في وقفة متأنية لمجريات الاحداث التي تتالت بعيد نهاية الحرب الكونية الاولى ، خاصة منها ما تعلق بالتوافق الاوربي وما تم بين دولتي فرنسا وانكلترة تحديدا، والتي وصلت إلى درجة تجاوزت فيها مرحلة مناقشة فكرة قرار تفكيك الدولة العثمانية وتقسيمها الى المخرجات التي تعددت وتتالت وبالتالي أسست لمخارج وبنى تنفيذية ، وقد تم كل هذا وسط متناقضتين : اولهما السرية المطلقة والمغلفة ايضا بترتيبات ما بعد جولات تفاوضية ، ومن جديد بكتمان شديد ، الأمر الذي سهل في اتخاذ جملة من القرارات ، واعتمدت تفاهماتها النهائية كحزم شكلت بنودا في معاهدات ومواثيق بينية ، وباختصار شديد فإن المورثات من صيغ وتفاهمات هي نتاج كم من الصراعات بين دول عدة تنشطت كلها حتى قبيل ازمة القرم ، والتي لازالت مشتعلة بالحرب الضروس بين روسيا بوتين واوكرانيا ، وهنا وفي تتبع لمجريات كثير من الأزمات العالمية وتعقداتها ، خاصة منها التي باتت بالفعل مزمنة ، وأنتجت كما هائلا من الحروب ما ابتدأت كما اسلفنا بحرب القرم وانعكاساتها التي تسببت في إشعال حروب متعددة داخل القارة الاوروبية ، ولم تخلط مسبباتها وكعامل أهم فيها هو تضارب المصالح من جهة وعبء تركة الإمبراطورية العثمانية ، والتي برهنت الأيام ما حملته من وبال وتركة ثقيلة من جهة ، وتداخل كما تشابك المصالح ومطامع الدول المنخرطة في لجة الصراع من جهة ثانية ، هذه العقد التي تراكمت وانتجت كما كبيرا من الدوامات اصبحت القاعدة الرئيس لأزمات عالمية تحولت فيما بعد الى صراعات مزمنة ، أنيط بمسؤولية ادارتها ، ولربما وبتعبير أدق : انخرط فيها رجال محنكون يدركون المطلوب منهم ، ولتدخل كل الاوراق والملفات إلى الدوائر والغرف المظلمة ، وعلى الرغم من نمطية هؤلاء المكلفين وكئلك الحرص الشديد ، فقد كان كل واحد من المسؤولين الذين أداروا تلك الملفات محوطا بشخوص عملوا بجدية تامة وتوصلوا الى استخلاصات مهدت لبروز عدد من المشاريع وكوجهات نظر لإعداد او التوافق على مخططات مرشحة لتقرير الانسب منها ، والتي عدت كجينات أولية أسست مع اللحظات الأولى في اتخاذ قرارات انهاء الإمبراطورية العثمانية وتفكيكها ، وبالترافق مع هذه التصورات / المخططات التي اعتادت الدول المنخرطة فيها ان تتخذها داخل غرف مغلقة ومظلمة ، وأن تدار محاورها بخبرة رجالات متمرسين وذي حنكة مكتسبة بهيبة كانعكاس لما تمثلها دولهم ، وتفاعلات كما ثقلهم وما يمثلونها عمليا من ادوار ودرجة في التاثير على اتخاذ القرارات ، كاستخلاص لكم هائل من الوثائق والمقترحات والتي يفترض بها الفلترة لتتوائم مع مصالح الدول المنخرطة بعد مخاض طويل من النقاشات . ولكن مع تهيؤ الظروف الدولية ، وبدء التوجه العملي لدول اوروبية محددة ، تماما كما كان قد رتب لذلك – حينها – من مقترحات لمعالجة صراعات وجودية امتدت حينها كافرازات من سيرورة البشرية بصراعاتها المتنوعة والمتشابكة ، ومعها تداخلات الجغرافية التي لا تزال البشرية تعبث بها فتقصقص فيها او تضيف ومعها تعدد الصراعات التي تمتد وتتوسع وتتقلص لتخبو من جديد ، وكل ذلك هو نتاج عملي لمسبب بسيط يمكن اختزاله : ان كل الخرائط التي وضعتها / رسمتها مسز بيل لم تكن الا تهيئة لتصدعات وفوالق تكتونية اوجدت خطا زلزاليا مستداما ، وايضا براكينا متقدة تساير تكتونيا خط الزلازل المنتجة والتي وببراكينها لاتزال بعضها نشطة وأخرى خامدة لا وفق القانون الطبيعي بقدر ما ان العامل البشري لعب دورا في ذلك ، كما وهو يملك مفتاح تنشيطها في أية لحظة . وسأختصر هنا لأعود إلى سلسلة الإجراءات التي تتبعتها الدول الكبرى وكمخرجات للقاءاتها