- مضت أربعة أشهر من السنة الحالية، ولحد هذا اليوم لم ترسل جداول الموازنة العامة لعام 2024 الى البرلمان للمصادقة النهاية عليها. لقد أصبح التأخير ظاهرة عامة للموازنات العامة في العراق منذ العقدين الاخيرين، وذلك بسبب متغيرات مالية منتظرة لإيرادات ونفقات الدولة، وهي ضمن الموازنات الثلاثية التي أنجزت في السنة السابقة، وتحتاج الى التعديلات بسبب: تقديرات الحكومة بان العجز المالي لهذه الموازنة سيصل الى نحو (80) ترليون دينار، أي (60،6) مليار دولار من اجمالي الموازنة البالغة نحو (228) ترليون دينار. من المتوقع أن ترتفع النفقات العامة الفعلية للدولة لهذه السنة بحدود (22٪)، في الوقت الذي تنخفض الإيرادات العامة بحوالي (26) ترليون دينار، أي بنسبة (19٪)، مما ينعكس على نسبة العجز المقدرة، وفق تصريحات صحافية لوزير التخطيط محمد تميم في إبريل/ نيسان الجاري. إضافة الى ذلك فإن إطالة تأخير المصادقة على الموازنة، سيؤثر بلا شك على توقف التخصيصات المالية للمشاريع الاستثمارية الإنتاجية والخدمية ضمن الاعتمادات المخصصة لها في ميزانية العام الحالي. كما أن الاستمرار في ظاهرة العجز في الموازنات السنوية، سيعرض البلد أيضا الى أزمة مديونية وتبعاتها، ويقيد فرص التنمية المستدامة، ما لم يتم تخفيض الانفاق الحكومي، واستثمار موارد الدولة بشكل عقلاني دون هدرها واستنزافها، والرقابة الصارمة على الفساد المالي والاداري.
- تؤكد بعض بيانات اقتصادية عراقية، بان اجمالي الدين العام الداخلي والخارجي، قد يصل الى (110) ترليون دينار، أي بحدود (83،3) مليار دولار: أكثر من (70) ترليون دينار، أي نحو (54) مليار دولار منه دين داخلي، ويمثل (65٪) من إجمالي الدين، ويتضمن قرض حوالات الخزينة من وزارة المالية يتم بيعها الى المصارف عبر البنك المركزي، والباقي (40) ترليون دينار، أي بحدود (30) مليار دولار دين خارجي، ويمثل بحدود (35٪) من إجمال الدين، ومجموع الدين يمثل 29٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وفق تقرير مؤسسة عراق المستقبل للدراسات الاقتصادية (غير الحكومية). في حين أن مجموع الدين في موازنة السنة المنصرمة 2023 كان يشكل أكثر من (12٪).
- من المتوقع زيادة متطلبات الرواتب بمبلغ (8،5) ترليون دينار شهريا، وفق تصريحات عضو اللجنة المالية النيابية، معين الكاظمي، وبذلك ستبلغ قيمتها (69) ترليون دينار، وتمثل (30٪) من مجموع الموازنة. وبحسب الحكومة ستكون الرواتب مؤمنة بشكل كامل لمدة عام. وهناك تذبذب في بنود الموازنة بسبب: أسعار النفط واستمرار الطابع الريعي للاقتصاد، وارتفاع النفقات التشغيلية ذات الطابع الاستهلاكي على حساب النفقات الاستثمارية، خاصة مع تزايد أعداد الموظفين نتيجة استحداث وظائف جديدة وتزايد عدد المتقاعدين، وتقاضي الفيئة البيروقراطية في قمة إدارات الحكومية رواتب عالية غير عادلة بالنسبة لمستويات الرواتب والسلم الإدارية، مما يؤدي الى ارتفاع نفقاتها ضمن الموازنة العامة، وأثر ذلك على الاستقطاب الطبقي لصالح الطبقة الغنية.
- هناك خلل بنيوي في تركيبة الموازنات العامة العراقية منذ عقدين من الزمن بين الإيرادات التي تعتمد
(85٪) منها على عائدات النفط والتي تتأثر بتبعيات التقلبات في أسعار سوق النفط، والانفاق التي هي في تزايد مستمر وخاصة التشغيلية منها، وتكون لصالح الأخير. وكذلك الحال بين الانفاق التشغيلي والاستثماري لصالح الأول. والحالة هذه تؤدي الى: تراكم المديونية وتبعاتها مع استنزاف موارد الدولة المالية، ويجعل من الموازنة العامة موازنة استهلاكية بدلا من موازنة الإنتاجية التي تساهم في خلق القيمة المضافة وزيادة
نصيبها من الناتج المحلي الاجمالي وانعكاس اثارها الايجابي على عملية التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي.
