في قلب الأناضول، حيث تلتقي رياح التاريخ بنسمات الحداثة، يقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على مفترق طرق مصيري. ليست هذه المرة الأولى التي يواجه فيها العاصفة، لكنها قد تكون الأخيرة التي يمتلك فيها زمام المبادرة قبل أن تتحول العاصفة إلى إعصار يكتسح ما تبقى من مشروعه السياسي، بل ويهدد استقرار تركيا ككل، ويمتد تأثيره إلى جارتها المنكوبة سوريا. فكيف وصلت الأمور إلى هذا المنعطف الحرج؟ وما هي الخيوط الخفية التي تربط مصير أنقرة بدمشق؟
المخطط الذي تحوّل إلى فخّ
لطالما اُعتبر أردوغان سيدًا في لعبة الشطرنج السياسية، يُحكم خطواته بحسابات باردة، لكن محاولته إقصاء منافسه الأبرز، أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، كشفت عن ثغرة في درعه. لقد حاول أن يلعب بورقة القضاء ليُسقط شرعية خصمه بإلغاء شهادته الجامعية ثم سجنه بتهم فساد تبدو هشة، كُتبت بماء الذهب السياسي لا بحبر العدالة. لكن المفارقة أن هذه الخطوة، التي بدت للبعض “ذكية شيطانية”، انقلبت إلى سلاح ذي حدين. فبدلًا من تحييد إمام أوغلو، أضفت عليه هالة البطل المضطهد، وأشعلت الشارع التركي الذي خرج في احتجاجات متتالية، كأنما يستيقظ من سبات طويل. حتى حليف أردوغان التقليدي، حزب “الحركة القومية” بزعامة دولت بهتشلي، بدأ ينتقد الإجراءات ويطالب بـ”أدلة دامغة” أو إطلاق سراح الرجل. فهل نسمع هنا همسات انقسام في التحالف الحاكم؟
الاقتصاد.. الشبح الذي يطارد القصر
لا يمكن فصل الأزمة السياسية عن الانهيار الاقتصادي المتسارع. فالعملة التركية تتهاوى، والاستثمارات الأجنبية تتراجع، والغضب الشعبي يتصاعد. والأخطر أن “الدولة العميقة” – تلك الكتلة غير المرئية من المؤسسات العسكرية والأمنية – بدأت تُظهر قلقها من تحوّل تركيا إلى “دولة منفعة حزبية” حيث يُختزل القضاء إلى أداة تصفية حسابات، وتُدار المناقصات بالولاء لا بالكفاءة. هذا النموذج، الذي يُذكرنا بأنظمة عربية بائدة، يقوض ثقة المستثمرين ويبعد تركيا عن أوروبا أكثر مما تفعل أي عقوبات. حتى أن الاتحاد الأوروبي ألغى اجتماعين مرتقبين في أنقرة، وكأنما يقول: “لا مكان لكم بيننا ما دامت العدالة مُعلَّقة في الميزان”.
سوريا.. المرآة العاكسة للأزمة التركية
هنا تتدخل الجغرافيا والتاريخ ليربطا مصير دمشق بأنقرة بشكل عضوي. فالنظام السوري، برئاسة أحمد الشرع، يُدار – بحسب مصادر موثوقة – كنسخة باهتة من النموذج الأردوغاني: حكم مركزي مطلق، إقصاء للمعارضة، وتهميش للقضاء. والأكثر إثارة أن الميليشيات الأجنبية في سوريا، والتي تتحرك بأذرع مخابراتية تركية، تُستخدم كأداة ضغط لإبقاء الشرع تحت الوصاية. فهل نرى هنا محاولة تركية لتصدير أزمتها الداخلية إلى الجار السوري؟
لكن اللعبة أكبر من ذلك. فالقوميون الأتراك، الذين يخشون من تحول المنطقة إلى “شرق أوسط جديد” يتعاون مع إسرائيل، يرون أن حل “المسألة الكردية” هو المفتاح لدور تركي إقليمي. فبينما تتجه أكراد سوريا والعراق نحو علاقات مع تل أبيب، تريد أنقرة أن تزيح هذه العقبة لتبقى في اللعبة. لكن أردوغان، الغارق في معاركه الداخلية، لم يعد قادرًا على تقديم نفسه كقائد إقليمي موثوق.
خيارات أردوغان: الانحناء أو الانهيار
الرجل الذي قاد تركيا لعقدين يقف الآن أمام خيارين: إما أن “ينحني للعاصفة” – كما فعل في السابق – ويطلق سراح إمام أوغلو، ويُصلح النظام القضائي، ويعيد بناء الجسور مع الاتحاد الأوروبي، أو أن يتمسك بسلطته المطلقة حتى تُدفن معه أحلام تركيا بالانضمام إلى النادي الأوروبي، وتتحول إلى دولة منعزلة، تُحكم بالفساد والقمع.
أما سوريا، فستبقى الساحة الأكثر تأثرًا بتقلبات أنقرة. فكل هزة في النظام التركي ستُترجم إلى زلزال في دمشق، حيث تُمسك تركيا بخيوط اللعبة من خلف الستار. والسؤال الذي يلوح في الأفق: إذا سقط أردوغان، فهل يسقط معه نظام الشرع أيضًا؟
في النهاية، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة كمأساة لا كملحمة. فتركيا، التي حلمت بأن تكون جسرًا بين الشرق والغرب، تكاد تنهار تحت وطأة تناقضاتها. وسوريا، التي أنهكها الحرب، تُساق إلى مصيرها كقطعة في لعبة كبرى لا تُدار من دمشق، بل من قصور أنقرة وأروقة واشنطن.
بوتان زيباري
السويد
15.04.2025