ترامب يحرق العالم في مئة يوم الدولة العميقة العصرية تبتلع النظام القديم – د. محمود عباس

 

في عالم يتأرجح بين الفوضى والنظام، يبرز المشهد السياسي للولايات المتحدة في ولاية دونالد ترامب الثانية (2025) كمحطة حاسمة لإعادة تعريف التوازنات العالمية.

إن صعود ما يُمكن تسميته بـ “الدولة العميقة العصرية”، التي تجمع بين النخب الاقتصادية الجديدة والتكنولوجية والقوى السياسية القومية، يكشف عن تنافس ضمني مع “الدولة العميقة الكلاسيكية”، المتمثلة في المؤسسات الأمنية والعسكرية التقليدية.

هذا الصراع يتجلى في سياسات ترامب الاقتصادية العدوانية، التي تهدف إلى إعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي، وفي مقاربته للمناطق العسكرية الساخنة، لا سيما حرب روسيا وأوكرانيا، ورغم وعود ترامب بإنهاء هذه الحرب “في 24 ساعة”، فإن الواقع يكشف تعقيدات جيوسياسية واقتصادية تتجاوز الشعارات، حيث تتشابك مصالح القوى العظمى مع التحديات الاقتصادية العالمية.

وفي الشرق الأوسط، تتفاقم التوترات بسبب القضايا الساخنة التي تهدد بإعادة رسم خريطة المنطقة، تنبثق القضية الكردية كعامل محتمل لإعادة تعريف الحدود، مع تصاعد المطالب بحق تقرير المصير في ظل ضعف الدول المحتلة لكردستان، تركيا، إيران، العراق، وسوريا، في مواجهة هذا المشروع بسبب التحديات الداخلية والضغوط الخارجية. في الوقت نفسه، تظل قضية غزة نقطة اشتعال، حيث تؤجج الصراعات الإقليمية وتعزز نفوذ أدوات إيران، مثل حزب الله وحركات المقاومة، مما يزيد من التوترات مع الولايات المتحدة وحلفائها. وتتفاقم التحديات مع تصاعد المواجهة التركية للمصالح الأمريكية في المنطقة، خصوصًا في سوريا والعراق، حيث تتعارض طموحات أنقرة الإقليمية مع استراتيجيات واشنطن، مما ينذر بمزيد من التصدعات في التوازنات الجيوسياسية.

يُتوقع أن تستمر هذه الحروب في التأثير سلبًا على الاقتصاد العالمي من خلال ارتفاع أسعار الطاقة، وتفاقم التضخم، وتعطيل سلاسل التوريد، بينما تعمل الدولة العميقة العصرية على استغلال هذه الأزمات لتعزيز النفوذ الأمريكي عبر أدوات اقتصادية جديدة، مثل الرسوم الجمركية والتحالفات التجارية البديلة، في هذا السياق، يصبح البيت الأبيض ساحة لتجاذب بين رؤيتين: إعادة بناء الهيمنة الأمريكية عبر تفكيك النظام الليبرالي العالمي، أو الانحسار التدريجي أمام صعود قوى منافسة كالصين وروسيا.

في المئة يوم الأولى من ولاية دونالد ترامب الثانية، التي بدأت في 20 يناير 2025، شهدت الولايات المتحدة والعالم مرحلة غير مسبوقة من التحولات الاقتصادية والسياسية، اتسمت بقرارات جريئة ومثيرة للجدل، وتوجهات قومية متشددة تحت شعار “أمريكا أولًا”، وتخبط في العلاقات مع الحلفاء والخصوم على حد سواء. خطاب ترامب الاحتفالي في 29 أبريل 2025، الذي ألقاه في تجمع حاشد بمقاطعة ماكومب، ميتشيغان، للاحتفال بالمئة يوم الأولى، كان مفعمًا بتفاؤل مبالغ فيه، لكنه عجز عن إخفاء التصدعات العميقة في النظام الاقتصادي العالمي الناجمة عن سياساته التجارية العدوانية.

منذ توليه المنصب، أعلن ترامب عن فرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 10% على جميع الواردات الأمريكية اعتبارًا من 5 أبريل 2025، مع رسوم إضافية تصل إلى 145% على الصين، ونسب متفاوتة على 57 دولة أخرى، مستخدمًا سلطاته بموجب قانون الطوارئ الاقتصادية الدولية لعام 1977.

