نطق لبيد فلمْ يصدقهُ حتى البليد..! 2 -صباح كنجي

 

نعود لأجواء الحزب الشيوعي العراقي السابقة للأنفال .. سنتوقف عند الصراعات المخفية.. التي كانت متواجدة في القيادة.. بين عدد من اعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية وانعكاس ذلك على  حركة الانصار وما حل بالعوائل في الأنفال .. باعتبار لبيد واحداً من القياديين .. الذين شاركوا في اجتماع اللجنة المركزية الأخير.. المتزامن والمعاصر للأنفال في مراحلها الاولى من مناطق السوران.. السابقة لأنفال بهدينان بستة أشهر كاملة..

وما رافقها من اجراءات غير طبيعية.. شملت العديد من القادة والكوادر الفاعلين في حركة الانصار والحزب .. تمثلت بأبعادهم ودفعهم للخروج من كردستان.. بإجازات اجبارية وتنحيتهم من مواقعهم القيادية في قاطع اربيل و بهدينان وكذلك السليمانية وكركوك.. التي كتب عنها الفقيد الراحل توما توماس الكثير من التفاصيل في مذكراته المطبوعة بعنوان .. اوراق توما توماس.. التي يقول فيها تحت عنوان الاجازة خارج كردستان ..ابتداء من الصفحة 320ـ 326 ..

( لم يبقى من رفاق المكتب السياسي بعد سفر عمر الشيخ سوى ( آرا ) كممثل لقيادة الحزب والذي اعتبر نفسه بديلا عن المكتب السياسي .. كنت في مهمة اشراف على الفوج الأول حينما وردتني برقية من المكتب السياسي ـ من آراـ يطلب فيها التوجه الى بير بينان ـ خواكورك بعد تسليم مهمة قيادة قاطع بهدينان الى الرفيق ابو عادل المستشار السياسي للقاطع، وذلك لإرسالي في اجازة وفق طلب الرفاق في المكتب السياسي الموجودين في الخارج، أي بدون طلب مني شخصيا وحتى بدون رغبة مني .

عدت الى مقر القاطع، وسلمت كل ما بذمتي من سجلات الأسلحة والمالية، وتوجهت الى مقر المكتب السياسي في خواكورك. وحينما التقيت آرا ابلغني بالتهيؤ للمغادرة الى ايران ومنها الى سوريا . ابديت تحفظي على القرار وابلغته ان فرض الاجازات ليست طريقة سليمة للتعامل . وكتبت بهذا الخصوص برقية الى الرفاق في المكتب السياسي اعترض على القرار، وهل هو فعلا قرارهم ؟.

وكان  طبيعيا ومعتادا ان لا استلم جوابا، وواجهت آرا بصراحة بشكوكي في ارسال تلك البرقية .

الى جانب عدم طلبي للإجازة وعدم رغبتي بها اساسا، فإن التمتع بإجازة خارج كردستان لم يكن واردا قبل انعقاد اجتماع اللجنة المركزية، المقرر عقده في ربيع 1988، الذي كنت اتوقع ان يكون اجتماعا هاما بما يخص مستقبل الحركة الانصارية وتشكيلاتها.

أصر آرا على خروجي من كردستان !!! موضحا بأن اجتماع اللجنة المركزية سيعقد في دمشق، حيث سيغادر جميع رفاق اللجنة المركزية تباعا الى هناك وبعد سفري مباشرة. واوضح بأن الرفيق احمد باني خيلاني قد سبقني فعلا وان الرفيق ابو سيروان سيسافر بعد سفري وكذلك الامر مع الرفيق ابو عامل والاخرين .

وفي الحقيقة كنت في ريبة من تلك التوضيحات. كانت اكثر توقعاتي تشير الى محاولة ابعادنا بحجة الاجازة تمهيدا لتسليم القواطع الى الرفاق الجدد ( من العشرة )، بمعنى تمرير الخطة التي لم يوفق المكتب السياسي في امرارها في اجتماع اللجنة المركزية 1986. وبالتالي تسليم مسؤولية الانصار الى اقليم كردستان .

اخيرا رضخت للقرار. فعدم السفر يعني رفض قرار المكتب السياسي، ويترتب عليه موقف معارضة القرارات الحزبية . فاذا كانت المسألة محسومة عند المكتب السياسي فلا مفر اذن من التنفيذ . وهكذا سافرت يوم 19/10/1987 .

في بلدة شنوية في ايران كنت باستضافة ابو حكمت. ولكن بعد أقل من 24 ساعة على تأكيد آرا بأن ” اجتماع اللجنة المركزية سيعقد في دمشق ، وان جميع رفاق اللجنة المركزية سيتوجهون الى هناك” وصل الرفيق كاظم حبيب وهو في طريقه الى بيربينان .

سألت الرفيق كاظم وهو عضو المكتب السياسي عن سبب مجيئه في مثل هذا الوقت، واللجنة المركزية بصدد عقد اجتماعها في دمشق قريبا .

أجابني بأن ذلك غير صحيح وهو يعرف جيدا قرار المكتب السياسي بأن الاجتماع سيعقد في كردستان.

ولم استغرب من ذلك، لأني فعلا كنت مقتنعا بأن الغاية من تسفيرنا لم تكن رحمة بنا لزيارة عوائلنا، وانما كانت لإبعادنا فقط عن الاجتماع القادم.

واكد الرفيق كاظم حبيب بأن الرفيق عزيز محمد في طريقه الى كردستان، وربما سأصادفه في طريقي. واصلت طريقي، وأملي الالتقاء بالرفيق عزيز لا ستعلم منه حقيقة الأمر . بقيت في طهران مدة اسبوعين، وبعد الالتحاق بالرفيق احمد باني خيلاني والرفيق ابو هيوا ( ملا بكر وعائلته ) في مشهد، تمكنا من اجتياز الحدود والتوجه الى كابول.

في كابول التقيت الرفيق عزيز محمد وهو في طريقه الى كردستان ، وسألته : ” إذا كنتم قادمين للاجتماع، فلماذا تبعدونا وترحلونا الى الخارج؟” أجاب الرفيق : ” قابل نجتمع نحن بدونكم .. تمتعوا بالإجازة وسندعوكم للاجتماع “.

كان ذلك اواسط كانون الاول ونحن لا نزال في كابول، فاستغربت، اذ متى سنصل الى عوائلنا؟ وماهي المدة التي نتمتع بها كإجازة …؟

فسألته : “الم يكن ممكنا تأجيل اجازاتنا الى ما بعد الاجتماع؟”.

فأكد : ” ان الاجتماع سيكون في ايار 1988 وانتم ستحضرونه “.

بقيت في كابول اسبوعين ايضا ومنها غادرت الى موسكو، ثم الى دمشق التي وصلتها يوم 4/1/1988 في آذار 1988 تقرر سفر الرفيق عمر الشيخ الى كردستان، وحينما سألته عن موعد الاجتماع، طلب مني تهيئة جواز سفري، وسأبلغ لاحقا بالموعد.

و فعلا بلغني الرفاق في لجنة الخارج يوم 24/4/ بتقديم جوازي للحصول على موافقة السفر، وحصلوا على الموافقة يوم 24/5 وموعد سفري يوم 29/6.

ارسلت لجنة الخارج برقية الى كردستان لإشعار الرفاق بموعد وصولي الى طهران. فكان الجواب برقية بتاريخ 26/6 هذا مضمونها ..( ……. اذا كانت الغاية من مجيئه للحفلة !!! فإنها انتهت منذ شهر !!! اما اذا كانت لشيء اخر فلسنا بحاجة اليه !!. ) . وكان لمضمون البرقية وقع مؤلم، خاصة عبارة ( لسنا بحاجة اليه !!.).

و أين؟ في اقليم كردستان .. اذ مهما كانت الغاية من قرارهم، فقد كان بالإمكان ابلاغه بطريقة مناسبة. فأنا كنت في موقع قيادي، عسكري وحزبي في الاقليم منذ عام 1963 . فهل يعقل ان لا يحتاجني العمل في الاقليم ؟ خاصة في المجال الحزبي .

وهكذا كنا نحن قادة القواطع العسكرية، ننتظر معرفة الاجراءات التنظيمية التي جرت بعد اجتماع اللجنة المركزية، وما هي مهامنا، حتى وصول الرفيق عزيز محمد، اذ اكد ان اجتماع اللجنة المركزية القادم مكلف بتوزيع الكادر القيادي على ضوء المستجدات في تشكيلات الحركة الانصارية .

وحينما طلبت السفر الى كردستان لمواصلة عملي ضمن الاقليم ووفق ما ترتأيه قيادة منظمة الاقليم سواء كان في العلاقات او المالية او اية مهمة اخرى، اوضح الرفيق عزيز بأن ” لا حاجة لسفرك الآن وعودتك ثانية للاجتماع في الخريف القادم، وهو وقت قصير حيث سيتم اعادة توزيع العمل”.

وبقينا ( مسؤولي القواطع ) عمليا مجمدين بلا عمل او مهمة حتى اجتماع اللجنة المركزية في 1989.

