على الصفحات 55 و 57 من الكتاب اعلاه
“” إن المشكلة الأعظم التي تواجه الحضارة لا تتمثل بالتطرف الديني فحسب، وإنما تتمثل بمجموعة التسهيلات الثقافية والفكرية التي قمنا بتقديمها للإيمان ذاته. إن المعتدلين دينياً مسؤولون، الى حد كبير، عن الصراع الديني في عالمنا، من حيث ان اعتقاداتهم تُقدم الإطار الذي لا يمكن فيه معارضة حرفية النص المقدس والعنف الديني بالقدر الكافي.
إن بمقدور حتى تلك العقائد التي تبدو في ظاهرها وادعة، في حالة عدم التفسير، ان تتسبب في نتائج لا قدرة لنا على احتمالها. فعلى سبيل المثال يعتقد المسلمون ان الإله يبدي اهتماماً شديداً بملبس الناس. وبينما يبدو هذا الإهتمام غير مؤذٍ كثيراً، إلا ان حجم المعاناة الذي تسببه هذه الفكرة البعيدة عن المنطق يدعو للذهول. في عام 2002 وقع هرج ومرج في نيجيريا على خلفية انتخاب ملكة جمال العالم، ما ادى الى سقوط مائتي قتيل: رجال ونساء ابرياء نُحروا بالخناجر وبعضهم حُرقوا وهم احياء وهذا فقط من اجل إخلاء المكان من النساء اللواتي يرتدين البكيني. وفي مطلع العام نفسه قامت شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة بمنع المُسعفين ورجال الإطفاء من إنقاذ عشرات الفتيات اللواتي حوصرن في بناية إندلع فيها حريق. والسبب لأن الفتيات لم يكن يرتدين غطاء الرأس التقليدي الذي فرضته الشريعة القرآنية. اربع عشرة فتاة فقدن حياتهن في ذلك الحريق، وخمسون تعرضن لجروح بليغة، فهل المسلمون احرارٌ بالفعل حين يعتقدون بان خالق الكون مهتم بطول ثوب المرأة “”
الى ماذا يشير هذا النص؟
المحطة الأولى التي يشير اليها تتمحور حول التسهيلات الثقافية والفكرية التي يتلقاها الإيمان، حتى وإن كان هذا الإيمان لا يصب في صلب المنظومة الإجتماعية التي قد تتضرر في حالة عدم تقديم هذه التسهيلات. والسؤال المطروح هنا هو مَن يقدم هذه التسهيلات ولأي نوع من الإيمان؟
حينما نتكلم عن الإيمان هنا فإننا نعني الإيمان الديني الذي يختلف في مضمونه واسس التعامل معه عن الإيمان العلمي او الإيمان الفلسفي. إن السمة الأساسية التي يتسم بها الإيمان الديني، الذي نراه اليوم على ساحة الممارسة اليومية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ينطلق من قناعاته الغيبية التي يضع بعضها او معظمها في خزانة الحقيقة المطلقة التي لا يرقى اليها اي شك علمي او تحليل فلسفي. وهنا تبرز إشكالية التعامل مع هذا الإيمان، خاصة في تلك المجتمعات التي لم تزل تسير خلف خطى وتوجيهات القائمين على هذا الإيمان، دون التوجه بنفس الإهتمام نحو التقرب من كنه المنجزات العلمية المخالفة لكثير من ثوابت الإيمان الديني السائد ، والتي يعيشها الفرد في مفردات حياته اليومية المختلفة. فكيف يتم ذلك؟
المُلاحَظ غالباً ان مثل هذه الظواهر تبرز في المجتمعات التي يتراجع فيها التعليم ويُستهان بالتطور العلمي وبالنظرات الفلسفية للكون ومقوماته ومكوناته. ومرّد ذلك، من وجهة نظري، الى:
أولاً: علاقة النظام السياسي السائد بممارسة هذا الإيمان وبالقوى الساهرة على نشره وترسيخه في المجتمع. وهنا لابد لنا من تناول العلاقة بين القصر والمعبد، اي بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية في المجتمع.
نستطيع القول، إذا ما دققنا النظر في مقومات مجتمعاتنا العربية الإسلامية، ان العلاقة بين هذين المؤسستين تسودها التوأمة، بما يعني تبادل المنفعة، كتلك العلاقة التي تنشأ بين بعض النباتات حيث تستفيد فيها النباتات المتشاركة كل من الآخر بحيث يصبح الإعتماد على الآخر ضرورة حياتية، فيحصل بذلك نوعاً من التوازن في تبادل المنفعة ، إذ لا يستطيع أحدهما الاستغناء عن الآخر ( كما في تبادل المنفعة بين النباتات ذات العقد النتروجينية والنباتات المزروعة الى جانبها مثلاً)*.وهذا ما شمل مجتمعات اخرى في خارج نطاق مجتمعاتنا في العصور التي لم تبلغ حركة التنوير فيها موقعاً مكَّنها من التغلب على هذه الظاهرة التوأمية بين القصر والمعبد، كما هو اليوم.
نتشأ مثل هذه العلاقة في المجتمعات التي تسودها انظمة سياسية شمولية قمعية هدف الحاكمين فيها التمسك بكرسي الحكم، حتى وإن اجهد الحكام انفسهم بتصوير مجيئهم للحكم عبر انتخابات يصفونها بالديمقراطية والتي لا تقل نتائج فوز الحاكم فيها عن معدل يتجاوز التسعين بالمئة في اكثر الاحوال ” ديمقراطيةْ “. فلا غرابة هنا ان نرى الحاكم السياسي وقد مهد الطريق للقائمين على المؤسسة الدينية بان ينشروا ما شاء لهم من افكار التجهيل المرتبطة بالخرافات والأساطير والكذب الواضح احياناً، بحيث تستند جميعها على الثوابت الدينية لكي يسهل تمريرها ولا يعطي اي مبرر للحاكم السياسي لأن يمنع انتشارها. فيصبح الجهل المحرك الأول لدفع هذه العلاقة بين المؤسستين نحو هاوية التخلف الدائم عن ركب الحضارة الإنسانية وكل ما انتجه التطور العلمي. مما يسهل الامر على الحاكم السياسي الذي يحظى بالدعم المقدس المؤَيَد بنصوص دينية تقيه شر الإنقلاب عليه او التأليب ضده، إذ تصبح طاعته واجبة شرعاً وكل مَن يخالفه يلقى العقابين الدنيوي من قِبَل الحاكم نفسه والأُخروي من قِبل إله هذه المؤسسة الدينية او تلك.
ثانياً: العلاقة بين الفكر التنويري والمؤسسة الدينية ومدى التناغم او التصادم بين الإثنين. بالرغم من انتشار افكار التجهيل التي تُمارَس باسم الإيمان الديني، وتأثُر ثقافة التنوير بكثير من عوامل التراجع والتضييق التي يمارسها الحاكم السياسي دفاعاً عن شريكه الإيمان الديني في السيطرة على المجتمع سياسياً وفكرياً ايضاً، تتبلور بعض الأفكار التي تسبح ضد التيار السائد وتنتشر بهذا القدر الضيق او ذاك، لتطرح غير ما هو شائع في اجواء الثقافة والتعليم وكثير من العادات والتقاليد السائدة.
من الطبيعي ان تشكل محدودية حركة وانتشار الأفكار الجديدة المتناقضة مع الإيمان الديني، بالرغم من محدودية تأثيرها، عامل قلق ورفض من المؤسستين الدينية والسياسية المتناغمتين مع بعضهما البعض في اجواء المنفعة المتبادلة التي بينهما. وهنا يكمن جوهر ما نريد الوصول اليه في هذا المجال والمتعلق بالفعل المعاكس الذي يتوجه به الفكر التنويري لحماية ذاته اولاً، ولتطوير وسائل عمله ثانياً ، ولتوسيع مساحة انتشاره ثالثاً.
هناك ثلاثة احتمالات من الممكن تصورها كردود افعال يتخذها الفكر التنويري.
