لم تكن تلميذته، لكنها كانت تمرّ أمامه كل صباح في ممر المدرسة الإعدادية كنسمة تحمل معها شيئًا لا يُفسّر: نظراتها، طريقتها في الإمساك بالدفتر، خطواتها المدروسة.
اسمها ناز.
من بيتٍ في أطراف البلدة، قريب من العراء والريح وغياب الكهرباء.
جميلة بشكلٍ لا يليق بهذا العالم.
أنيقة بفقرٍ لا يُهان.
في أحد الأيام، اقتربت وسألته سؤالًا لا ضرورة له عن موعد الامتحان.
وحين سلّمته ورقةً صغيرة، لم يلتفت مباشرة. دسّها في جيبه، ظنّها مراجعة أو سؤالًا متأخرًا.
في المساء، فتحها:
“أستاذ نبيل، أنا لا أجرؤ أن أقول، لكني أحبك. أعذرني… لا أريد شيئًا. فقط أن تعرف.”
لم يعرف لماذا ارتجف.
مرّت أيام، والفتاة لا تتراجع. تحضر قرب مكتبة المدرسة، تسأله عن الكتب، تنظر إليه طويلاً.
حاول أن يغلق الباب، لكنه فشل.
في يومٍ رمادي، اتخذ قراره، وذهب إلى بيتهم.
قُدّمت القهوة، وتمت الخطبة.
لكن الحكاية الحلوة لا تكتمل في أرضٍ خائفة.
أحد أقربائها، طالب في الثانوية، أرادها منذ زمن. يكبرها بسنوات، فظّ، غليظ، لكنه ابن رجل أمن نافذ.
وحين سمع بالخطبة، استشاط غضبًا.
هدّد. ضغط. جعل العائلة تعيش في رعب.
بعد أسبوع، جاء والد ناز إلى بيت الأستاذ، يحمل المهر بين يديه، وعيناه ممتلئتان بالخجل والخذلان.
– سامحنا يا بني… الدنيا أقوى منّا.
نبيل لم ينطق.
لم يأخذ شيئًا.
عاد إلى غرفته، وأغلق الباب.
بعد أشهر، سافر إلى حلب برفقة شقيقته المريضة. وهناك، زاره عم ناز.
– الشرفاء لا يتركون حبّهم للذئاب. تعال نأخذها لك. نهرب بها، نزوّجكما.
لكن نبيل، بصوته الهادئ، أجاب:
– أنا لست خاطفًا… طرقت الباب، فقوبلت بالخوف. أهلي ينتظرونني بكرامة، لا أضعهم أمام أمن لا يرحم.
وفي حين كانت ناز تُراقَب، تُهدَّد، تُسحب من أحلامها، جاءها الخبر: “نبيل خُطب لزميلة له”.
بعثت له برسالة مع صديقهما المشترك:
– قل له إن لم يتزوجني، سأحرق نفسي.
كان رده قاسيًا بحجم الانكسار:
– دافعت عنها وحدي، وخذلني الجميع. لن أُسقِط امرأة أخرى بانتظار مستحيل.
في مساء رمادي، حاولت ناز أن تصعق نفسها.
مدّت يدها إلى المقبس، لكنها وجدت يد أمها قبلها، تبكي وتصرخ:
– هذا ليس حبًا يا ناز… بل موت مؤجل. اصبري.
تزوّج الأستاذ.
وذهبت ناز في طريقٍ آخر.
لم تتلاقَ العيون. لم تُكتب النهاية.
لكنها ظلّت تراه في الأخبار، في صور الخريجين، في شهادات الطالبات.
ثم جاءت الحرب.
كالجرافة، هدمت كل شيء.
تشرد الناس، تفرّقت العائلات، فرّ الجميع… كلٌّ بطريق.
كانت ناز في أوروبا.
وذات يوم، أخبرتها صديقتها أن شقيقة نبيل تعيش في نفس البلد.
بحثت عنها، تواصلت، وطلبت رقمه.
في مساءٍ بارد، رنّ هاتفه.
رقم بلا اسم.
– ألو؟
– لمَ أنت خائف؟
– من؟
– ما زلت كما كنت.
– ناز…ناز الروح..؟.
تنفّس بصوتٍ سمع فيه حنينًا حارقًا.
– ظننتك نسيتني…
– لا. لكني تعلّمت أن أنساك دون أن أمحوك.
لم تُغلق المكالمة.
لكنها لم تُعد الزمن.
ظلّ الاثنان معلقَين هناك…
بين حبٍ لم يكتمل، وكرامةٍ لم تُساوم.