إستقليت المترو من حينا بضواحي المدينة متجهآ إلى مركز مدينة “روتردام” لمراجعة دائرة الضرائب وفق الموعد المحدد سلفآ، وكان موعدي معهم في تمام الساعة الواحدة ظهرآ، والموعد عند الهولنديين مقدس أكثر من الإنجيل والتوراة معآ وعندي أيضآ. ودائرة الضرائب ومبناها الضخم والحديث يقع على الجهة اليسرى لنهر “الماس” الشهير، عند نهاية جسر “إراسموس” المعروف والذي يعتبر رمز المدينة منذ بنائه، والذي يمر فوق نهر “الماس” ويربط جزئي المدينة الشمالي والجنوي ببعضهما البعض.
ونهر المالس يتدفق من جبال “بوليي- أون- باسينيي” الفرنسية ويتجه شمالا مرورا عبر وديان مرتفعات “أردينز”، وثم يعبر بلجيكا ويكمل مسيرته داخل أراضي هولندا، عابرآ مدينة روتردام ويقسمها إلى جزئين، ومن بعدها ينتهي في بحر الشمال الذي يفصل هولندا عن بريطانيا.
بعد الإنتهاء من تلك معاملة عدت من مديرية الضرائب مشيآ على الأقدام من فوق جسر “إراسموس” الجميل مستمعآ بجمال المناظر البديعة ومراقبآ لحركة سفن الشحن التي تعبر النهر بالإتجاهين، وحركة الدراجات الهوائية الكثيف فوق الجسر بالإتجاهين أيضآ، وتابعت سيري بهدوء نحو مركز المدينة، حيث دار البلدية وكافة الأسواق والمحلات الكبرى، ومحطة القطارات الرئيسية الحديثة، التي تربط المدينة بكل مدن أوروبا عبر قطاراتها، والتي أصبحت معلمآ سياحيآ من معالم المدينة التي تشد السائحيين إليها من زوار المدينة كل سنة.
خلال العشر الدقائق أو أكثر التي قطعت فيها الجسر، إستذكرت أصدقاء وصديقات كثر وذكريات أكثر وجميلة في رحاب منطقة الجسر ومقاهيها وباراتها المختلفة، ووقفت للحظات أنظر للأسفل أراقب حركة مياه النهر التي تتدفق من تحت الجسر متجهة نحو بحر الشمال، وتذكرت تلك الرحلات النهرية التي قمنا بها برفقة الأصحاب والأحباب، منطلقين من عند قاعدة الجسر من الجهة الغربية والتي طفنا من خلالها معظم أجزاء ميناء المدينة الأكثر شهرة في العالم، حتى نقطة تلاقي النهر مع بحر الشمال الذي يفصل هولندا عن بريطانيا، أيامٌ لن تعود كما لن يعود عُمر الصبا.
بينما كنت أنزل نزولآ من هذا الجسر المقوس، قلت في نفسي سأمكث لبعض الوقت في مركز المدينة، الذي لم أحط الرحال فيه منذ أشهر طويلة خلت، وسوف أقوم بجولة في المدينة، ثم أجلس في إحدى مقاهيها وأتناول قدحآ من النبيذ الأحمر، ممزوجآ بشيئآ من الكولا الباردة في ذاك الجو الصيف البديع، وخاصة أنا من عشاق الصيف ودفئ الشمس. وقبل العودة سأمر بالمكتبة المركزية لإلقاء نظرة على ما هو جديد من مطبوعات وكتب ومجلات.
وعندما هبطت من الجسر مضيت بإتجاه الإشارة الضوئية لأقطع الشارع العريض ذو الإتجاهين، حيث ممشى المشاة، وما أن إن إقتربت أضاء الضوء ووقفت مع الواقفين وإذا أحدٌ ينادي علي بإسمي نظرت إلى جهة الصوت وإذا بصديقي الهولندي “هانس” راكبآ دراجة الهوائية كعادة أكثرية الهولنديين وحاملآ حقيبة على ظهره كالعادة فيها ما هو ضروري وغير ضروري، وأنا ذلك ذلك أيضآ. كان هو الأخر أيضآ ينتظر الإشارة الضوئية بإتجاه مغاير كون المنطقة تقاطع أربعة شوارع رئيسية خاصة بالسيارات وممرات للدراجات الهوائية التي تشتهر بها كل المدن الهولندية وحتى قراها، إضافة لسكة الترام التي فوق الجسر وتذهب بإتجاه قلب المدينة وبالعكس وما أكثر خطوط الترام في المدينة.
بعد أن ناديني صديقني “هانس” توجهت إليه وصافحته وخرج بدراجة من الطريق ووقفنا على الرصيف كي لا نقف في طريق الأخرين ويصطدموا بنا. فسألني هانس عن أحوالي، وما إذا كنت أعمل في عملي السابق، وأعيش في نفس المكان، فأجبته بنعم وقلت الإمور على تقريبآ حالها، مع فارق إننا نتقدم في العمر.
ضحك كثيرآ وقال:
ماذا تفعل هنا وحدك؟
قلت: أنا كنت على موعدٍ مع دائرة الضرائب، وأنت تعلم الورطة مع ليست سهلة.
أجابني:
هذا صحيح، أفضل شيئ أن تقوم بكل ما يطالبونك به من سكات، فهم مزعجين.
سألته عن أحواله وعن العائلة ومن ضمن الأسئلة سألته ما الجديد؟
أجابي: رزقنا بطفل جديد.
قلت:
مبروك، المهم وهل رزقتم بطفلة أم صبي؟
رد قائلآ: رزقنا بطفلة.
قلت: جميل والمهم أن تكون هي والمدام بخير.
أجابني بنوع من الإبتسامة الغير بريئة:
المدام لا تعلم بذلك بعد، وإن علمت لا أدري ماذا ستفعل!!!!!!
قلت له هانس:
ماذا تقصد بالضبط، أوضح ذلك كي لا يذهب فكري بعيدآ.
أجابني وهو يضع يده على كتفي الأيسر قائلآ:
الطفل الجديد ليس من زوجتي وإنما من عشيقتي …
قلت: وماذا تتوقع؟؟
أجابني: الحقيقة لا أعلم …
قلت: ما رأيك أن نتاول فنجان قهوة أو قدحآ من النبيذ سويآ، إن كان لديك وقت.
أجاب قائلآ:
كان بودي أن نجلس سويآ، ولكن إم الطفلة تنتنظرني والله يستر، لكن وعد أن أتصل ونجلس معآ، كوننا من زمن لم نجلس سويآ.
قلت: وهو كذلك.
ثم جلس على دراجته وإنطلق قائلآ:
فرحت برؤيتك ونهارك سعيد وإنطلق صديقي هانس بدراجته الهوائية بإتجاه حي مشفي الجامعي ….
………………………………………………………………………………………………….
17 – 11 – 2022
نهاية القصة.