الإحتمال الأول الذي يتبنى الرفض لأطروحات المؤسسة الدينية، من خلال الإتيان باطروحات التنوير والحداثة. هذا الإحتمال يواجَه بالرفض ايضاً ويسعى قدر ما يستطيع السعي، في السر والعلن، الى تفنيد اطروحات المؤسستين الدينية والسياسية، مستعيناً بالعلم وكل ما توصلت اليه الحضارة الإنسانية من تقدم في كافة مجالات المنفعة البشرية. من الطبيعي ان يواجَه مثل هذا التوجه للفكر التنويري بكل وسائل القمع والملاحقة والإعلام، للحيلولة دون انتشاره وتأثيره على المجتمع. هذا الإحتمال لا يعنينا هنا، حيث انه لا يساهم هنا في تحقيق التسهيلات الثقافية والفكرية للإيمان الديني، بل بالعكس من ذلك. إلا ان ما يهمنا هنا هما التوجهان الآخران اللذان يشكلان مساهمة كبرى في تقديم العون والمساعدة لنشر وتأصيل الإيمان الديني في المجتمع، وهما إحتمال التنحي والإبتعاد عن التعرض بأي شكل من الاشكال للخطاب الديني وما ينجم عنه من إيمان. وإحتمال توَجُه بعض المثقفين ” للحوار” مع الخطاب الديني بشكل لا يثيرقلق او تجريح المؤسستين الدينية والسياسية.
هذان الإحتمالان من المواقف تجاه الافكار التي تنشرها المؤسسة الدينية في المجتمع والتي تحظى بدعم وتسهيلات المؤسسة السياسية، يساهمان ايضاً في تقديم التسهيلات الثقافية والفكرية المباشرة وغير المباشرة للمؤسسة الدينية. فالخطاب المُهادِن والمُجامِل للفكر الديني وخطابه التجهيلي سيجعل من هذا الخطاب امراً مقبولا لدى الجماهير المتلقية له والتي لا تجد بديلاً جدياً عنه يرشدها الى طريق الفكر التنويري وتوجهات الحضارة، إذ ان الفكر التنويري لا يجرأ في كثير من الحالات على تقديم البدائل العلمية والعملية للمجتمع، وذلك بسبب موقفه المُهادِن او الخجول من الفكر الديني السائد.
اما المحطة الثانية التي نستوحيها من هذا النص فتتعلق بالحجاب الذي تطرحه المؤسسة الدينية كفرض شرعي لا يمكن الإستغناء عنه وكرمز للإيمان ايضاً، ومن ثم بالتأييد الذي يلقاه هذا الطرح من المؤسسة السياسية التي تعمل حتى على اصدار قوانين العقوبات للمخالفين لتطبيق هذا الواجب الشرعي، بل وحتى ضد منتقديه.
أخذت اطروحة الحجاب بمفهومه الديني السائد حيزاً واسعاً من النقاشات التي ساهم فيها كثير من رجال الدين الداعين لها ولوجوبها، ورجال الدين الذين لم يروا فيها الوجوب الشرعي باعتبارها كانت تشكل نوعاً من اللباس قبل الإسلام، والذي تناوب عليه الفقه الإسلامي ليحوله الى اشكال عديدة تختلف عن شكل غطاء الرأيس الذي تبلور عنه هذا الحجاب الذي اعتبره بعض الفقهاء واجباً شرعياً على المرأة المسلمة. كما ساهم في هذا النقاش اولئك المثقفون الذين تناولوا تاريخية هذا النوع من غطاء الرأس وعلاقته بتطور المجتمعات والدعوة الى وضعه موضع الإختيار كأي نوع من اللباس الآخر.
لو حاولنا التطرق الى مفردات هذا النوع من اللباس وعلاقتها بالدين من خلال ذكرها في نصوص المصدر الأول والأساسي للدين الإسلامي المتمثل بالنص القرآني، لوجدنا ان هناك ثلاث مفردات تتعلق بهذا الموضوع. المفردة الأولى هي ” الخِمار ” الواردة في الآية 31 من سورة النور، والمفردة الثانية هي ” الجلباب ” الواردة في الآية 59 من سورة الأحزاب.اما ما تبلور وتعدد من التسميات الأخرى كالبرقع والجادور غيرها من المسميات، فلا اثر له في اي نص من نصوص اُسس الدين الإسلامي.
اما مفردة ” الحجاب ” التي ورد ذكرها في سبعة نصوص قرآنية (الأعراف 46، الأحزاب 53، فُصِلت 5، الشورى 51، الإسراء 45، مريم 17، ص 32 ) فلم تعني اية مفردة من هذه المفردات السبعة في النص القرآني بأن الحجاب اشارة الى نوع من اللباس او تشير الى زي من الأزياء، بل جاءت بمعنى ستار يحجب بين موقعين. وهذا ما ينطبق تماماً مع معاجم اللغة بانه الساتر الذي يحول بين شيئين.وجاء في قاموس ” المنجد في اللغة والأعلام ” ان الحجاب وجمعه حُجُب يشير الى كل ما حال بين شيئين” .
اما ما جاء في النصين اعلاه والمتعلقين بالخمار والجلباب، فلا يشيران إلا الى تغيير وضع غطاء الرأس الذي كان يرتديه الرجال والنساء في اجواء شبه الجزيرة العربية وما يسودها من حرارة الشمس او هبوب الرياح المحملة بالرمال، بحيث يجعل المرأة المسلمة متميزة عن غيرها، والسبب الرئيسي لذلك هو لمنع التحرش بهن من قبل الرجال الذين يتصيدون النساء في الطرقات في ذلك المجتمع.إذ جاء النص يقول ” ذلك ادنى ان يُعرَفنَ فلا يُؤذَينَ “. بمعنى عدم الإشارة الى اية صفة تعبدية او إيمانية الى هذا النوع من اللباس. لقد قلب بعض فقهاء الإسلام من تجار الدين معنى هذا النص ليحولوه الى بضاعة يتاجرون بها ليضمنوا تبعية مَن يسعون الى تجهيلهم من بسطاء الناس، وبذلك يضمنون طريقة حياتهم كطفيليات تعيش على جهود الآخرين، ولم يتوانوا عن ربط تجارتهم هذه بكل الأكاذيب والأساطير والخرافات التي لا يستطيع المجتمع الذي وضعوه في اسفل درجات الجهل، لها رداً. وإذا ما دققنا في هذا الأمر جلياً فإننا سنجد ان المجتمعات الحالية تحكمها قوانين الدولة التي يجب ان تقوم بدور الحماية في المجتمع ومنع تعرض المواطنات والمواطنين الى الإيذاء الذي سيطاله القانون وما تترتب عليه من عقوبات. إذن نستطيع القول هنا إن السبب الذي وضعه النص القرآني نتيجة للظرف الإجتماعي الذي كان سائداً في محتمع الرسالة الإسلامية، خاصة في ادوارها المكية الأولى، لم يعد موجوداً الآن، خاصة في المجتمعات ذات الأكثرية الإسلامية التي لا تحتاج المرأة فيها الى تمييزها، فالكل مسلمات. كما ويمكن وضع مهمة الحماية من الأذى اليوم، فيما اذا حصل لهذا السبب المرتبط بالخمار او الجلباب، فإن الدولة واجهزتها الأمنية هي التي ستطال المعتدين وتقتص منهم. فعدم وجود السبب اذن لا يبرر وجود ما ترتب عليه مسبقاً.
ارغب ان اختم هذا الحديث بما جاء في كتاب قيم المحتوى للشيخ الأزهري جمال البنا بعنوان ” الحجاب ” صادر عن دار الفكر الإسلامي، القاهرة 2002، عالج فيه موضوعة الحجاب معالجة علمية رصينة انصح بالإطلاع عليها، خاصة من قبل عبيد النصوص. يقول الشيخ البنا على الصفحة 9 من الكتاب اعلاه:
” النصوص ليست صماء كما لا يجوز للذين يعالجونها ان يخروا عليها صُماً وعمياناً ”
الدكتور صادق إطيمش
- تنمو على جذور بعض النباتات البقولية عقد غنية بالنتروجين الذي يعتبر من المقومات الغذائية المهمة للنباتات بصورة عامة. تستطيع هذه النباتات البقولية ان تحصل على كثير مما تحتاجه من غذاء وماء من جذور النباتات المجاورة لها، في حين تستطيع النباتات المجاورة ان تستفيد من النتروجين المتكون في العقد كمصدر غذائي لها. وهكذا تعيش هذه الباتات المتجاورة بالإستفادة من بعضها البعض