هذه السياسة، التي وصفها ترامب بـ “يوم التحرير” في حدث بالبيت الأبيض في 2 أبريل 2025، أثارت فوضى في الأسواق العالمية، حيث هبطت مؤشرات الأسهم الأمريكية بشكل حاد، فخسر مؤشر داو جونز ما يقرب من 4%، وإس آند بي 500 حوالي 5%، وناسداك 6% في يوم واحد، وهو أسوأ أداء منذ مارس 2020، كما تسببت هذه الرسوم في خسارة الأسواق العالمية أكثر من 10 تريليون دولار خلال أسابيع، وفقًا لتقديرات بلومبرغ.

في خطابه بميتشيغان، زعم ترامب أن هذه الرسوم ستكون “خط الحياة الاقتصادي” للولاية، مدعيًا أنها ستنهي “سرقة الوظائف” من قبل الصين، التي اتهمها بتدمير الصناعة الأمريكية، لكن استطلاعات الرأي تكشف عن صورة مختلفة، استطلاع رويترز/إبسوس، المنتهي في 27 أبريل 2025، أظهر أن 53% من الأمريكيين يعارضون أداء ترامب، و36% فقط يؤيدون إدارته الاقتصادية، وهي أدنى نسبة في ولايته الحالية، كما أشار استطلاع إيكونوميست/يوغوف في أبريل 2025 إلى أن 51% من الأمريكيين يرون أن الاقتصاد يتدهور، و55% يتوقعون ارتفاع التضخم خلال الأشهر الستة المقبلة.

على الصعيد العالمي، أدت الرسوم الجمركية إلى ردود فعل متبادلة، حيث فرضت الصين رسومًا بنسبة 125% على الواردات الأمريكية، وأعلنت كندا عن رسوم بنسبة 25% على المركبات غير المتوافقة مع اتفاقية USMCA الاتحاد الأوروبي، بدوره، أعرب عن استعداده للرد، لكنه فتح قنوات للتفاوض، هذه التوترات دفعت صندوق النقد الدولي إلى خفض توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي إلى 2.8% لعام 2025، مقارنة بـ 3.3 % في 2024، محذرًا من أن “حرب تجارية شاملة” قد تؤدي إلى تباطؤ كبير في النمو العالمي.

تعهد ترامب خلال حملته الانتخابية بإنهاء حرب روسيا وأوكرانيا “في 24 ساعة”، لكنه في خطابه بميتشيغان تراجع عن هذا الوعد، مشيرًا إلى أن المفاوضات جارية لكنه لم يحدد إطارًا زمنيًا واضحًا، في 29 أبريل 2025، أكد ترامب أن “كلا الطرفين يريدان السلام”، لكنه انتقد الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، متهمًا إياه بإطالة أمد الحرب عبر “تصريحاته المتعنتة” في المقابل، ألمح ترامب إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “مستعد للتفاوض”، مما أثار مخاوف من ميله إلى تقديم تنازلات لروسيا، مثل الاعتراف بضم القرم أو الأراضي المحتلة منذ عام 2022. ومع ذلك، شهدت هذه الديناميكيات بعض التغيرات عقب اللقاء الأخير بين ترامب والرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في الفاتيكان، والذي أشار إلى إمكانية إعادة تقييم الموقف الأمريكي، يأتي هذا رغم تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو قبل اللقاء بيومين، التي ألمحت إلى احتمال انسحاب الولايات المتحدة من مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا، مما يعكس التوترات المستمرة في الاستراتيجية الأمريكية.

هذه الحرب، التي بدأت في فبراير 2022، أثرت بشكل كبير على الاقتصاد العالمي، حيث تسببت في ارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 30-40% خلال السنوات الثلاث الماضية، وفقًا لتقارير وكالة الطاقة الدولية، مما زاد من التضخم العالمي وأثر على سلاسل التوريد الغذائية، لا سيما الحبوب.

توقعات صندوق النقد الدولي تشير إلى أن استمرار الحرب قد يكلف الاقتصاد العالمي ما يصل إلى 1.5 تريليون دولار سنويًا بسبب تعطيل التجارة وارتفاع تكاليف الطاقة، في الوقت نفسه، أدت سياسات ترامب للضغط على أوروبا لتحمل مسؤولية دعم أوكرانيا إلى توترات مع حلفاء الناتو، حيث دعا نائب الرئيس جي دي فانس في فبراير 2025 إلى تقليص الدعم الأمريكي، مما دفع أوروبا إلى إعادة تقييم تحالفاتها.

