهما كان متقنًا، لا يمكنه الصمود أمام الحقيقة التي تفرض نفسها في النهاية.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

10/2/2025م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *