أسوأ المجتمعات حظوظاً هي المجتمعات التي يعجز فيها المثقف من فرض رأيه أمام رأي الجاهل ، والناس تتبع الجاهل المتخلف الضار لهم ، ولا تتبع المثقف العاقل النافع لهم ، وهذه الحالة لا تحدث صدفة أو هي نتيجة طبيعة في تركيبة المجتمع ، بل هناك أسباب تتكون عبر الزمن ، بعضها تكون نابعة من المجتمع نفسه والبعض الأخر هي الثقافة الخاطئة وغير المناسبة لمثقفي ذلك المجتمع ، والا ماذا يعني فشل المثقف الذي من المفروض أن تكون أفكاره المطروحة صحيحة وصادقة وعلمية وقوية الحجة أمام أفكار الإنسان الجاهل التي هي خاطئة وغير صادقة وغير علمية . فالصحيح في المكان والزمان الصحيح لا يفشل ولا يفسد فهذه حالة نادرة تحدث في مجتمع طبيعي أن يكون المثقف فاشل بثقافته وغير قادر أن يغير الواقع ، لأنه لا يدري بأنه يحمل ثقافة خاطئة ولا يدري بأن ثقافته خاطئة قد هزمت أمام الخرافة والجهل أو عديمة الجدوى ، فإذا أردنا أن نتساءل هل هناك ثقافة خاطئة ؟ سيكون الجواب نعم ، فعلى سبيل المثال ، الطبيب يكتشف بأن الدواء فشل في علاج المريض فهذا لا يعني بأن كل أنواع الدواء سيفشل في علاج المريض وإنما الطبيب فشل في أختيار الدواء الصحيح للمرض ، وقد يكون المريض نفسه قد فشل في التعامل مع تعليمات الطبيب واتباعها . فهي اسباب متعددة الاوجه ، ولكن النتيجة هي الفشل ، ما يحدث في مجتمعنا يكاد يكون المثقف هو أفشل فرد في المجتمع ، فلا نجد للمسة المثقف أي تأثير في الواقع وفي نفوس الناس وكأن المثقف غائب تماماً عن الساحة ، وغياب المثقف شيء خطير جداً ، وهو أشبه ما يكون مقارنة بغياب الدواء المناسب عن المريض ، كان قديماً يقال عن المثقف هو ذلك الإنسان الذي إذا جلس بين مجموعة من الناس أشترى عقولهم وكأنه يسحرهم ، والحالة أصبحت عكسية فأن المثقف اليوم بين الناس لا يشتري ولا يبيع كأنه يخاطب نفسه والسبب لأن أفكاره لم تعد تواكب نوعية التخلف التي تغزو عقول الناس ، نعم بعض أنواع التخلف لا تستجيب للثقافة التقليدية ، فالمثقف يجب أن يكون شجاعاً ويكون واضحاً ويكون دقيقاً ويكون مفهوماً وقريباً لعقول الناس ويحمل ثقافة تنبض بالحياة وتحرك الصخر الساكن ، ولا يجب أن يكون عدوانياً حتى مع أعداءه ، لأن عدوه الحقيقي ليست اسماء أو جهات معينة بل عدوه الحقيقي هو ذات الجهل أو ذات المرض أو ذات التخلف . فأنه من المؤسف حقاً أن يكون المثقف مهزوماً وغير موجود في الساحة بينما الجاهل يصول فيها ويجول .
