كيف تحول الصراع القومي إلى صراع ديني ؟- كامل سلمان

منطقة الشرق الأوسط كانت متوترة قومياً خلال العقود الماضية ، فالصراع العربي الإسرائيلي كان في حقيقته صراع قومي ، الحرب العراقية الإيرانية كانت حرب قومية عربية فارسية ، التوتر بين الدول العربية والدولة التركية كانت ذات بعد قومي ، حركات التحرر القومية والأحزاب القومية كانت تصول وتجول في كل مكان ، لكن كل شيء تغير في ليلة وضحاها عندما صعدت للساحة الحركات الدينية لتزيح الحركات القومية ، فبدعم إيراني لنهوض الحركات الدينية الشيعية في المنطقة ، قابله دعم تركي لنهوض الحركات الدينية السنية في المنطقة تحولت الصراعات إلى صراعات دينية تارة و مذهبية تارة اخرى مما أدى إلى إختفاء الفكر القومي تدريجياً وإحلال الفكر الديني محله . فاندلعت الحروب وانتعش سوق السلاح وعم التخلف وزادت الأمراض والجهل . السؤال هنا من الرابح ومن الخاسر في هذه التحولات التي طرأت على المنطقة . فلكل تحول كبير هنالك رابح وهنالك خاسر ، الرابحون أولاً : الدول المصدرة للسلاح هي المستفيدة الاول ، ثانياً :إسرائيل بلا ادنى شك ثاني الرابحين ، فبهذا التحول أستطاعت إسرائيل أن تحييد وتعزل معظم الدول العربية عن الصراع مع إسرائيل فتحولت الدول العربية من دول عدوة إلى دول صديقة أو محايدة ، لأن المنطقة تكاد تكون خالية من دول ذات أنظمة دينية شمولية رغم توغل وإنتشار الحركات الدينية في جميع الدول الإسلامية تقريباً ، فالحركات الدينية فشلت في تسلق الحكم وتأسيس دولة دينية كالإخوان المسلمين في مصر وسوريا ، ومنها مازالت تحاول الإستحواذ على الحكم إلا أنها أيضاً تعاني من الفشل النسبي كالعراق واليمن ولبنان ، لذلك أبقت الحركات الدينية نفسها في الظل للحفاظ على وجودها وديمومة قوتها وقوة تأثيرها ، لكنها بكل الأحوال لم ولن تستطيع بناء دولة دينية حتى الأحزاب والحركات الدينية في داخل تركيا رغم تأثيرها القوي على الحركات الدينية في المنطقة إلا أنها أيضاً فشلت في تأسيس دولة دينية في تركيا ، أما إيران فقد استطاعت تأسيس دولة دينية بسبب ضعف الحركات القومية وهيمنة المذهب الواحد في الداخل الإيراني وقوة نفوذ رجال الدين على الشارع الإيراني . إذاً ثالث المستفيدين أو الرابحين هي إيران : إيران أستطاعت شل الحركات القومية في داخل إيران بصعود التيار الديني إلى الحكم ، المعروف أن دولة إيران تتكون من خمسة قوميات كبيرة وقوميات أخرى صغيرة ، وأي صعود للحركات القومية ستؤدي بالنهاية إلى إنفصال هذه القوميات عن القومية الفارسية وبالتالي تقسيم إيران خاصة وأن بعض هذه القوميات أكبر حجماً مساحة ونفوساً من القومية الفارسية مثل القومية التركمانية والقومية العربية والقومية الكوردية والآذرية ، لذلك بإنتهاء الصراعات القومية أختفت تقريباً أو ضعفت بشكل كبير الحركات والنشاطات القومية داخل إيران وأصبحت القومية الفارسية تتسيد الساحة الإيرانية بأسم الدين والمذهب . رابع الرابحين : تركيا : بأسم الدين تمكنت تركيا من ضم أجزاء كبيرة من الأراضي السورية لنفسها وأستطاعت أن توجه ضربات مؤذية للكورد في مناطق شمال وغرب كوردستان وأستطاعت من الحصول على مكاسب اقتصادية كبيرة من بعض الدول التي تشترك معها في دعم الحركات الدينية السنية ، وأيضاً تمكنت من خلق نوع من عدم الاستقرار في أماكن كثيرة خدمة لمصالحها ، وأستطاعت أيضاً من خلال الحركات الدينية أن تضعف دولاً كالعراق وسوريا وليبيا . أما المستفيد والرابح الأخير في تحول الصراعات القومية إلى صراعات دينية فهي الصين : نعم الصين من بعيد تلتقي مع التوجه الديني عند بعض دول المنطقة ، بإعتبارها ترفع شعار معاداتها للإمبريالية الأمريكية والأوربية ، وهذا هو نفس الشعار التي ترفعها حركات الإسلام السياسي بشقيها السني والشيعي ، مما مكن هذه الحركات الضغط على حكوماتها للتعامل التجاري والسياسي