رواية بسفرين ضمن 489 صفحة من القطع المتوسط ، عن دار العالي ، لعام 2023
تاليف هاشم مطر
ربما نستطيع استجلاء مضمون الرواية بكامله من خلال عبارة انطون دي سانت إكزوبري، والتي وضعها الكاتب هاشم مطر كفاتحة لها “” الحياة تعني قدرتك على تحدي الموت “” ، حيث تدور احداث هذين السفرين اللذين عالجا اعقد واصعب واقسى مرحلة من مراحل تاريخ العراق الحديث حينما وضع الكاتب بقدرته الروائية وبلاغة اسلوبه وعمق محتوى نصوصه، ابطاله الذين تعاملوا مع الحياة بكل ما احاطتهم به من معوقات وعراقيل ومخاطر، بروح السعي نحو الحياة عبر الطرق المحفوفة بالموت ، في رحلات الموت. ولتحقيق اهداف سعي كهذا، لابد من قيادة هذا السعي بعقول تمتلك القابلية الفكرية والقناعة الصلبة بهذه الأهداف. وقد افلح المخرج البارع هاشم مطر بتوزيع ادوار ابطاله مع عدم إغفال الدور الذي يجب ان يتبلور من خلال هذه المسيرة التي ظلت مجهولة المصير في كثير من مفاصلها، حيث بلور هذا الدور بشخصية مريم.
لقد برزت مريم لتعكس دوراً نضالياً تجسمت وتعددت فيه مجالات الموت التي رافقتها واصحابها وهم يسعون للتفتيش عن حياة هانئة ، حتى وإن كانت مرتبطة بالإجبار على التخلي عما يسمى (الوطن الأم)، وكل ما ينشأ عنه من شعور ” المواطنة اللعين “. وبالرغم من القلق النفسي والشرود الذهني التي كانت تعيشه مريم احياناً، إلا انها بدت امام رفاقها في رحلة الموت بين الجبال الصعبة الممرات والوديان السحيقة التي تبتلع كل من لم يحسن وضع قدميه على حافة من حافات الجبال الحادة، وكانها تردد المقولة ” الحياة تعني قدرتك على تحدي الموت “.
رحلة الموت على الجبال التي عاشتها مريم بكل مفردات الخوف التي رافقتها عكست ، وبكل تفاصيلها ، براعة هاشم مطر وقدرته على ان يعيش القارئ هذه الرحلة وما تخللها من زفرات الموت التي غصت بها حناجر مَن عاشوا رحلات موت مماثلة، دأبت شركة سياحة ونقليات ” صاحب البلاد ” على التخطيط لها وتنفيذها.
فرحلة قطار الموت التي اعدت لها هذه الشركة قاطرات حديدية مجهزة باحدث انواع القير الذي يغطي جدرانها الحديدية لكي تحتفط بحرارة شمس تموز التي يجلس تحتها ركاب السجن الذين اراد لهم ” صاحب البلاد ” التخلص من عناء التكرار اليومي لحياة السجن، والتمتع بسفرة سياحية نحو صحراء يعمها هدوء المقابر التي أُعدت للمسافرين، تمت حتى مرحلة ما قبل بلوغ هدف الرحلة في قلب الصحراء، وكادت ان تعطي ثمارها بجثث موت الإختناق، لولا العجالة التي داعبت فكرة سائق القطار الذي ترك العنان لقطاره ليسير وفق مبدأ العجلة من الشيطان ، الذي لم يصغِ لما هو متعارف عليه بان التأني من الرحمن، إذ انه لو كان قد كبح جماح قطاره الشيطاني لحقق موت التأني الرحماني للمشاركين في هذه الرحلة السياحية لحمولة القطار القابلة للكسر في حالة سير القطار بسرعة حتى وإن كانت خفيفة، كما أُعلِن عن ماهية هذه الرحلة، والتاكيد عليها على مسامع سائق القطار لكي يجتنب السرعة.
او رحلة الموت الأخرى التي اعلن عنها فرع شركة سياحة ” صاحب البلاد ” من جنوب البلاد هذه المرة ، والتي وضع وجهتها نفس تلك الصحراء السياحية، وجهز لها باصات خشبية كانت تسمى آنذاك ” دك النجف ” ، وكأن هاشم مطر كان يعيش ذلك الموقف الذي قال عنه ” فكانت قطعان من البشر يحشرون في شاحنات ضخمة ، تدافعت الى جوفها ، تحت وابل من السباب والتهديد بالعصي “. وفي هذه الرحلة ايضاً تدخلت السرعة الشيطانية لأنقاذ الشاحنات التي أُريد لها ان تظل الطريق في الصحراء ليستأنس السواح بزفرات موت بطيئة تحت اشعة شمس تموز الحارقة .
