هذه روايةٌ مخصصةٌ للأطفال، وعنوانها يشير إلى ذلك، لكنها- في الوقت نفسه- مفتوحةٌ على الأعمار الأخرى، مستفِزةٌ للقارئ جمالياً وتأملياً، تخطفه إلى دنياها، ومشاهدِها التي تتوالد في عالَمٍ هو مزيجٌ من المعقول واللامعقول، تصحبه ظلالٌ وغيومٌ وضبابٌ حزين، لكنَّ ذلك لا يلبث أن ينقلبَ في آخرها إشراقاً ومحبةً وتعافياً إنسانياً، ولعل العنوان- وهو عتبتها النصية الأولى- يحمل من خلال كلمة: (عودة) وعداً بذلك التعافي.
حكاية النص
ولكنْ ما الحكاية التي ينطوي عليها النص؟ في هذه الرواية عالِمٌ يرغب في تخفيف سكان الأرض، فيبتكر لذلك فيروساً يحصد الأرواح في حرب وحشية صامتة، ثم يُفْـلِتُ فيروسُه من السيطرة، وينتشر في كل مكان، وفي كل شيء بدءاً من أدوات التواصل إلى التلفزيونات، ثم الطائرات والقطارات!
وإذا كانت أفعالٌ شنيعةٌ من هذا النوع تُنتِج سُمَّاً، وعلقماً، وموتاً وشؤماً يطال جميعَ مناحي الحياة كسيلٍ عَرِمٍ أسود، فالأطفال- بهشاشتهم- هم الأكثرُ توجعاً منها، وإحساساً بالفزع عندما تطلُّ على الحياة بوجهها الكريه المرعب.
يتناول الكاتب عبد الباقي يوسف هذا الموضوع بطريقةٍ طريفة تلائم عالَمَ الطفولة، حيث يوظّف الفراشات توظيفاً ذكياً في صلب روايته، وللفراشات- كما نعلم- منزلةٌ خاصةٌ عند الأطفال، وهي عندهم مثير جمالي طفولي من الدرجة الأولى.
في الرواية نجد الجدَّ العجوز ريَّان يعيش مع حفيده ريَّان الصغير، وهما وحيدان، لا أحدَ معهما في البيت، ولا في الحي، ونجد الجدَّ العجوز توَّاقاً لرؤية إنسان، متعطشاً للقائه كبيراً كان أو صغيراً، يخرج للبحث عنه تارةً وحدَهُ، وتارةً مع الحفيد، فقلَّما يعثران على مرادهما، فإنْ لَمَحَا إنساناً بادر بالفرار منهما! وفي معظم الأحيان تقابلهما الحيوانات في صورة أسرابٍ وجماعات تملأ الشوارع، وهي ما تكاد تراهما حتى تنظر إليهما بارتياب!
هنا نجد الروايةَ تحقق مستوى عالياً من الإثارة والتشويق الفني، ولا بدَّ أن القارئ سواءٌ كان من شريحة الصغار أو الكبار سيواجه سؤالاً يغلي ويبقبق في روحه كاللُّجَّة الحامية، وهو: أين ذهب البشر؟! وستليه أسئلةٌ أخرى: ولماذا يلوذ شخص بالهرب إذا عثر عليه الجد وحفيده؟ وما سـرُّ نظراتِ الارتياب التي تطفح بها عيونُ الحيوانات؟
تُقدِّمُ لنا الرواية جواباً واحداً لكل تلك الأسئلة: إنها الكارثة، كارثةُ الفيروسات، قتلت القسمَ الأكبر من سكان المدينة، والبقيةُ منهم امتلأتْ توجساً، فانسحبتْ إلى بيوتها، وسكنتْ قواقعَ من الخوف!
ثم ما سرُّ الفراشات التي يراها ريَّان الصغير، ويسمع واحدة منها تنادي باسمه؟ تأتينا الإجابةُ في الصفحات اللاحقة، هم أطفال انقلبوا إلى فراشات خوفاً من الفتك والموت، وأيضاً لأنَّ البشر القساة لا يستحقون جمالَ الطفولة وبراءتها.