مع الصين والأبتعاد قليلاً عن الغرب ، لذا فأن الصين توغلت كثيراً في بعض دول المنطقة بفضل ضغط الحركات الدينية على حكوماتها .. أما الخاسرون في هذه التحولات فهم أولاً : شعوب دول المنطقة التي تحملت تبعات هذه التحولات السيئة في كل المقاييس وخاصة منهم القوميون الذين تم عزلهم عن الساحة بعد فشل الأحزاب القومية اليسارية في تحقيق الوحدة القومية ، وثاني الخاسرين هم الكورد ، الكورد يغطون مساحات واسعة من مناطق الشرق الأوسط ، وهم جميعهم قومية واحدة تناضل لعشرات السنين لتأسيس كيان لهم أساسه الإنتماء القومي ، لكن بسبب أن رعاة الحركات الدينية هي دول مجاورة لكوردستان ولها قوة تأثير وتغلغل داخل أراضي الكورد فمن الطبيعي أن يتحول الجزء الأكبر من الضغوط على القومية الكوردية ، خاصة وان في الساحة الكوردية هناك حركات دينية نشطة مدعومة من كل من تركيا وإيران . ثالث الخاسرين من تحول الصراع القومي إلى الصراع الديني هي الأقليات الدينية من مسيحين وإيزديين وصابئة وبهائيين وغيرهم إضافة إلى العلمانيين واللا دينين الذين معظمهم هاجروا وتركوا بلدانهم بعد ان وجدوا أنفسهم أمام هجمة دينية عارمة من قبل غالبية شعوب المنطقة . الخاسر الرابع هي الدول العربية الخليجية والسعودية : هذه الدول دخلت فعلياً في مرحلة التحولات الكبرى لنهضة شعوبها نحو الحرية والتقدم والتطور ، فمع ظهور التهديدات من قبل الحركات الدينية فقد أضطرت هذه الدول أن تصرف جزء من إهتماماتها المستقبلية لمواجهة هذه الموجات من الحركات الدينية المتطرفة الخطرة مما أدى إلى عرقلة مساعيها في الإنتقال ببلدانها وشعوبها إلى مستوى العالم المتقدم رغم نجاحاتها النسبية . كل هذه التحولات حدثت في أعقاب سقوط نظام صدام حسين القومي . بالرغم أن نفس صدام حسين هو الذي بدأ بالتخلي عن الهوية القومية وإعلان ارتمائه داخل الهوية الدينية في فترة الحصار التي تلت إحتلال الكويت بعد ان احس بالخذلان من قبل العرب ، فقد أرتكب صدام بتحوله هذا خطأ تأريخياً عندما تحول نحو الهوية الدينية السياسية ، كان ذلك التصرف اكبر من خطأ أحتلال الكويت ، أن وجود وتنامي الحركات الدينية في المنطقة لا يعني في أي حال من الاحوال الإتجاه نحو السلام ونحو التطور بل العكس ، فهي خطوة نحو حروب غير منتهية وتدهور للأوضاع إلى درجة خطيرة ، فالنظام الديني الحديث لا يقبل بالمساومات السياسية العلنية وتفضل أن تجري الأمور خلف الكواليس فهي حركات منافقة إنتهازية ، وهذه الإنتهازية شجعت بعض الدول الكبرى على دعمها لتنفيذ إجندات خاصة ، أي أنهم أخذوا دور السماسرة ، ولكن وقاحتهم أبقت ألسنتهم تتحدث في لغة التحدي والجهاد والمقاومة ، وأنهم لن يرضوا إلا بواحدة من أثنين إما النصر ( المقصود بالنصر على جميع دول وشعوب المنطقة حتى التي تختلف معها في التفكير من نفس الدين ونفس المذهب ) أو الشهادة ( المقصود بالشهادة موت الحياة وموت الناس وموت الأمل ) ، وأظن ان بعض الدول في العالم المتقدم تتسلى بهكذا عقيدة متطرفة وتجد لنفسها فرصة تأريخية لإعادة هذه الدول إلى الحياة البدائية ، حياة ما قبل التأريخ لتذوق وبال تطرفها وتخلفها ، فمن سينقذ دول وشعوب المنطقة من هذا المد الأعمى ؟ وهل كتب على شعوب دول المنطقة أن تعيش بين أسوأ خيارين ، بين أن تكون دولاً ذات أنظمة دينية شمولية دموية او دولاً ذات أنظمة قومية دكتاتورية فاشستية ، في الوقت الذي نجد معظم شعوب دول العالم قد تجاوزت هذه المرحلة المظلمة من تأريخها وتخلت عن تركيبة الأنظمة الشمولية وأسست لنفسها أنظمة مدنية علمانية تهتم بمستقبلها ومستقبل أبناءها بعد أن تذوقت مرارة الحروب والاقتتال بسبب الإنظمة القومية والإنظمة الدينية التي عاشتها في فترات سابقة ، فما بال منطقتنا مازالت تدور في هذه الدائرة الضيقة وتراهن على لعبة خاسرة من الأساس وهي تعلم يقيناً بأن عاقبة امرها خسرا .