يكشف أداء ترامب عن تنافس بين “الدولة العميقة الكلاسيكية”، المتمثلة في البنتاغون ووكالات الاستخبارات، و”الدولة العميقة العصرية”، التي تضم مستشارين اقتصاديين مثل ستيفن ميران وشخصيات تكنولوجية مثل إيلون ماسك، وزعماء الشركات الخوارزمية العملاقة الأخرين، في حين تسعى الأولى إلى الحفاظ على النفوذ الأمريكي عبر القوة العسكرية والتحالفات التقليدية، تركز الثانية على إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي عبر أدوات مثل الرسوم الجمركية والتحكم في التجارة. خطاب ميران في أبريل 2025، الذي دعا إلى “نظام اقتصادي عالمي جديد”، يعكس هذا التوجه، حيث اقترح إعادة تقييم دور الدولار كعملة احتياطية عالمية لتخفيف الضغط على الصناعة الأمريكية.

على سبيل المثال، بينما ضغطت الدولة العميقة الكلاسيكية للحفاظ على الدعم العسكري لأوكرانيا، كما يتضح من تصريحات وزير الخارجية ماركو روبيو في مارس 2025 التي دعت إلى “تسوية متوازنة”، فإن الدولة العميقة العصرية، ممثلة في الواجهة، بماسك وميران، دفع باتجاه تقليص الالتزامات الخارجية للتركيز على الاقتصاد المحلي. هذا الصراع يظهر أيضًا في المناطق العسكرية الساخنة، حيث أدت تهديدات ترامب بإعادة تقييم دور الولايات المتحدة في الناتو إلى إضعاف الثقة الأوروبية، بينما عززت روسيا تحالفاتها مع الصين وإيران، مما يعزز التنافس الجيوسياسي.

التحليل الاستشرافي يشير إلى أن الولايات المتحدة في عهد ترامب ليست مجرد إعادة ترتيب لأولوياتها، بل تسعى إلى تفكيك النظام الليبرالي العالمي الذي قادته لعقود، واستبداله بنموذج يعتمد على المصلحة الاقتصادية والسيادية المباشرة، هذا التحول، رغم أنه قد يحقق مكاسب قصيرة الأمد لبعض القطاعات الأمريكية، ينذر بتداعيات أعمق على بنية العلاقات الدولية، فمع تزايد المؤشرات على تراجع الثقة العالمية في القيادة الأمريكية، تظل الأسئلة الكبرى معلقة: هل سياسات ترامب نابعة من رؤية استراتيجية لمواجهة تحديات الاقتصاد العالمي؟ أم أنها ردود فعل متسرعة مدفوعة بالضغط الشعبوي؟ وهل ستتمكن أمريكا من الحفاظ على هيمنتها الاقتصادية، أم أنها ستشهد بداية انحسارها التاريخي؟

مع اقتراب ترامب من إكمال المئة يوم الأولى من ولايته الثانية، كشفت عدة مصادر موثوقة، بما في ذلك شبكة CNN ووكالة رويترز/إبسوس وصحيفة واشنطن بوست/ABC News، عن تراجع كبير في شعبيته بين الأمريكيين، مسجلًا أدنى نسبة تأييد لأي رئيس أمريكي في هذه الفترة منذ ما يقرب من ثمانية عقود.

استطلاع CNN/SSRS الذي أجري في أبريل 2025 أظهر أن 41% فقط من الأمريكيين يوافقون على أداء ترامب، بانخفاض حاد من 47% بعد تنصيبه في 20 يناير 2025، وأقل من 42% التي سجلها جو بايدن في الفترة نفسها في 2021، كذلك، أشار استطلاع رويترز/إبسوس إلى أن نسبة تأييد ترامب انخفضت إلى 42%، بانخفاض من 43% قبل ثلاثة أسابيع و47% بعد التنصيب، مع معارضة 53% لأدائه.

استطلاع واشنطن بوست/ABC News/إبسوس سجل نسبة تأييد أقل بلغت 39%، مع 55% يعارضونه، منهم 44% يعارضونه بشدة.

هذه الأرقام تتناقض بشكل صارخ مع فترة “شهر العسل” التقليدية التي يتمتع بها معظم الرؤساء، حيث تتجاوز نسب التأييد عادةً 50%، بالمقارنة، شهد باراك أوباما وبيل كلينتون نسب تأييد تجاوزت 60% في أول مئة يوم، وحتى جورج دبليو بوش حافظ على نسب قريبة من 55%.

أسباب هذا التراجع غير المسبوق متعددة، وترتبط باستياء الجمهور من سياسات ترامب وأسلوب حكمه.