ورحلات كثيرة اخرى عاشها ابطال ” رائحة الوقت ” ،القصيرة منها والطويلة الفردية والجماعية، سواءً داخل ” الوطن الأم ” عبر الإختفاء القسري او الإعتقال الذي اصبح يحاكي الإختطاف الذي لا امل بعودة صاحبه، او (حفلات الإغتصاب) التي يسعون من وراءها استعادة رجولتهم التي مسخها تقبيل التراب تحت احذية سادتهم. او خارج الوطن من خلال الهجرة الذاتية او التهجير الإجباري. احداث دامية ووقائع اليمة افرزت لدى ابطال هذه الرواية معايشات لعلاقات اجتماعية وسلوك انعكست فيه تربية اقل ما يقال عنها بانها تنم عن المستوى الأخلاقي الضحل الذي امتاز به حماة ” صاحب البلاد ” حينما يبرزون عضلات السنتهم بالخطاب الذي تعلموه في مدارس (تربيتهم الوطنية) حينما يتعلق الأمر بما يسمونه التحقيق مع المشتَبَه باخلاصهم لمبادئ الحزب والثورة. وما عاناه سمر وسميرة في ذلك الذي يسمونه ” قسم الاخلاق العامة ” لا يختلف عما لاقاه عشرات الآلاف في مثل اقبية الإجرام هذه. فحينما اراد سامر توضيح موقفه وعلاقته بحبيبته سمر ….
” ـ سيدي في الأمر سوء فهم. نحن جامع…….
ـ اسكت كلب نحن نعرف ان الجامعات اصبحت مبغى ودعارة مكشوفة، فاجأه الضابط المحقق، والتفت الى مساعده، حققوا معه لابد انه شيوعي. هؤلاء من خرب اخلاق المجتمع. وأكمل..
ـ وانتِ يا قحبة سنبعث الى والدك وإخوتك، هذا ان كان لك اهل!”
المواقف التي سجلتها ” رائحة الوقت ” كنماذج لحقبة تاريخية سوداء، تكاد تكون متشابهة في مسارها الذي يبدأ بتقيؤ المحقق بما بجوفه من قذارة يرمي بها ضحيته، لينتهي بامر من الضابط الأعلى:
“ـ أكتبوا على تابوته خائن وارسلوه الى اهله . أعلِموا الأجهزة الأمنية ان يتولوا بقية الإجراءات مع ذويه واقاربه قلابد ان يكونوا خونة مثله .” فأمر ملاحقة الأقارب حتى الدرجة السابعة لم يكن غير مألوف لدى حماة البوابة الشرقية الذين لم يستطيعوا حماية حتى من يدافعون عن جنونهم وينخرطون وراء اكاذيبهم .
ليست رحلات الموت الجماعية، او وقائع اقبية التعذيب ، او بذاءات المحققين ، او مسخ المواطنة كمدخل للتهجير القسري وتفريق افراد العائلة الواحدة تحت اصوات ضربات العصي والسياط وصراخ المتعلقين باثواب امهاتهم وآباءهم ، ولا حتى التوابيت التي تنقل مَن وسَموا جباههم ببعض الطلقات النارية التي طالبوا باستحصال ثمنها من عوائل المغدورين، ليس كل هذا وغيره من الجرائم فقط ما يُوصل الإنسان الى قمة الحقد على نظام سياسي يمارس كل هذه الجرائم، بل تلك المعايشات الشخصية التي استطاع هاشم مطر ان يصورها لقراءه من خلال معاناة الأستاذ الجامعي امير. ” فأمير الى جانب كونه مفكراً اكاديمياً واستاذاً ناجحاً، هو ايضاً سياسي بارع، لماح وذكي، وشجاع. فما اكثر المزالق التي كاد بعض تلامذته الخائبين يجرونه اليها، لكنه بحنكته ودرايته استطاع في كل مرة الإفلات من الفخ ”
وياليت الامر يقتصر على مزالق الطلبة الخائبين واستهانتهم باساتذتهم فحسب، بل ان عملية التعليم الجامعي برمتها اصبحت خاضعة لمن لم يستطع تهجئة اسمه او الإستغناء عن طبعة الإبهام على قائمة راتبه. لقد اصبح استمرار المحاضرة العلمية رهين بمزاج الفراش الذي يتربع على قمة احدى المنظمات الحزبية، لينقل هذا التربع الى محل عمله حيث يقرر سيادته ما يراه في مسيرة العملية التعليمية الجامعية، نعم الجامعية وليست الأدنى، سواءً تعلق ذلك بالإنهاء القسري للمحاضرة العلمية بسبب مشاركة الطلبة بمسيرة ما او إحتفال ما، او بتأجيل امتحان لا يتفق موعده مع موعد مهمة حزبية لرئيس التنظيم الطلابي، او عدم احتساب غيابات هذا الطالب او تلك الطالبة وما يترتب على ذلك من الإستمرار بالدراسة او عدمه، اوحتى التلاعب بالدرجات الإمتحانية لهذا او تلك. فلا عجب اذاً اذا ما راينا خلو الجامعات من الكوادر العلمية التي اتخذت من طريق الهجرة الذاتية ولإجبارية ، بكل مردودها، سبيلاً لها لإنقاذ شرفها المهني والفكري من هذه المزالق المهينة.