الرواية والفضاء الدلالي:
كثيرٌ من الروايات تكون مجرَّدَ سرديةٍ ممتعة أو نصاً للحكمة والعبرة كالنصوص المدرسية، وبعضها الآخر- وهو قليل- ينحو بالعمل الروائي نحوَ فلسفة المعنى، وتوسيعِ الدلالة بحيث تغدو حواراً مع عقل القارئ، ومداركه ووجدانه، وهذا ما نجده هنا، ففي عودة الفراشات يستغلُّ الكاتب ببراعة مسألةَ الفراغ الذي تشكَّلَ في المدينة التي يسكنها الجد والحفيد- وهي عاصمة البلاد- يستغل ذلك للحديث من خلال شخصياته عن أهمية الإنسان للإنسان وجوداً مجاوراً لوجوده، ومساحةً لتفاعل إنسانيته، وصديقاً ومؤنساً، وشريكاً، به ومعه تتحقق قيمةُ الحياة، ونعيمها الحقيقي واستقرارها، وبدونه يذوي كلُّ شيء، فالجد ريَّان، يخرج كلَّ يوم وحدَهُ أو بصحبة حفيده يبحثانِ عن إنسان يريانه، يقتربان منه، يشمَّانِ روائحَ إنسانيته بعد أن خلت المدينة أو كادت بسبب الكارثة الفيروسية، أمَّا المال الذي تُوْهِمُنا الحضارةُ الرأسمالية بأنه سـرُّ التألقِ والسَّعادة، فهو رزمٌ مرميةٌ على الأرصفة ملطخةٌ بروث الحيوانات، وبجانبه أكوامٌ من الذهب، ولا تستطيع تلك الأكوام أن تسعد الجدَّ والحفيد، ولا الشخصياتِ الأخرى التي ظهرتْ لاحقاً في الرواية كزاهر وحازم. الجميع هدفهم العثور على كائن بشري، ومادامت الرواية في الأصل موجهةً للطفل، فمن الواضح أنها تعمل على تأسيس وعي مختلف في عالمه النفسي يضع الإنسانَ لا المادة في بؤرة اهتمامه، وفوقَ كل اعتبار، ويشجع على محبته، والعناية به، والتقرب منه بدلَ معاداته، واجتنابه والحذرِ منه كما يريد الإعلام المسموم، والثقافاتُ الخبيثة أن تغرسَ في نفوس الكبار والصغار.
وفي مسألة الفضاء الدلالي وتوسيعِ المعنى تقوم الرواية بالتنوير على جانبٍ آخرَ عظيمِ الأهمية، تسعى لتنميته عند الصغار بصورة خاصة هو انتباه الفرد لطاقاته واستثمارها، وجعلِها قاعدةً للحركة والنمو، فريَّان الصغير بعد موت جده، يلتفتُ إلى فرديته، وما فيها من قوى، فَيُعِدُّ الطعام، ويعمل في جني الثمار، ويقرأ الكتب، ويعزف الموسيقى، ويستطيع بها أن يؤثر في الظباء والحيوانات الأخرى، يفعل الكثير حتى إنه ذاتَ يوم يشعر بطاقةٍ هائلة تدفعه لتحريك ذراعيه بجانب جسمه كالأجنحة، فإذا به يطير في السماء!