 أولًا، سياساته الاقتصادية، خاصة الرسوم الجمركية الشاملة، تعرضت لانتقادات واسعة بسبب تفاقم التضخم وزعزعة استقرار الأسواق. أشار استطلاع CNN إلى أن 62% من الأمريكيين لاحظوا استمرار ارتفاع الأسعار رغم تعهدات ترامب بالسيطرة على التضخم، و71% اعتبروا أن الرسوم الجمركية ساهمت سلبًا في ارتفاع الأسعار. فقط 39% عبروا عن ثقتهم في إدارته الاقتصادية، بانخفاض 5% منذ مارس 2025.

ثانيًا، إجراءاته التنفيذية العدوانية، بما في ذلك توقيع عشرات الأوامر لتوسيع سلطاته على الوكالات الحكومية والمؤسسات الخاصة، أثارت مخاوف من السلطوية. وجد استطلاع رويترز/إبسوس أن 83% من المستطلعين يعتقدون أن على الرئيس الالتزام بأحكام المحاكم الاتحادية، حتى لو لم يرغب في ذلك، و64% شعروا أن ترامب يبالغ في توسيع صلاحياته الرئاسية. تحدي إدارته للأوامر القضائية، مثل مواصلة عمليات الترحيل رغم الأحكام القضائية، عزز من تصورات عدم احترام سيادة القانون، حيث أشار 62% من المستطلعين في استطلاع ABC News/واشنطن بوست إلى أن إدارته لا تحترم المعايير القانونية.

ثالثًا، سياسات الهجرة الخاصة بترامب، بما في ذلك استخدام قانون الأعداء الأجانب لعام 1798 لترحيل المهاجرين دون مراجعة قضائية ونقل المشتبه بهم إلى سجن في السلفادور، أثارت جدلًا واسعًا. أفاد استطلاع CNN بانخفاض نسبة التأييد لسياساته المتعلقة بالهجرة بنسبة 6%، حيث أيدتها 45% فقط بحلول أبريل 2025.

رابعًا، جهوده لإعادة هيكلة الحكومة الاتحادية، بما في ذلك طرد المدعين العامين وتعليق التصاريح الأمنية لمسؤولي الاستخبارات السابقين، اعتُبرت تجاوزًا، حيث أعرب 58% من الأمريكيين عن قلقهم من تقليص حجم الحكومة بشكل مفرط، و56% اعتبروا أنه تجاوز سلطاته دون مبرر، مما أدى إلى ارتفاع مقلق في نسبة البطالة في القطاع الحكومي. على سبيل المثال، في واشنطن العاصمة، خسرت المدينة 61,795 وظيفة حكومية في 2025 مقارنة بـ 60 فقط في 2024، لكن معدل البطالة العام في الولايات المتحدة بقي عند 4.1%، وهو مستوى منخفض تاريخيًا.

 أخيرًا، فشل ترامب في تحقيق وعود حملته الرئيسية، مثل حل حرب روسيا وأوكرانيا، ونهجه التصادمي تجاه الخصوم السياسيين، عمّق خيبة الأمل العامة، أشار استطلاع NBC News إلى أن 55% من الأمريكيين شعروا أن ترامب فشل في تحقيق التغيير الموعود، و60% كانوا غير راضين عن إنجازاته العامة.

هذا التراجع الحاد في الشعبية، خاصة بين القواعد الانتخابية الرئيسية مثل البيض غير الحاصلين على شهادة جامعية (انخفاض 10 نقاط) والشباب دون سن الثلاثين (انخفاض 13 نقطة)، يبرز التحديات التي يواجهها ترامب في الحفاظ على دعم الجمهور.

المشهد السياسي المستقطب، مع معارضة 90% من الديمقراطيين له ودعم 80% فقط من الجمهوريين (بانخفاض عن الدعم شبه الكامل في ولايته الأولى)، يزيد من تعقيد قدرته على توحيد الأمة. مع استمرار ترامب في مواجهة هذه التحديات، فإن تآكل شعبيته يشير إلى منعطف حاسم لإدارته، مع تداعيات محتملة على انتخابات التجديد النصفي لعام 2026 والاتجاه العام للسياسة الأمريكية.

ما هو مؤكد أن السنوات القادمة ستشهد تصاعد التنافس على زعامة العالم، بين قوة عظمى تعيد تعريف دورها، وقوى صاعدة تستغل كل فرصة لملء الفراغ الذي تتركه.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

29 أبريل 2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *