تيه بين العدم والخلود – د. محمود عباس

 حين عبر الوجود خيوط الوهم. غرقتُ في شعاب الزمن، حاملًا مقبرتي في ذاكرتي، أبحث عن مكان يحتضنها والكفن، تهت بين سطور الأوهام حتى وجدت نفسي على شاطئ اللا شعور، أبحث عن انعكاسي فلم أجد سوى الفراغ. كنت كظلٍّ يراقب ذاته، لكنه لا يراها. نظرت إلى خيالي، وكان عدمًا. في تلك اللحظة أدركتُ أنني مجرد خيط في نسيج الزمن، صورةٌ لذاتٍ تنحدر نحو العدم، وذرة تائهة في محيط اللامتناهي.

فسألت نفسي: هل نحن وهمٌ يعبُر نحو اللا شيء؟ أم أن العدم ليس إلا وجهًا آخر للوجود؟

نظرت في الطرف الآخر من الزمن العابر، اجتازني خيالٌ كوميضٍ خاطف، تبعته أطيافٌ أخرى، كأنها أرواحٌ مهاجرةٌ نحو أفق مجهول. تلاقَت خيوط أفكارنا، كأنها نسيج من نور يعبر حدود المستقبل. سألت نفسي، وهم كانوا جزءًا مني: إلى أين أنتم ذاهبون؟ كنت أعلم في عمق لا شعوري، بإحساس غامض ينبض في داخلي، أنهم أحبّتي الذين غادروا، تاركين خلفهم آهات الفقد ومساحات الأسى. هامت على النفس ثِقلُ رحيلهم، فطفا على الخيال كلُّ ما لم نُنجزه معاً، واحاديثنا التي لم تنتهي، والأسئلة التي لم نسألهم عنها، فتناقشنا على كلّ ما أخطأنا فيه، حتى بات الندم مرآةً للحاضر والغياب.

لطالما تساءلت: هل العدم نفيٌ للوجود، أم امتدادٌ له في صورة أخرى؟ فتذكرت مفهوم الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عندما اعتبر أن وجودنا محكوم دائمًا بفكرة الموت، فالحياة ليست سوى مقدمة طويلة للفناء، والوعي بالعدم هو ما يجعل الوجود ذا معنى، ونيتشه كيف ثار على فكرة العدم كحتمية، معتبرًا أن القوة الحقيقية تكمن في تجاوز العدم بخلق معنى يتحدى الفناء، فعدت إلى ذاتي لأسأل وبأسى، أين نقف نحن؟ هل نحن كائنات تتشبث بوهم الخلود؟ أم أن الخلود مجرد سعي يائس للهروب من الحقيقة المطلقة؟

فطفت على ذاكرتي كلمات الحلاج:

أنا من أهوى، ومن أهوى أنا

نحن روحانِ حللنا بدنا

ولكن ماذا لو لم يكن الجسد سوى قيد، والعدم تحررًا من كل شكل؟ ماذا لو كان الموت ولادةً أخرى كما قال جلال الدين الرومي:

عندما أموت، لا تقل إنني رحلت،

بل قل إنني أتيتُ إلى الحياة

في تلك الرحلة بين الفكر والخيال والزمن، جاءني الرد من على شاطئ العدم، كصدى بعيد يحمله طيف الأخت الناعمة(حياة) لاهثةً بصمت الكلمات، جاوبتني بنبرةٍ من سكينة عجيبة: “نحن ذاهبون إلى ضيافة الوالد، ذاك الذي يسكن في الطرف الآخر من اللا بُعد، في مكان يتلاشى فيه مفهوم الزمن. نحن سعداء، نقطع المسافات، أو ننتقل حيث انعدام الزمنٍ، في واقع بلا أبعاد.” هل العدم إذاً هو نفيٌ للمكان والزمان، أم حالة من التجلي اللامرئي؟ كما قالها ابن عربي متحدثا عن العدم كونه مرآةً للوجود، حيث لا فناء حقيقي، بل تحول دائم، تمامًا كما قال بوذا:

كل شيء يتحول، لا شيء يفنى، لا أحد يبقى.”

في لحظة التأمل تلك، تساءلت: هل نحن ذاهبون إلى العدم أم إلى الأبدية؟ هل الصراع الذي نعيشه هو مع الحياة نفسها، أم مع حقيقة أزلية بين العدم والخلود؟ الحياة ليست سوى مرآة للصراع الأعظم، صراع العقل والروح أمام الحيرة الكبرى. العدم يرعبنا لأنه يهدد بطمس كل ما نحن عليه، كل ما عرفناه وأحببناه، بينما الأبدية تثير فينا رهبةً أخرى، لأنها تتطلب منا استيعاب البقاء إلى ما لا نهاية، كما قال دوستويفسكي بمفهوم مماثل:

إن السر الحقيقي للحياة ليس في العيش، بل في سبب العيش.”

فما هو السبب إن كانت النهاية محتومة؟ وما الذي يجعلنا نتمسك بالحياة رغم عبثيتها؟ هل يكمن المعنى في التحدي ذاته، في صنع شيء خالد، في ترك أثرٍ لا يمحوه الزمن؟ أدركتُ أن حياتنا ليست سوى تدريب على هذه الجدلية الأزلية. في كل لحظة نعيشها، هناك مواجهة بين الفناء والخلود، بين ما نراه ينتهي وما نأمل أن يبقى. لعل الصراع مع الحياة ليس إلا انعكاسًا لصراع أعمق، صراع يختبر إدراكنا للزمن والمعنى. هل نحن نعيش مرحلة ما قبل العدم؟ أم نحن كائنات عابرة بين العدمين، قدوم من العدم إلى العدم؟

جميعنا، في شعورنا ولا شعورنا، نبحث عن طمأنينة تغلق هذه الفجوة، عن إجابة لا تأتي، عن يقين لا يُنال. ونحن ندرك أن الإجابة ليست هناك، بل هنا، في طريقتنا في مواجهة الحياة نفسها، في شجاعتنا لخلق معنى رغم اللا يقين، في سعينا المستمر لترك أثر يعبر الزمن. في هذا البرزخ من التفكير، حاولت أن أقنع ذاتي على أن العدم ليس ظلامًا مطلقًا، بل احتمالٌ آخر للوجود، ربما في صورة لا نفهمها بعد. كما قال فرانز كافكا:

من قال إننا ولدنا مرة واحدة فقط؟

أو كما قالها جلال الدين الرومي:

لا تحزن إذا انفصلت عن محبوب،

فكل الأشياء تفارق لتعود بشكل أجمل.”

وهنا ظهرت الرهبة من المجهول، ربما نموت لنحيا، وربما نحيا لنموت، وبينهما، نحن مجرد عابرين على خيط الوهم، بين العدم والخلود، وربما من الخلود إلى العدم، فقد ولدت من العدم منذ ولادة الخلية الأولى في الكون، لذا كان لا بد الهروب من رهبة إلى أخرى، وهي أننا نمر في مرحلة زمنية شبه عدم، فنحن قادمون من العدم راحلون إلى العدم.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com
21/1/202

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *