لكل مجتمع عادات وتقاليد ودين وطبائع ترسخت و تجذرت هذه العادات في سلوك أفراد المجتمع عبر مئات السنين فأصبحت صبغة ثابتة لذلك المجتمع ، ينصاع لها الناس خوفاً ورغبة ، كبيرهم وصغيرهم ، فهي بالنسبة للمجتمع خط أحمر لا ينبغي لإحد تجاوزه لأنها جزء لا يتجزء من ثقافة المجتمع وتراثه وصورته أمام المجتمعات الأخرى ، فإذا توهم أحد أبناء المجتمع بأنه أكتشف في يوم من الأيام بأن الوسط الذي يعيش فيه على خطأ في تقاليده وعاداته ، هذا الفرد سيكون قد جنى على نفسه وسيحمل نفسه الويلات وسيعرضها للألم حتى وأن أصاب في إكتشافه ، فالحقيقة هو أنه أكتشف بأن وجوده لم يعد يتماشا مع المجتمع وأن أفكاره لم تعد تتلائم مع طبيعة الحياة التي إعتاد عليها المجتمع ، فهو قد وضع حاجزاً بينه وبين الناس الذي تربى في أحضانهم ، فقد كتب على نفسه العزلة ، لأنه سرعان ما يتحول إلى كائن منبوذ متمرد يغرد خارج السرب ، فأما أن ينهي نفسه بوجوده المنعزل داخل المجتمع بأفكاره الجديدة أو يواجه تلك الأعراف المتداولة ثم يدفع ثمن تمرده أو يرحل لأنه تجاوز الخطوط الحمراء . فمثلاً المجتمع الذي يحكم على اللقيط بأنه عار وشنار دون مراعاة للجوانب الإنسانية بأن هذا اللقيط لم يك له ذنب أنه لقيط ، هذا مجتمع قاسي مدمر ، فما على اللقيط إلا أن يعيش بقية حياته عار أو يرحل وكذلك من يتصاهر مع اللقيط يتحمل نفس وزر اللقيط ، ومن يحاول أن يجعل اللقيط بمستوى الآخرين فهذا تجاوز على قيم ومثاليات المجتمع . هذا سلوك خاطىء ولكن المجتمع إعتاد عليه ، مثال آخر ، الإنسان الذي يتحول بدينه إلى دين أو مذهب مخالف لدين أو مذهب المجتمع ومخالف لدين الآباء والأجداد لا يظن بأنه سيستمر بالعيش كإنسان محترم ، خاصة في المجتمعات الجاهلة فأنه سيصبح مرتداً كافراً لابد أن يقتل أو يشرد من الديار ، أما المجتمع الذي يسمي المرأة على إنها عورة لا يحق لها مغادرة البيت ولا يحق لها القيادة والمسؤولية ، مثل هذا المجتمع تولد فيه المرأة وتموت وهي خاضعة لقوانين صارمة تمنع عنها كل ما تراه وتسمعه عن المجتمعات الأخرى من حقوق للمرأة ودورها في الحياة .
لقد أخطأ الفلاسفة والمفكرون عندما قالوا بأن التمرد على فكر المجتمع قمة الشجاعة والتحدي ( قد ينطبق هذا القول على المجتمعات الناضجة أو ينطبق على من نذر روحه فداء للأجيال ) أما بالنسبة لبقية الناس هو انتحار ، أو العيش ما تبقى من سنين العمر في عزلة تامة لأنه بالنهاية سيجد نفسه وحيداً ، قد يتعاطف بعضهم مع الأفكار الجديدة لهذا الإنسان المخالف لما موجود عند الناس ، ولكن هذا التعاطف يأتي فقط من باب الروابط العاطفية وصلة القربى أو مايسمى بالتخفي الإيمانيّ أو على أمل أن يعود إلى طبيعته القديمة لكي ينال رضا الأخرين ، وعودته ستكون مرحباً بها حتى ولو كان نفاقاً ( تظهر شيءٍ وتخفي شيء ) ، مثل هذه المجتمعات في طبيعتها تكون ولادة للمنافقين .
من الطبيعي أن تكون مثل هذه المجتمعات مظلومة جداً ومحرومة من قبل الحكام أو المسؤولين وهذه نتيجة طبيعية لان مثل هذا المجتمعات هي من ظلمت نفسها وهي من أباحت مفهوم الظلم وتقبلته وثقافتها مشبعة بالظلم ، فمن يحكمها لا يزيل الظلم عنها لأنها هي مجتمعات ظالمة بالأساس مع أبناءها ، وهي من شرعت لنفسها الذلة ، نعم مجتمعاتنا واقعاً ذليلة أمام الحكام وأمام قوى الشر ، وامام الفاسدين ، فيسرقونها ويعذبونها ، يظلمونها ويحرمونها من طيبات الحياة ، وليس لأبناءها ردة فعل ، فهم ساكتون ، خائفون ، مغمضة عيونهم ، وتجد مثل هذه المجتمعات دائماً تعاني الويلات ، من تحتها خيرات الأرض وفوق رؤوسها المطارق والسيوف ، هذه المجتمعات فيها الجهل سمة غالبة ، فيها المشعوذون مبجلون ، فيها الاقوياء مهابون ، فيها الاعزاء أذلاء ، هي مجتمعات مخالفة لقوانين الحياة الصحيحة ، تصل معها الحال ان تتمسك بالخطأ حتى الرمق الأخير ، وتزيد من قساوتها على من يسعى لتحريرها من الخطأ ، لأن الحر بنظرها يجلب لها الشؤم والبؤس ، هكذا تربت عقول أبناء المجتمعات الذليلة بالمفاهيم الخاطئة ، تحرير الناس أنفسهم من ظلم أنفسهم ليس بالشيء الهين ، فهم قادرون على ذلك أن امتلكوا الإرادة ، ولكن من أين تأتي الأرادة ، فطبيعة العبيد يمتلكون القوة ولا يمتلكون الإرادة ولا يمتلكون البصيرة ، المجتمعات التي تقاتل من اجل العبودية لا يمكن أن تقاتل من أجل الحرية أي لا يجتمع النقيضان ، فهي مجتمعات أضاعت إرادتها منذ اليوم الاول الذي رفضت فيه ان يكون للحر مكانة بين صفوفها ، والحر لا يكون حراً حتى يعبر عن أفكاره بحرية لا بخوف .
تصوروا هذه الحياة بما فيها من مرارات وصعوبات ، ثم يأتيك من يزيدها عليك ويزيد الحمل و المرارة وضنك العيش أضعافاً مضاعفة ، فبدل أن تتحول مرارة المجتمع ضد من يستحق هذه المرارة ، تنعكس على من لا يستحق هذه المرارة ، وكأنها قوانين وسنن مشرعة يجب النزول عندها ، وعندما يعترض العقلاء ليقولوا كلمتهم ، تعود كلمتهم إلى أفواههم فيصبحوا نادمين . هذه هي قوة المجتمع المدمرة التي صارت خطاً أحمراً على الجميع .