السلاح المنفلت والأخلاق المنفلتة والقوانين المنفلتة والأفكار المنفلتة وحتى العواطف المنفلتة سمة العراق الديمقراطي الجديد ، نقول ذلك بكل ألم وحسرة ، يتوهم البعض بأن السيطرة على السلاح المنفلت سيوفر الأمان والرفاهية للناس ، فيما تترك الأخلاق المنفلتة والفساد والسياسات المنفلتة والقوانين المنفلتة تترك سائبة لإنها عديمة التأثير على حياة الناس ومعاناتهم حسب إعتقاد الغالبية من الناس ، هذا هو الوهم بعينه . الأخلاق المنفلتة والقوانين المنفلتة أشد خطورة على حياة المواطن من السلاح المنفلت ، فلنعلم جميعاً بان السلاح المنفلت هو نتيجة ثانوية للأفكار والسياسات المنفلتة . نحن نعيش اليوم حياتنا كل شيء فيها منفلت ، أما انتشار السلاح والأقتتال العشائري الذي أصبح سيناريو يومي ، وانتشار المخدرات حتى على مستوى النساء والفساد الإداري وانتشار العصابات المنظمة فكلها نتاجات ثانوية ، للأسف الشديد يذهب البعض من الكتاب والإعلاميين الى النتائج الفرعية ويهولون من حجمها وخطورتها في الوقت الذي يتماسكون صمتاً عن الأسباب الحقيقية . الأسباب الحقيقية مصدرها العقول والأفكار المنفلتة ، العقول والأفكار المنفلتة تخلق الفتن والكراهية التي بدورها تخلق الأخلاق المنفلتة ، وما الأخلاق المنفلتة إلا طريق للسلاح المنفلت وطريق لإنتشار المخدرات والعصابات والفساد وضعف القانون ، فأي علاج للنتائج تؤدي إلى تقوية المسببات الحقيقية وحفظها ، فالذي يقتل المجتمع ليس الطفح الخارجي بل العلة الداخلية التي تستمر في تآكل المجتمع كالسرطان .
ماذا نقصد بمفهوم الإنفلات بشكل عام ؟ وماذا نقصد بالفكر المنفلت بشكل خاص؟ الإنفلات الأمني بالمفهوم القانوني بمعنى الفوضى وعدم سيطرة الدولة على الوضع وعدم القدرة على توفير الأمان للناس أي أن الدولة فاشلة ، بمعنى عدم وجود الدولة بالحقيقة ، بمعنى السيادة والساحة للأقوى ، وهذا يعني أن المواطن العادي يجب ان يعيش الخوف والقلق وانعدام الأمان . الإنفلات القانوني يعني الفساد ، يعني رجل القانون هو أخطر على حياة المواطن من رجل العصابة لأنه يتلاعب بالقانون كيفما يشاء ، والأقوياء هم القانون . الإنفلات الأخلاقي يعني تحول الناس إلى دواب بشرية ، فلو أجتمعت أنواع الانفلاتات الثلاثة في مجتمع ما فهذا دليل بأن الفكر الذي يقود الحياة في ذلك المجتمع فكر مسموم وملوث للعقول وفكر يحرض الناس على جعل حياتهم منفلتة ، نعم هذه حقيقة الواقع ( أفكار منفلتة ممزقة للمجتمع ). قد يذهب بعض العقلاء أو المحللين إلى تفسير ظاهرة الانفلاتات بأنها سوء إدارة أو فساد أداري ، وهذا بالتأكيد تفسير خاطىء لأنه بالنهاية لابد من وجود فكر هو الأكثر تأثيراً على عقول رجالات الدولة وعلى الناس وهذا الفكر هو المسؤول الأول عن جميع الإنحرافات التي تصيب الدولة والناس ، أي مسؤول يتم تبديله لا يغير من الحال شيء ، المعالجات قد تعطي نجاح بسيط لكنها تهدئة مؤقتة سرعان ما تعود الأحوال إلى سابق عهدها ، وللتذكرة فأن علاج الفكر المحرض للانفلات هو أصعب العلاجات خاصة إذا كان هذا الفكر يستند الى أيدلوجية ذات نصوص ثابتة مرتبطة بالدين وأن واحدة من ميزات هذه الأيدلوجية هو ضرورة وجود صراعات وخلق الأعداء واستمرارية القتل ، فوجود الأعداء يحفز على تعميق وترسيخ الأيدلوجية ووجود القتل يساعد على تعبئة الناس وتلاحمهم المتطرف مع المبادىء التي صنعتها أيدولوجيتهم . لهذا السبب دائماً نكرر القول يجب اللجوء إلى التفكير العلمي الواقعي الذي يقتل التطرف والعصبية بكل اشكالها ، الدولة لا تقاد بالأيدولوجيات ، الدولة تقاد بالعمل العلمي والتخطيط العلمي ، ، التخطيط بالإستفادة من تجارب المجتمعات المتقدمة ذات التجربة الواسعة . عندما نقول بأن الايدلوجية لا تصلح لقيادة الدولة ، هنا أقصد مجتمعنا تحديداً ، لأن مجتمعنا ذي أيدولوجيات متعددة وذي ديانات وطوائف متعددة ، وذي قوميات متعددة ، وذي ثقافات متعددة ، فمن المستحيل جعل ايدلوجية واحدة تتسيد على جميع هذه التنوعات ، هذا وهم واعتقاد خاطىء . يجب مواكبة تجارب الشعوب التي عاشت الفوضى التي نعيشها حالياً ثم استطاعت ايجاد الحلول ، ومن الخطأ الاعتقاد بأن الحالة التي نعيشها لا يوجد لها مثيل عند المجتمعات الأخرى ، فهناك بعض المجتمعات عاشت أسوأ الاحوال بمقدار مائة ضعف مما نعيشه الآن ولكن بفضل عقلاءها ومفكريها تمكنت من إعادة نفسها إلى سكة الحياة الصحيحة ، المسألة لا تتقبل حلول ترقيعية ولا تحتاج إلى معجزة من السماء بل تحتاج إلى تفكير علمي وإرادة وطنية خالصة وترك العواطف جانباً ، حياة الناس ليست مختبراً للتجارب ، التغيير مطلوب ، العلاج مطلوب ، المراجعة مطلوبة لأن الانفلات هي أسوأ حالة يصل اليها المجتمع ، وعدم ايجاد الحل يعني الفشل ، واستمرارية الفشل يعني السقوط لا محالة .