وحواراتها ، والأمر الأهم هنا الذي لابد لنا من الوقوف عندها لفهم الأمور على حقيقتها : هي تلك الإستخلاصات التي عدت الأرضية المؤسسة والتي تمت نشرها فيما بعد بنشرة سرية كتبت باللغة العربية عدد 5 تاريخ ١٨ حزيران عام ١٩١٦ ، هذه النشرة هي في الأساس كانت سرية يطلع عليها القادة العسكريون والسياسيون البريطانيون ، وباختصار هنا وفي العودة الى مراسلات الشريف حسين ومكماهون وتقييمها ، خاصة في الصيغة التمهيدية التي جاء فيها ( ان حكومة جلالته ابدت استعدادا لتشجيع الإستقلال في اسيا الناطقة باللغة العربية وذلك من دون الزام نفسها في صيغ اشكال النظم التي ستتأسس في المنطقة ولا بحدودهاالدقيقة ) ١ . وفي العودة ثانية الى مراسلات حسين مكماهون ، الذي أكد فيها الشريف حسين على أنه لن يقبل بالصيغة التي طرحها مكماهون والمتضمنة ( حلب – حماة – حمص – دمشق ) وتشبثه بولايتي حلب وبيروت . .. واعتبر ( .. ان اي تنازل يهدف الى منح فرنسة او اية دولة أخر.ى ملكية قدم مربع واحد من الارض في تلك الاجزاء هو أمر مرفوض .. ) .. ٢ …. وقد أشار الحسين في حديث له بعد عدة سنوات مع ديفيد هوغاريت العميل في مكتب القاهرة العربي للمخابرات البريطانية أنه لا يرى بان الأمور قد حلت ، خاصة في ( .. فلسطين ولبنان ايضا لابل وببقية الأراضي في الشرق الأوسط ، بل يرى أن كل الأمور قابلة للتفاوض في مؤتمر الصلح .. وكل هذا وفقا مما نقله هوغارت .. ) ٣ … ولكن رغم كل الضوابط بقي مكماهون قلقا وهو يخشى ان تحدث اضطرابات وطنية ، وقد عبر عن مخاوفه هذه ل وفيدهام دبدز ، بأن مخاوفه ليست ناتجة عن احتمال فشل خطة قيام ثورة عربية شاملة ، بقدر ماهو ناشيء عن احتمال نجاحها ، لأنها ستشكل خطرا على بريطانية .. ) ٤ . وهنا وفي العودة الى شخصية بيكو بالذات والذي ظهر في مطلع سنة ١٩١٥ ويرعان ما اخذت براعته تبرز ، وبعد فترة زمنية بسيطة عد من قبل كثيرين كمصدر الهام وبشكل خاص حينما قاد حملة برلمانية في باريس ضد مؤيدي سياسة التساهل مع البريطانيين وتمهيد كما تسهيل الطريق لهم في الشرق الاوسط ، ومع تطور الأمور بنيويا بخصوص سوريا داخل فرنسا ذاتها ، حيث ظهر هناك دعاة لسورية فرنسية ، ومجموعات أيضا دعت للسيطرة على ( لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب ) ٥ . وكان بيير – ايتان فلاندان هو زعيم – حركة سورية فرنسية -‘في مجلس الشيوخ الفرنسي قد اعد تقريرا أصبح بمثابة بيان عمل للمجموعة التي تسمت بالحزب السوري في السياسة الفرنسية .. حيث سعت لترسيخ مبدأ يمكن تلخيصه على أن سورية وفلسطين تشكلان دولة واحدة وقد تأطرت في خارطتها الجديدة بفضل فرنسة ، ووسط كل هذا المخاض ، كان بيكو قد استعد لها ، وجهز مسودة حوت نقاطه التفاوضية ، موضحا فيها الخطوط العامة ، وإن كان قد ركز وكهدف استراتيجي على السبل التي ستؤدي به للحصول على تنازلات اكثر من بريطانية ، بالرغم من وجود مؤشرات موسومة كانت تشير بأنه كان من انصار الحفاظ على الإمبراطورية العثمانية ، بالرغم من ان إمكانية هذا الأمر كان قد بات مستحيلا ، وأن التقسيم بات هو من اكثر الخيارات ترجيحا ، وعليه فقد تبنى توجها يمكن اختزاله بأنه من المستحسن ان تستعمر فرنسة كل من سورية وفلسطين ، وإن أدت هذه الخطوة الى تفكك الأمبراطورية العثمانية . ٦ ومع تتالي الأحداث لاحقا وانكشاف الأمور بشكل اوسع ، أصبح الامر الأهم في اولويات بيكو وحكومته هو التوجه لفرض الحكم الفرنسي المباشر على ساحل المتوسط ، وإن ابدى الرغبة ايضا في المقابل بالنسبة لسورية ، ولكن ان تدار بشكل غير مباشر ، وذلك عبر حكام عرب ينفذون ما تطلبه فرنسة منهم ، وفي المحصلة فقد حصل كل من سايكس وبيكو على ما سعووا إليها بينيا ، وكان لفرنسا حكم لبنان اكبر إضافة الى نفوذ حصري اشمل في سورية ، وكخلاصة فقد نجح سايكس في المنح وبيكو في الحصول على منطقة نفوذ فرنسية امتدت الى الموصل ، أما ولايتا البصرة وبغداد في بلاد الرافدين فقد اصبحتا من نصيب بريطانية ، وفي فلسطين فقد خصت عكا وحيفا لبريطانيا ٧ . وقد ظن مارك سايكس أنه قد كسب ماطلبه الحسين والضابط العربي العراقي ( الفاروقي ) ، وهنا سيستذكر التاريخ ما كان سايكس يصف به العرب ( انهم قوم يريدون الإعتراف بوحدتهم الجوهرية ، ولكن فقط كمثل أعلى ! أما عمليا فإن هذه الوحدة لن تنسجم مع سجيتهم القومية ، ولن تكون قابلة للتطبيق .. وقال في واحدة من جلسات مجلس الوزراء الحربي ( إن العرب ليست لدبهم الروح القومية بالمعنى الحقيقي المتعارف عليه ، ولكن لدبهم شعور بالكبرياء العرقي ، وهو لايقل جودة عن الروح القومية .. واردف قائلا ( انهم سيكتفون بإتحاد كونفدرالي لدول عربية وبرعاية امير عربي ) .. ولتثبت الأيام بأن سايكس قد عجز بالفعل في فهم أن الحسين ومعه الجمعيات السرية العربية كان هدفهم في الأساس هو دولة عربية موحدة ، دولة تتمتع بإستقلال تام وليست محمية بريطانية ) ٨ . في هذه المعمعة التي خاضها سايكس اثبتت الايام بانه كان بريئا الى درجة السذاجة ، وان الناس يقصدون ما يقولون ، ومنهم كلايتون الذي قال له بشكل مباشر وعن طريق اوبري هربرت بأنه من المهم جدا ان يكون هناك وعد في ان تصبح دمشق وحلب وحمص وحماة مؤطرة ضمن اتحاد كونفدرالي عربي مستقل يرأسه الشريف حسين ، ولهذا السبب طالب سايكس زميله بيكو بالموافقة على ذلك ، وقد نال موافقة بيكو دون ان يدرك بان بيكو بالاساس كان يريد ان يهبها له . ، وهنا وفي العودة الى اتفاقية سايكس بيكو التي قضت بان تستثنى المدن الأربعة من الحكم الفرنسي المباشر وان تتشكل منها دولة عربية مستقلة خاضعة لنفوذ فرنسا الحصري ، ، واعتقد سايكس بانه انجز المطلوب منه في صياغة الإلتزامات إن لفرنسا والعرب وحقق بعض من التوافقات وكذلك التنازلات التي طلبها اصدقاؤه العرب في القاهرة ٩ . وفي العودة هنا الى كلايتون ورفاقه الذين كانوا ينظرون للوجود الفرنسي وكانه ضم ، بينما الوجود البريطاني بالإستقلال ، وهذه في واقع الحال كانت وان لم يصارحوا سايكس على انها خيانة للوعد بان تمنح اتحاد كونفدرالي عربي المقترح مع الإستقلال ، رغم طموح كتشنير واتباعه أن يحكموا سورية بانفسهم ، واعتقدوا حينها بان سايكس قد خذلهم وإن لم يفصحوا عنها بذات الصيغة ( … وكأن العرب ليسوا هم من رغبوا ان تتولى بريطانية حكم سوريا ) وعليه بنى كلايتون ويستورز رأيه القائل بان سايكس في طروحاته هو من اغلق الباب امام اية مساع لإنشاء إمبراطورية مصرية جديدة ، وحيث ان فرنسة قد اكدت مطالبتها بولايتي بلاد الرافدين المجاورتين ، بات في حكم المؤكد ان تخضع ولايتا بغداد والبصرة وكحصة رئيسة لبريطانية حسب مخرجات سايكس بيكو وان تخص بها حكومة الهند ، يقابلها التنازل لفرنسا عن سورية والمرشحة كانت في البداية ان تقع في نطاق نفوذ القاهرة ، حيث توضحت كيف ( .. ان الإتفاقية اتاحت للقاهرة ومعها الخرطوم التوسع في شبه الجزيرة العربية ) ١٠
…..
هوامش :
١ – سلام مابعده سلام صفحة ٢٠٦
٢ – ذات المصدر صفحة ٢٠٨
٣ – المصدر نفسه صفحة ٢١٣ – ٢١٤
٤ – ذات المصدر صفحة ٢١٤
٥ – المصدر ذاته صفحة ٢١٥
٦ – ذات المصدر صفحة ٢١٦
٧ – صفحة ٢١٦ المصدر ذاته
٨ – صفحة ٢١٦ و ٢١٧ من ذات المصدر
٩ – صفحة ٢١٧ ذات المصدر
١٠ – صفحة ٢١٨ من ذات المصدر