توظيف الفراشات:
تحتاج رواياتُ الأطفال إلى فَهْمِ الطفولة واحتياجاتِها ليكون ذلك أساساً لمخاطبتها وجذِبها لعالم الأدب والكلمة، وعموماً تعتمد استراتيجيةُ الأدب الطفلي على مبدأ بسيط هو استحضار ما يحبُّه الصغار إلى النصوص الأدبية ليكون حاملاً للرؤى والأفكار التي يُـراد بثُّها، وفي أول ذلك الطبيعةُ بأزهارها وأنهارها وطيورها، والحيواناتُ ولاسيما الأليفةُ منها كالقطط والأرانب، والبط، والغزلان والأسماك، وفي هذه الرواية يثير كاتبها عبد الباقي يوسف شغفَ قرائه الصغار بتوظيف ذلك الكائن المتناهي الرقة: الفراشة لتلعب دوراً أساسياً مشوّقاً في روايته، فالطفل ريَّان فوجئ في أحد الأيام بفراشةٍ تحطُّ قريباً منه، وبصوتٍ بشري يهتف باسمه: ريَّان، ريَّان، ومع تكرار الحادثة في أوقات أخرى عرفَ أن الصوت قادمٌ من الفراشة! ثم أَنِسَتْ به، وأَنِسَ بها، فكشفتْ له عن سرٍّ عجيب، وهو أنَّ أطفال المدينة الذين لم يقتلهم الفيروس الفاتك آثروا التحوُّلَ إلى فراشات هرباً من عالم الكبار وما فيه من شرور! وعندما تعلَّمَ ريَّان العزف، وظهرَ جوهره الإنساني الطيّب المختلف راحت الفراشاتُ تتجمَّع من حوله حين يعزف، وفي آخر الرواية يرجوها هو وأصحابه الذين عثرَ عليهم من بقايا البشر في المدينة أن ترجع أطفالاً كما كانت من قبل، فتقبل بشرط لا محيدَ عنه هو أن يقوموا بجمع السلاح من أركان المدينة ويتخلَّصوا منه، فهو عدوُّ للحياة والسلام، وبالفعل يتمُّ ذلك، وعوضاً عن السلاح ووحشيته يجري الاهتمامُ بالكتب والموسيقى لبناء حياة جديدة أساسها النور، والرهافة، والجمال.
الأسلوب وتشكيلاته:
كاتبُ الرواية الأستاذ عبد الباقي ذو تجربة كتابية لها فرادتُها وطعمُها الخاص، وهي ممتدةٌ كشجرةٍ نضرة في آفاق الزمان والمكان، ونراه هنا يلجأ لأسلوب الفنتزة، والاستعانة برحابة الخيال أو كما ذكرتُ في البداية يعمد لمزج المعقول باللامعقول، ربما يقارب بذلك أسلوبَ الواقعية السحرية في أدب أمريكا الجنوبية، ولعله يقوم بذلك عن تصميم وتخطيط وحنكة فنية بعد أن أدرك أنَّ المباشرة في أدب الطفل لم تعد مجدية، ولا سيما أنَّ التلفزيون والسينما يقدّمان في تمثيليات الأطفال وأفلامهم عجائبَ ملوَّنة. أمَّا لغةُ الرواية فمنحازةٌ إلى الفصاحة والجزالة مع الاستعانة بالمجاز المبتَكر الشائق، ومن الملاحظ أن المؤلف- كلما أتيحتْ له الفرصة- يلجأ لبث ثقافة لغوية تنهض بمستويات التعبير عند الأطفال، وتثري مخزوناتِهم بالمفردات الجديدة، ومن اللافت هنا أنه ذَكَرَ الكثيرَ من أسماء الأصوات عند الحيوانات، تلك التي لا يعرف بعضَها حتى الكبار، مثل صوت الأرنب: ضغيب، وصوت السلحفاة: كعيص، وصوت بنات آوى: الوحاء.
خاتمة:
تطمح هذه الرواية طموحاً مشروعاً نبيلاً إلى إغواء الصغار والكبار بركوب زورق الخير والمحبة والسلام، بعد أن انتشر في الأرض التباغضُ والتكاره والتعادي والأنانيةُ الوحشية، وراح البشر يقتتلون تارةً بحروب الدم وتارةً بحروب التجارة والإعلام، وقد يبتكرون الفيروسات لإفناء بعضهم بعضاً، كما قيل عن فيروس كورونا وغيره، فليت الناسَ يصغون لهذا الصوت النبيل وأمثاله، وليت الصغارَ ينشؤون على غير ما يشتهي العابثون لتزدهر الدنيا بحضارةٍ إنسانيةٍ حقيقيَّة، وتجدَ السعادةُ لها مكاناً بيننا من جديد.
+++
عودة الفراشات- رواية للأطفال
تأليف: عبد الباقي يوسف
منشورات: دار اسكرايب للنشر والتوزيع، القاهرة 2024
عدد الصفحات: 131 صفحة من القطع الوسط