تكتمل صورة الأيزيدي في ذهني بشاربه الكث، ولباسه الأبيض، فلقد رافقني اللون الأبيض منذ صغري، في لالش المقدسة، وفي مزار شرفدين، وعند مشاهدتي لحمامة بيكاسو وهي مرسومة على باب المكتبة الفرعية في شنكال وهي تريد الدخول مثلي.
وبين مكتبة شنكال التي لا أثر لها اليوم، ومكتبة الكونغرس صوت بندقية أرنست همنغواي في رائعته (لمن تقرع الأجراس)، ودخان غليون السادات عندما أستقبل في إسرائيل كنبي.
الأيزيدي شخص بثوب أبيض، من قمّة رأسه إلى أخمص قدميه، يمكن اختبار نقاوة الأبيض بغمس الأيزيدي فيه، لأن الأيزيدي هو الشاهد على ولادة الأبيض، مثلما كان قَسَم (ستراسبورغ) شهادة ميلاد اللغة الفرنسية.
الأبيض يشبه الأيزيدي إلى حد بعيد، فهو ينسجم مع جميع الألوان، مثلما الأيزيدي ينسجم مع جميع الناس، وبسرعة لا تخطر على بال مؤلفي كتب التنمية البشرية.
ومن أعظم عشاق اللون الأبيض العمّ (داود الداود) الشخصية الأيزيدية الأكثر جدلا في الصراع بين القديم والجديد، وهو الأكثر شهرة بتمسكه بالقديم دون الالتفات للجديد. فخور بزيّه الشنكالي التقليدي الأصيل وبجدائله وشاربه وقلنسوته البابلية، ومهتم بأدق التفاصيل للأشياء؛ كي يحافظ على بقاءه في دائرة الأيزيدياتي. متقشف في عيشه كفقير هندي. نقي كما (كانيا سبي)، وصفحته كانت بيضاء كندف الثلج.
ومن أفضل عاشقات اللون الأبيض الفتاة يوم زواجها عندما ترتدي فستان زفافها. ولكن في الهند بلد المليون لون ولون، فالأمر يختلف، فالأبيض لا يدخل في احتفال الألوان في عيد (هولي).
والأبيض هو لون وزارات الصحّة في عموم المعمورة. الممرضات، والأطباء يلبسون الأبيض، وملاءات أسرة المرضى في المستشفيات بيضاء، وحبوب الأسبرين بيضاء، تشبه بقايا قالب طباشير كتب به المعلم إنجازات الملك فيصل الأول على السبورة. ولكن السبورة كانت سوداء؛ ولهذا قدّم قالب الطباشير الأبيض استقالته احتجاجا على اغتيال الملك فيصل الثاني، ومن أساطير قالب الطباشير ما يزال الأب الشنكالي ينصح أبنه الطالب بدخول كلية الطب، ليرتدي صدرية بيضاء تشبه صدرية بائع الباجة، ويفتح له بسطة قرب بقايا منارة شنكال الأثرية يبيع عليها جميع أنواع الحبوب والكبسولات الملونة؛ لتخفيف آلام قومه.
الشفاء لونه أبيض تمام البياض، ولكن لا يوجد شفاء من (الهوم سك) إلا إذا طلب المعلم من فراش مدرستنا العمّ (حجي سليمان) قالب طباشير جديد؛ ليشرح لنا بطريقة رياضية كيف ولماذا تتزامن هجرة السنونو من شنكال مع طائر الفلامنكو من أهوار المعدان وتاريخ رجوعهما.
الموت أبيض؛ ولهذا كفن الميت يجب أن يكون أبيضا، وسترافق روحه ملاك أبيض له أجنحة بيضاء طويلة وكبيرة، يسأله عن عدد القبلات في فلم (أبي فوق الشجرة).