- هناك تأخير أيضا في انجاز الحسابات الختامية للموازنات العامة منذ العام 2003، ولحد ميزانية العام السابق 2023. ووفق المفهوم المحاسبي المتعارف عليه، يجب ان تكون هذه الموازنات مدققة من قبل هيئة ديوان الرقابة المالية وإرسال نسخة من تقرير الموازنة بعد التدقيق الى البرلمان لدراستها والموافقة عليها. فان أحدث واخر حساب ختامي نشرته وزارة المالية، يعود لعام 2008 ولم ترسل هذه الموازنات الى البرلمان للمصادقة عليها حسب الأصول. ان الإحصائيات الدقيقة للحسابات الختامية المتحققة والمدققة لفترات زمنية مختلفة، يمكن الاستعانة بمعدلاتها من الإيرادات والنفقات، مع استخدام معايير علمية ومنطقية في قياس كفاءة الأداء والإنتاجية، على اساس الأهداف والبرامج الحقيقية لكل مؤسسة أو دائرة حكومية، بالإضافة الى تخطيط سليم وقياس نسبة التبذير والنفقات غير الضرورية، وحساب كلفتها وإنتاجها المادي والمعنوي ضمن موقعها من مخطط الاقتصاد الوطني، ومتابعة كفاءة تنفيذ الموازنة من خلال الإنجاز الفعلي في نهاية كل سنة للحسابات الختامية، قد تشكل اساساً سليمًاً للاسترشاد بها في إعداد الموازنات العامة السنوية.
- في ظل غياب الامن والاستقرار وانعدام أيدولوجية ورؤية شفافة واستراتيجية واضحة المعالم في عملية التنمية الوطنية المستدامة، وانتهاج الحكومات المتعاقبة منذ الاحتلال في عام 2003 وحتى اليوم، وبمؤازرة من الاقتصاديين اللبراليين الجدد في إعداد الموازنات العامة، التي تحث وتشجع نظام اقتصاد السوق والخصخصة، متماشيا مع سياسات وتوجيهات المؤسسات الدولية (الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة الدولية)، لم تستثمر موارد الدولة، الا مبالغ قليلا منها في: تطوير القطاعات الإنتاجية، او في تحسين وتامين الخدمات العامة الضرورية او حل مشكلة البطالة والفقر، أو إعادة بناء وتطوير البنى التحتية، و/أو جلب التكنلوجيا المتطورة، إذ تم تبديد معظمها في مشاريع وسياسات لا علاقة لها بتحقيق التنمية الوطنية، وجرى نهب عشرات المليارات منها من قبل المحتلين والفاسدين والطفيليين والمافيات على المستويات الإدارية والحزبية.
- ختاماً، وبناءً على ما تقدم، نرى بأن الوقت قد حان على الدولة القيام بإصلاحات وتغييرات ضرورية على سياستها المالية والنقدية، تستند الى الاستراتيجية التنموية الشاملة، من خلال وجود رؤية واضحة معللة وشفافة فيما يتعلق بأولويات وأهداف التنمية، وتوسيع إطارها بما يكفل صياغة برامج قطاعية محددة، وزيادة النفقات الاستثمارية في القطاعات الإنتاجية: الزراعة والصناعة والبنى التحتية وغيرها، بحيث تضمن معدلات مقبولة للأداء والنمو الاقتصادي تهدف الى: اشباع الحاجات الأساسية الضرورية والمتنامية للمواطنين في المستقبل المنظور، ومعالجة مشكلة البطالة والفقر، ومكافحة ظاهرة الفساد المالي والإداري والاقتصادي المستشري على كافة المستويات الإدارية والحزبية، وبعث الحيوية في قدرة الدولة على أداء مهامها بأحسن وجه ممكن، وتوفير الامن والاستقرار وحياة كريمة للمواطنين، وتحقيق التقدم والازدهار، من خلال الاسترشاد باركان الإدارة الرشيدة المعروفة، مع ممارسة الديمقراطية في الحياة اليومية، وإتباع مبدأ الشفافية والإفصاح في البيانات والمعلومات، وتوفيرها في متناول الجمهور، وإشراكه الحقيقي في صنع القرات المهمة والسيادية في البلاد.
* دكتوراه في فلسفة الاقتصاد الكمي/محاسبة التكاليف، باحث أكاديمي متقاعد في النظام المحاسبي
- المقال منشور على شبكة الاقتصاديين العراقيين بتاريخ 06/05/2024