لم تمر المشاكل والمآسي التي حلت باغلب اهل البلد الذين لم يهادنوا او لم يذعنوا لهذيان القائد الضرورة وكل عنجهياته التي لم تثمر سوى الحروب والدمار والإنهيارات المتواصلة، لم تثمر عن السلم الإجتماعي وبالتالي فإنها افرزت التناقضات التي خلفتها السياسة الحمقاء للنظام. وحينما تطرقت الرواية الى بعض ممن عاشوا هذه الأجواء بكل تعقيداتها،برزت شخصيتان قد تعكسان بعض ما كان يفكر به البعض الذي لم يترك مجالاً لكثير من الإختيارات التي تراوحت بين المضي بصلابة وشجاعة مريم، او الإتكال على ما تفرزه الأحداث وإن تقود الى الفشل احياناً، كما تمثلت بالصحفية سمية عزام التي عاشت الاحداث بقلق وتردد. لقد فشلت سمية عزام في مهمتها التي بلورتها عبر برامج لم تعد تجلب ما يكفي من الإستمرار بمشاهدتها، ” حتى ضيوفها المهمون صاروا يعتذرون عن المشاركة. وتحت تأثير وطأة التأنيب والمتغيرات الملحوظة لوضعها وبرنامجها الذي بدأت تظهر عليه علامات الإعاقة، وبات سجناً لمهمتها وحريتها، بدأت ذاتها تنقسم ، ودخلت حقل عدم الرضا “.
إنقسام الذات اصبح ، مع الأسف الشديد ، العلامة الفارقة لمجتمعنا اليوم الذي لم يتخلص من ادران ” صاحب البلاد ” وجنونه، والذي تفاقم بشكل همجي حتى بعد ان اختفى الجرذ في جحرالإهانة، حيث استمر خلفاؤه على عرش إمارة الجن والطائفية والقومية الشوفينية على سلوك هذا النهج الذي مهد لعصابات على بابا واذنابها الوصول الى خزائنه، بعد ان اكتشف لهم سائقو الدبابات التي اوصلتهم الى هذه الخزائن كلمة السر التي فتحت لهم ابواب قلاع اللصوصية. وقد برزت هذه الظاهرة باشكال متعددة يعيشها المجتمع العراقي اليوم. ترى وتسمع على الشارع العراقي ااشد انواع السباب والشتيمة على الاحزاب الإسلامية الحاكمة وقادتها ومريديها،وعلى كل من يسير في رهطها من الأحزاب القومية الشوفينية العربية والكردية. يضعهم ابسط المواطنين على اسفل درجات التدني الأخلاقي والخيانة الوطنية وعلى قمة اللصوصية والنفاق الديني والوطني، إلا ان هذه الصورة تتغير حينما يزور احد هؤلاء اللصوص مدينة ما حيث تُقام له الولائم وحفلات الإستقبال، لمجرد انه ” تكرم ” من الأموال التي سرقها من هؤلاء المرحبين به، ببعض ما يسميه ” الهدايا ” او الأموال النقدية التي طالما يحظى بها بعض افراد العشائر ممن يسمون بالمهوال الذين تأثروا بالوضع المأساوي الذي تمر به كثير من عشائر العراق اليوم حينما جعلها تجار الدين وكيلة على امور الناس في المسائل القضائية على وجه الخصوص، مما ادى الى تبني ما يزعمون بان دينهم قد قضى عليه حينما رفض العصبية القبلية وما تخلفه من امراض اجتماعية اصبحت، مع الاسف الشديد منتشرة في عراق اليوم.
لقد افلح هاشم مطر حقاً حينما جعل هذه المأساة الإجتماعية تتكرر في تصرفات بعض ابطاله، ولم تقتصر على المثال الذي تجلى في شخصية سمية عزام. فها هي شخصية علي صديق مريم، فقد كان ” يحاول فك إزدواجية شخصيته والتباساتها …….. تصوره عن التغيير وثورة الأفكار العصرية والتناقض العنيف بين القديم والجديد، كونهم يعيشون الجديد بافكارهم، والقديم يحيط بهم كأخطبوط “.
كثيراً ما مَأمَأ ” صاحب البلاد ” والقطيع الذي يسير خلفه بشرف الماجدات العراقيات، وكيف ان مبادئ هذا القطيع وخروفه الأكبر لا تسمح لهم بأن يمس السوء اظفر واحدة من هؤلاء الماجدات. إلا ان نفس هذه المأمأة الفارغة تخرس حينما يتعلق الامر ليس بمس، بل وانتهاك شرف الماجدات من قِبل بعض الخراف الأصغر في هذا القطيع اذا ما سنحت لهم بذلك فرصة المنصب وضعف الضحية. وما عانته سمية من وكيل الوزير الذي انقض عليها واعداً اياها ” بمستقبل زاهر ” لقاء إغتصابها، إلا مثلاً اخلاقياً ساقطاً لذلك.
حالات الإغتصاب لم تكن نادرة تحت الأجواء التي كان نظام مجرمي الوحدة والحرية والإشتراكية يمارسونها من خلال مواقعهم المباشرة لدى دولتهم، او من خلال سماسرة الجنس الذين سخَّروا حتى دينهم لتنفيذ حيوانية اسيادهم. فهذا هو ” الواعظ الذي غرر بعشرات الصبايا وهو يرسلهن الى احضان مسنين شبقين ” . حتى اللواط كان يشكل سمة من سمات خراف القطيع. وهذا هو ” حامد يقترب من الجدار السميك الذي غلف سر إغتصابه صبياً قبل سنين كثيرة “. ناهيك عن حالات التعذيب الهمجي الذي تعرض لها المعتقلون من النساء والرجال والتي لم ينس الجلادون فيها احط طرق الإنحطاط الأخلاقي التي مارسوها تجاه المعتقَلات والمعتقَلين .
الأحداث والمآسي والنكبات التي عاشها ابطال ” رائحة الوقت ” لا يمكن لمقال او تعليق استيعابها بكل ما جرَّته على اصحابها من انعطافات وتعرجات في مسيرة حياتهم داخل وخارج الوطن. وحينما تكتمل لدى القارئ لهذه الرواية المتميزة بكل شيئ،، صورة الأحداث باطارها الذي يشد احجية الصورة الى بعضها البعض، يعي ماهية هذا النص وقدرة خالقه على بعثه بهذه الروح التي تحاكي انفاسها الغالبية العظمى من اهل وطننا المستباح امس ، والذي لم يتوان القادمون بالدبابة الأمريكية اليوم من الإستمرار باستباحته، كما لم يتوانوا حينما جاءوا بالأمس بذلك بالقطارالذي يحمل الماركة المسجلة لنفس بلد المنشأ، ويعي الميزة الأدبية للمفردات التي تعطي ما اراده لها مَن اختارها لتكون بهذا الموقع او ذاك، جاعلاً في كل منها زاوية مناسبة ترتبط من خلالها بما قبلها او بعدها من مفردات الصورة بكاملها دون اي ارتباك او خلل في ربط الأحداث مع بعضها البعض. كما يعي ايضاً غزارة النص الذي يمكن ان يقال عنه بانه يسجل قاموساً مفصلاً مع شروحاته لكثير من الأحداث والوقائع التي عاشها اهلنا.
فلم يفت هاشم مطر، وهو المولع بعشق الأرض ببساتينها وجداولها وتبني نخيلها لأشجار برتقالها واغاني طيورها الآهلة والمهاجرة، لم يغب عن باله ان يسجل، ولو بعبرات انين متقطعة إنعكست على هيئة بقايا روائح لوقت عصيب، ما سمعه من صدى صوت هذه الارض وهي في حيرة من امرها وما تعالجه من مآسي لم تكن جرائم غسل العار او الإنتحار اولها، ولم تنته بالمعتقلات واقبية الموت والملاحقات والإختطاف والتجسس، وحتى القتال في صفوف العدو ضد الأهل على الجانب الآخر من الجبهة. فقد ظل يلح على هاشم مطر، الذي لم ولن يرد للوطن طلباً منه، ان يضع ذلك ضمن النهج الذي يميز بين امَن أُجبروا على الإنخراط في صفوف قتلة اهلهم، وبين من تبنوا هذا الإنخراط عقائدياً، وهم على قمة الحكم السياسي في وطننا اليوم، والذين يسعون لقتل مَن لم يستطيعوا قتله بألامس حينما وضعوا مفاتيح الحرس الثوري الإيراني على صدورهم قاصدين جنة الخميني، ان يقتلوه اليوم بكل الوسائل الحديثة الإسلامية منها والكافرة.