وكذلك الأشباح، فهي بيضاء، ولكن غالبا ما تكون بمسحة رمادية؛ لتتميز عن غيرها، ربمّا لأنها غير راضية عن حالها، وتتراءى لنا عندما نفتقد أولئك الذين فقدناهم أثناء الحروب والفرمانات، وهي تصرخ بنا قائلة: إن الأبيض لا يعتبر لونا، ولكننا نحن الأشباح موجودين دائما، وطبعا بعضها مرحة وصديقة مثل: الشبح الصديق (كاسبر) الذي لا يقل شقاوة عن زميله (نيلز) وقد استمتعنا بمرافقتهما في مغامراتهما وقت الطفولة.
أجمل الغيوم هي الغيوم الصيفية البيضاء الناصعة البياض، وهي تسر الناظرين عندما ترفعها ريح خفيفة، وترسل الشمس من بينها ضحكتها. جدي كان يقول:
” تلك هي غيوم صديقة فهي لا تحمل الضغينة؛ لأنها لا تزال عذراء، وخالية من المطر الغزير.” جدي كان رجلا حكيما، فهو يعرف بالضبط عدد القبلات في كواليس الفلم وطريقة أدائها أفضل من عبد الحليم حافظ.
الأبيض هو لون السلام، والسلام حمامة بيضاء رسمت بأنامل بيكاسو، وأعدنا رسمها على باب المكتبة الفرعية الواقعة في وسط سوق شنكال التحتاني.
الاستسلام أيضا أبيض، فالعَلم الأبيض هو راية الاستسلام، ولكن الهنود الحمر من قبيلة شايان وشيروكي والأباتشي لم يستسلموا للآن، فليس لديهم أكفان، ولا رايات بيضاء، بل حراب طويلة ونظرات ثاقبة، وظهورهم لا تعرف الانحناء.
أما نحن فقد استسلمنا حتى بان بياض آباطنا، والمخيم الذي نقلونا إليه خيامه بيضاء، بيضاء من الخارج، وبيضاء من الداخل، آلاف الخيام، كلها بيضاء كصفحات كتاب، ونحن فيها كلمات غير مرتبة نحكي قصص الفرمان وآلام الخيانة.
من المضحك أن تصدر معظم القرارات بإهمال كل ما هو أبيض من البيت الأبيض نفسه، لذلك نرى جميع خيام الأمم المتحدة بيضاء جدا عكس نيتها، ولكن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يلبس بدلة سوداء ويعبر عن قلقه البالغ من فشل زراعة نخيل الجنوب في شنكال، وفشل زراعة التين الشنكالي في الجنوب.
الخيمة في نظري كنازح منظر مشبّع بالبياض، فالمنظر من اليمين أبيض، ومن اليسار أبيض، ومن الأمام، ومن الخلف. وكأنه طوفان من الثلج، ولا يمكن التخلص من ندف الثلج إلا بالدخول إلى جوف الخيمة.
وما أن أهرب، وأتمدد حتّى يجابهني لون الخيمة الأبيض من الداخل. أكره المخيمات، أكره خيمتي. أكره اللّون الأبيض، فهو قاسي جدا، وهو لون العظام التي نستخرجها من المقابر الجماعية لأحبابنا في حوض جبل شنكال.
أفتقد حديقتي الصغيرة الخضراء وورودي التي يبست الآن. مشتاق للدخول إلى غرفتي التي سرق محتوياتها (داعش)، لأتأمل اللوحات الملونة، والشهادات المزخرفة التي على جدرانها، وقصائد نيتشه الذي يذكر في بداية آخر قصيدة كتبها:
للمرة الرابعة والسبعين
عندما نحروا الأيزيدي
لون دمه كان أبيضا.
آسف لغلق هذه النافذة التي كنت أضع فيها نصوصي أريجا للعابرين…أتمنى أن نلتقي في ظروف ومكان أفضل أخي هشام العقراوي..
مراد سليمان علو
أديب شنكالي مقيم في ألمانيا