وعلمنا بأن اجتماع اللجنة المركزية كان قد عقد في نيسان 1988 ولم يحضره بالإضافة لنا ( مسؤولي القواطع الانصارية الثلاثة )، الرفيقين عبدالرزاق الصافي وعادل حبة.

وكانت النقطة الأساسية فيه، نقل مسؤولية حركة الانصار من قيادة الحزب الى لجنة اقليم كردستان، وحل القواطع وكل تشكيلاتها والمكتب العسكري المركزي.

وقد وافقت اللجنة المركزية على قرار نقل المسؤولية الى قيادة الاقليم بمعارضة صوت واحد فقط، هو  مسؤول المكتب العسكري الرفيق ابو عامل. ويظهر ان الرفيق عزيز كان قد حاول اقناع ابو عامل لتغيير موقفه. الا انه ( كان كالذي يطبخ الحصى ) على حد تعبيره، ويبدو ان الرفيق رحيم عجينة قد غير رأيه بعد اقناعه برأي الرفيق ابو عامل.

تقرر في ذلك الاجتماع ترشيح رفيق الى اللجنة المركزية واعفاء احد الرفاق الجدد ( العشرة ) من عضوية اللجنة المركزية لضعف قد ابداه اثناء اعتقاله في عام 1978.

وكما ذكرت فإن الاجتماع قرر حل القواطع. واناط الاجتماع مسؤولية الافواج العسكرية الى اللجان المحلية والسرايا الى لجان الاقضية، وشكلت هيئات جديدة سميت ” المفصل” مهمتها التنسيق بين المحليات القريبة من بعضها مثل نينوى ودهوك او كركوك والسليمانية. وحل مكتب الاقليم محل المكتب العسكري المركزي من الناحية العسكرية والحزبية.

وبالنسبة لقاطع بهدينان فقد تم توزيع الانصار، بعد حل القاطع، على الفوجين الاول ” نينوى” والثالث ” دهوك” ونسب الرفيق لبيد عباوي ( ابو رنا ) لقيادة نينوى والرفيق ابو عادل لقيادة دهوك. وتم تشكيل هيئة ( مفصل ) منهما ومن الرفيقين ملازم هشام وابو عمشة . اما بقية الرفاق الكوادر في المحليتين فلم يكلفوا بمهمات محددة انتظارا لا رسالهم الى الداخل. وهكذا تكررت مرة ثانية ظاهرة تجميع الكادر كما حدث في عام 1982 قبل احداث بشت ئاشان .

اما مسؤولية محلية اربيل فقد انيطت بالرفيق ابو ربيع ومحلية السليمانية بالرفيق ابو ناصر، في حين لم يكلف الرفاق اعضاء اللجنة المركزية من رفاق الاقليم ومكتبه سابقا ( الرفاق الاكراد ) بأية مهمة، بمعنى أنه لم يبق أي رفيق كردي على مستوى القيادة في الاقليم سوى مسؤوله الرفيق عمر الشيخ. كما اضيف الرفيق ابو يسار الى لجنة الاقليم، وهكذا تم تعريب قيادة الاقليم دون ان تلاحظ اللجنة المركزية مدى خطورة ذلك من الناحية الفكرية وتأثيراتها على القاعدة الحزبية.

في تلك الفترة توالت تراجعات الجيش الايراني. وكانت اغلب التوقعات تشير الى احتمالات ايقاف الحرب، مما سيفسح المجال امام السلطة لتدشين حرب ابادة شاملة في كردستان. وكانت تهديدات رأس النظام باستخدام السلاح الكيمياوي تطلق علنا. في مثل هكذا اوضاع وتوقعات بأحداث كبيرة وخطرة، كان لزاما على قيادة الحزب اتخاذ الاحتياطات من خلال تعزيز مركزة العمل الانصاري، لتوحيد المواقف والجهود لإنجاز الخطط ، ان كانت بالمواجهة او بالانسحابات المنظمة والمخططة وفق خطة طوارئ يجري الالتزام بها مركزياً. لكن الذي حصل كان عكس ذلك تماما، حيث تم ابعاد مسؤولي القواطع الذين اكتسبوا الخبرة والكفاءة في تمرسهم بالحركة الانصارية .

جاء في وثيقة تقييم الحركة الانصارية ( وحينما اقرت اللجنة المركزية في اجتماع حزيران ـ تموز 1988 ربط الحركة الانصارية بمنظمة الاقليم مجدداً، جاء هذا القرار متأخراً وترافق مع الهجوم الواسع الذي قامت به السلطة على المناطق المحررة في كردستان، وبالتالي لم تتح الفرصة الكافية لامتحان هذا القرار على ارض الواقع وخاصة في تلك الظروف الصعبة، مما كلفنا خسائر كبيرة ).

وهنا نتساءل: الم يكن بالإمكان تأجيل مثل هذا القرار. فقيادة الحزب كانت على دراية بأوضاع منظماتنا الحزبية في اقليم كردستان وكم كانت ضعيفة، لتحملها وفق ذلك القرار مهمة ثقيلة وصعبة، هي قيادة الحركة الانصارية.

ان الاجراءات التي تمت بعد اجتماع اللجنة المركزية، لم تخلو من مساعي اضعاف وتحجيم الهيئات العسكرية والعمل الانصاري بشكل عام .

ثم من كان لا يتوقع ( وخاصة الاحزاب المتواجدة على ساحة كردستان ) بأن السلطة الدكتاتورية ستشن اعنف هجوماتها على كردستان حال انتهاء الحرب مع ايران. فمنذ التوقيع على ايقاف الحرب وحتى مباشرة التقدم نحو كردستان فترة زمنية رغم قصرها، الا انها كانت كافية لدراسة الوضع واتخاذ الاجراءات الاحترازية الموحدة بين جميع وحدات وتشكيلات الانصار والمنظمات الحزبية، ووضع خطة مشتركة للتحرك على كافة الاصعدة، كالمشاغلة والمواجهة عسكرياً، وانقاذ العوائل وايجاد طرق انسحاب مناسبة. إن هذه الخطط تتخذها اقوى الوحدات العسكرية النظامية وكذلك وحدات الانصار، وهي دلالة على الشجاعة والحكمة، وليست كما يطلق عليها البعض ” هزيمة”

ان البقاء في المقرات بانتظار تقدم القطعات العسكرية، لا يؤدي بالحركة الانصارية الا الى ما وصلنا اليه، وما حصل في الفوج الاول دليل واضح على ذلك .( سنأتي للموضوع لاحقاً ).

لقد باشرت السلطة حملتها لإبادة الشعب الكردي والحركة المسلحة في كردستان، منطلقة من منطقة كركوك. فقد قامت السلطة بحرق القرى وابادة سكانها واعتقال من تبقى منهم وارسالهم الى المجهول. ولا يعرف مصيرهم لحد الآن . وقد قدر عددهم بـ 182 ألف من الشيوخ والنساء والاطفال. في اثناء المفاوضات مع وفد الجبهة الكردستانية في اربيل، اعترف علي الكيمياوي بموت 100 ألف فقط في عام 1996، في رده على تساؤل جلال الطالباني حول مصيرهم .

وامتد تقدم القطعات العسكرية ليشمل مناطق خواكورك واربيل. وبالرغم من ذلك لم يفكر رفاقنا في بهدينان بإيجاد حل مناسب لعوائلهم، بإبعادهم عن المواقع الخطرة في العمق وارسالهم نحو المناطق الحدودية، لتسهيل لجوئهم الى تركيا في حالة اضطرارهم للنجاة بأنفسهم. كما لم يكن لدى الفوجين     ( المحليتين ) الاول والثالث اية خطة للتنسيق فيما بينهما عبر ( المفصل ) الذي تم تشكيله اساسا لغرض التنسيق !!، انما اتخذت كل محلية خطتها المستقلة. ان ما قدمه انصار الفوج الثالث من ملاحظات وآراء اثناء الاجتماع الموسع الذي عقد في القامشلي بعد تركهم لمخيمات اللجوء في تركيا، دليل صريح على حالة التخبط والارباك التي سادت تلك الفترة .

اردت من خلال هذه المقتطفات.. اشراك الراحل توما توماس في هذا النقاش.. من خلال رؤيته وروايته للأحداث كما دونها.. بحكم خبرته واطلاعه المباشر على تفاصيل الأمور.. لكونه قيادياً وحريصا لا يمكن ان يفتري على رفاقه في قيادة الحزب والأنصار.. وهو يخط في مذكراته.. عبر هذه الاوراق التي نستعين بها اليوم الاسطر والصفحات التي لها علاقة بالأنفال .. للكشف عن الحقيقة الضائعة والمغيبة لصفحة دامية من صفحاتها فيما يخص كارثة مراني .. التي ما زال يتلاعب بمحتواها لبيد عباوي من خلال تفاصيل حديثه مع شه مال.. والذي سيكون لنا وقفة تفصيلية تفكيكية مع ما ورد فيه في الحلقة الثالثة من هذه السطور ..

 

ـــــــــــــــــــــــــ

صباح كنجي

10/8/2019