الغرب …علامات الانهيار – عبد الخالق الفلاح

 أن من اهم العوامل التي  تشكل الأسباب الرئيسة في اضمحلال الحضارات تتمثل في العوامل الداخلية  وتآكلها ثم سقوطها أخيرا، لأنها تقضي على مناعة الجسم الاجتماعي، فتذره حمى مستباحا للتدخل الخارجي الذي يأتي ليشكل الضربة القاضية، أو المسمار الأخير في نعش الحضارة. وإن مَثَلَ الجسم الاجتماعي في ذلك، مَثَل الجسم المريض الذي تتكالب عليه الفيروسات والبكتيريا عندما يختل جهازه المناعي، حتى تقضي عليه في النهاية،والتصريحات الأخير للرئيس الفرنسي ماكرون تؤيد من ان علامات الافول والانهيار اخذت تبرز في الظهور وهذا الاعترافات خطيرة جداً بحد ذاتها.

بلاشك فأن الحضارة الغربية الحاضرة خالفت المسيرة الإنسانية، لقد تناسوا بساطة أن هناك أخلاقًا إنسانية فطرية، نابعة من الضمير الشخصي للفرد، وهي التي تنظِّم حياته وعلاقاته بمن حوله، واحترامه لذاته، ومبادئه في الحياة، وتناسوا البحث في علاقة الإنسان بالوجود وخالقه، ورسالة الفرد على الأرض؛ أي: إنهم تناسوا الدين بوصفه مكونًا محوريًّا للذات الإنسانية.

منذ انتظام وعي الحضارة الغربية بنفسها كحضارة استثنائية تأخذ طريقها لمزيد من الهيمنة المادية والمعنوية على العالم، والحديث عن تراجع هذه الحضارة وانكماشها، بل وحتى عن تدهورها، هو حديث ينبع من داخل هذه الحضارة ذاتها؛ كحراك ثقافي يُمارس آلية النقد الذاتي بشكل واعٍ أو غير واعٍ؛ عبر مسارين: رفض أو استشراف.

يتحدث مساعد وزير الدفاع الأميركي في إدارة كلينتون/ جوزيف س. ناي عن  ظاهرة الحديث الغربي المتكرر عن سقوط الغرب، وسقوط الولايات المتحدة تحديدا كرمز أيقوني لهذا الغرب. يقول: ‘على مدى سنوات، حاول عدد من الباحثين أن يتنبأوا بصعود الأمم وسقوطها بتطوير نظرية عامة عن التحوّل إلى الهيمنة. فحاول بعضهم التعميم من تجربة البرتغال، وأسبانيا، وهولندا، وفرنسا، وبريطانيا، وركّز آخرون بشكل لصيق أكثر على اضمحلال بريطانيا في القرن العشرين كمؤشر ينبئ بمصير الولايات المتحدة،وهو يشير إلى أن الحديث عن انحطاط الولايات المتحدة كان رائجا قبل عقد عقدين من نهاية القرن العشرين، كما يراه تشاؤما مدفوعا بنوع من كون الناس ـ بطبيعتهم ـ ينظرون إلى الماضي بوصفه زمنا جميلا مقارنة بالحاضر والمستقبل ، أي أنها لا تُعبّر عن واقع الحال؛ لا راهنا ولا مستقبلا؛ من حيث كونها لا تستند على معطيات واقعية صلبة، بل هي خاضعة لعوامل نفسية، تتجاوز معطيات الواقع أو تقفز عليها،

لقد شكلت الحرب الروسية الاوكرانية نقطة تحول في النظام العالمي القائم على الأحادية القطبية وتصرفات الولايات المتحدة كحاكم أوحد للعالم، وتنقلها من التزاماتها بشكل أحادي ، وغزوها عسكريا لدول خارج قرارات مجلس الأمن، أو حصار دول أخرى بنفس المنطق.

نحن اليوم امام نهاية تبعية المستعمرات السابقة للمتروبول، وبداية للانكماش الاقتصادي والاستراتيجي لأوربا التي وجد رؤساؤها، أنفسهم عاجزين عن اتخاذ عقوبات اقتصادية صارمة ضد روسيا،وان النظام العالمي سوف يتغير وأن قواعد اللعبة سيتم تحيينها، وعقارب الساعة سيتم ضبطها هذه المرة على توقيت بكين وموسكو، وليست كما يريدها الغرب و واشنطن ، وتم اعداد المخططين الغربيين وكان يعتقد  أن غرق موسكو في أوكرانيا يشكل فرصة لإضعاف روسيا وتنحيته كقوة عظمى عن الموقع الذي تحتله على الخريطة السياسية والعسكرية في العالم، وكانت ترى روسيا ضعيفة لدرجة أنها لا تستطيع القيام بالأشياء التي فعلتها في غزو أوكرانيا،

 لقد كانوا قد عمدوا سريعا جدا إلى ضرب عزلة دبلوماسية على روسيا وأدانوا عدوانها العسكري على أوكرانيا وبدأوا بفرض عقوبات اقتصادية وتجارية ومالية على مؤسساتها العامة والخاصة،’ و قال الرئيس بايدن إن «ثمن الحرب مرتفع لكنه سيكون أكثر ارتفاعا لو استسلمنا أمام الاعتداء» الروسي. وبرر انخراط بلاده بالقول: «نحن لا نهاجم روسيا بل نساعد أوكرانيات للدفاع عن نفسها بوجه العدوان الروسي ، وسبق وان انسحبت واشنطن من كثير من الاتفاقات الدولية  وتم اعداد المخططين الغربيين وكان يعتقد  أن غرق موسكو في أوكرانيا يشكل فرصة لإضعاف روسيا وتنحيته كقوة عظمى عن الموقع الذي تحتله على الخريطة السياسية والعسكرية في العالم، وكانت ترى روسيا ضعيفة لدرجة أنها لا تستطيع القيام بالأشياء التي فعلتها في غزو أوكرانيا،’  في حين قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن عقوبات الغرب تنم عن قصر نظر وتشكل خطرا على العالم بأسره’

إلا أن همهم الأكبر كان لأسابيع عدم التورط في الحرب والاستجابة المحدودة لمطالب كييف من السلاح والعتاد الغير هجومي وبالتوازي، قام الحلف، بمكونيه الأميركي والأوروبي، إلى تعزيز وجوده العسكري في جناحه الشرقي المحاذي لروسيا والذي شمل بلدان البلطيق الثلاثة وبولندا وبلغاريا ورومانيا وبعد ان طال امد الحرب التي كان يعتقد الغرب انها سوف تنتهي بمدة اقل مما تصور ،انقلبت الأمور رأسا على عقب واتخذ الحذر المشترك الأميركي ــ الأطلسي والأوروبي وتحول إلى اندفاع من غير حدود لا بل إلى تنافس بين المجموعتين واصبح الدعم بلا حدود وهي ما زالت ترفض تهمة مشاركتها في الحرب، الضالعة فيها حقيقة إلى درجة أنها أصبحت تحارب القوات الروسية بالواسطة وترى الولايات المتحدة في المقدمة و لتسعى أوروبا للحاق بها. لانها تعلم من ان روسيا تحتفظ بترسانة نووية استراتيجية ضخمة، قادرة على ضرب أهداف حول العالم بما في ذلك الولايات المتحدة. وروسيا بدورها معرضة لهجوم تشنه النظم الاستراتيجية الأمريكية. وبقدر ما يحدثه التهديد بالتصعيد نحو تنفيذ ضربات نووية استراتيجية من ردع لكلا الجانبين من الصراع فيما بينهما، فإنه من المفترض أن تحول هذه الترسانات دون وقوع اشتباك نووي استراتيجي، على الرغم من أن المخاوف الروسية (سواء كانت صحيحة أم لا) من أن القدرات التقليدية والتطورات الدفاعية الصاروخية الأمريكية والقدرة على تنفيذ ضربة استباقية بهدف إبطال القدرة على الرد قد تجعل حالة التعادل هذه أقل مما تأمل.

ترغب روسيا والصين بتعزيز التعاون في ظل العقوبات الغربية على روسيا التي حرمت الاقتصاد الروسي من  الأسواق الأمريكية والأوروبية و  قدمت الصين الدعم الاقتصادي لموسكو بما في ذلك شراء صادرات الطاقة والتقارب أكثر مع بلدان آسيا الوسطى لتشكيل جبهة موحدة ضد الغرب. لكن رغم تقاربهما وتعاونهما هناك تنافس أيضا بين بكين وموسكو على النفوذ في هذه المنطقة و ترغبان في ضمان عدم انخراط دولها في تحالفات مع شركاء جدد. وترى أن قمة منظمة شانغهاي ستكون بمثابة فرصة ‘كي تعبر الدول الأعضاء عن مصالحها والخطوات التي بمقدورها اتخاذها لا سيما كازاخستان وأوزبكستان حيث تنظر بكين إلى المنطقة باعتبارها ركيزة هامة في مشروع الحزام والطريق. أما روسيا، فهي الأخرى تحاول الحفاظ على دورها كشريك استراتيجي واقتصادي أساسي في منطقة آسيا الوسطى التي كانت في السابق جزءا من الاتحاد السوفياتي، وهما ليستا بأفضل من الغرب في ممارسة منع وقمع حريات الإعلام والصحافة، فهي تصادر وتمنع وتقطع البث الأوروبي والصحف الأوروبية، لنكتشف وسط ذلك كله، أن خرافة «حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية الإعلام» كانت بضاعةً يصدرونها إلى الآخرين خدمةً لمصالحهم وتحالفاتهم المشبوهة وبها يضغطون عليهم باسم الحقوق التي عصفوا بها عصفًا غير مسبوق وبأسلوب فظٍ وطئوا شعاراتهم بأقدامهم ومزقوا كل عبارات حرية التعبير ليحموا ويدافعوا عما اعتبروه مصالحهم في وقتٍ كانوا فيه يمنعون ويستنكرون في الدفاع عن مصالح شعوبهم وحماية بلدانهم والذود عن مجتمعاتهم .

عبد الخالق الفلاح – باحث واعلامي