نوعية الثقافة في إحياء عقول الناس هي كنوعية الدواء في تأثيره على المريض ، فكلما كان الدواء مناسباً وفعالاً للمرض شفي المريض بسرعة ، فليس كل دواء دواء ، كذلك ليست كل ثقافة ثقافة وكذلك ليس كل سلاح سلاح وليس كل طعام طعام . فكل شيء في الحياة فيه تنوع ودرجات وهذه تشمل الثقافة ، فثقافة المثقف الفرنسي ايام الثورة الفرنسية كانت تنبع أفكار فولتير التي أنارت الثورة في نفوس ملايين الفرنسيين وثقافة غاندي أيام تحرير الهند ألهمت عقول ملايين الهنود وثقافة مانديلا حين كان في السجن أثارة مشاعر الملايين من الأفارقة في جنوب أفريقيا والعالم وثقافة جيفارا ولينين وغيرهم من عمالقة الفكر والثقافة في التأريخ الإنساني لا يمكن مقارنتها بثقافة عبود الذي يكتب مقالاته شتيمة ومسبة أو نقداً لسرقة قام بها مسؤول في الدولة أو إظهار عيباً لمسؤول في الدولة ، وللأسف ثقافة عبود ( مجرد اسم رمزي للثقافة غير النافعة ) هي السائدة في عقلية مثقفينا الذين للأسف كثر عددهم وقلت منفعتهم . . أية ثقافة هذه التي يكتب بها الكاتب مقالاً ولا تزيد آلناس إلا كراهية وحقداً ولا تسحر عقول عطاشا الثقافة ، بل ولا تحرك ساكناً ولا يستسيغ قراءتها إلا نفر معدود ؟ . أنا عندما أجد مجتمعاً فقيراً سأدرك بأن الأغنياء قبل غيرهم هم سبب فقر الناس في ذلك المجتمع ، ثم أتساءل لماذا الأغنياء في بعض الدول يقومون ببناء المصانع وورش العمل والمشاريع للفقراء ؟ حتماً الجواب سيكون لزيادة اموالهم وبنفس الوقت يساعدون شعوبهم في القضاء على الفقر بين الناس ، فليس جميع الاغنياء سواسية ، فهذا غني وذاك غني ، والفرق بينهما أن هذا الغني بسبب مشاريعه يغتني أكثر ويصبح مليونيراً ومليارديراً وتزداد البركة في أمواله لأنه أحيا امواله بالإستثمار واحيا الناس معه بفرص العمل ، وقضى على الفقر في مجتمعه ، بينما الغني في المجتمع الفقير لم يحيي امواله ولم يحيي نفسه ولم يحيي الفقراء من فقرهم لأنه جشع ولا يمتلك ثقافة اقتصادية لتنمية امواله ولا يحمل ثقافة اخلاقية ، فهو بالحقيقة ليس غني بالطرق الشرعية ، هو مجرد لص ، وهذه حقيقة المجتمعات الفقيرة ، أغنياءها اموالهم غير شرعية ، هذا الفارق بين الاغنياء مادياً هنا وهناك ينطبق على المثقف هنا وهناك ، فتجد عندهم المثقف يصل مرحلة المفكر وهي المرحلة التي يستطيع المثقف بها طرح الأفكار التي تبهر عقول الناس فتوقضهم من سباتهم وتحيي عقولهم . وللأسف هذا النمط من المثقفين نفتقر اليه في واقع حياتنا بسبب عوامل كثيرة منها استسلام غالبية مثقفينا للموروثات الاجتماعية والدينية أو إنحسار ثقافتهم لجهة معينة . . أن كل نكسة يتعرض لها المجتمع سببها غياب المثقف وغياب الثقافة الحقيقية ، كل طفل يعيش الحرمان سببه غياب الثقافة ، كل إمرأة تعاني الإضطهاد المجتمعي سببه غياب الثقافة، كل هموم وآلام افراد المجتمع سببها غياب الثقافة وغياب دور المثقف ، ما صارت بعض المجتمعات مجتمعات راقية ولا أصبحت بعض الدول دول متقدمة ولا أضحت دول محترمة إلا بفضل مثقفيها وكتابها ومفكريها . حتى علماءها وفنانيها ورياضيها لم يجدوا الطريق سالكاً للرقي العلمي والاجتماعي والاخلاقي لولا عقول مثقفيها التي عبدت لهم الدرب . فهؤلاء المثقفون كانوا مشاعل تنير الدرب للأجيال ، وأقصد أجيالهم ، فمتى تنال اجيالنا و ننال نحن ايضاً هذا الحظ العظيم بوجود هذا النمط من المثقفين المفكرين الذين ينتشلوننا من تحت أنقاض التخلف والجهل ؟