مالفائدة من دراسة التأريخ .- كامل سلمان

دراسة التأريخ عند العلماء الأكاديميين الباحثين يختلف عن دراسة التأريخ المنقول على ألسنة الرواة ، فالعلماء غير مضطرين في الاعتماد على الروايات ولا يعرجون على النصوص المنقولة ولا على الكتب المقدسة ، فعلماء التأريخ الذين درسوا أصل الكائنات والمراحل الزمنية التي عاشتها الكائنات ثم فرزوا أصل خلق الإنسان والمراحل الزمنية التي مر بها ، فأكتشفوا مراحل تطور الإنسان وأنواع الإنسان الذي عاش على الأرض ، من إنسان النيندرتال الى إنسان جاوه ، إلى إنسان العصر الحجري والعصر الجليدي وعرفوا تركيبة الإنسان القديم وعرفوا كل شيء من دون أن يسألوا أحداً أو يقرأوا رأي أحداً أو يتطلعوا إلى رواية أو حديث ، وإنما توصلوا لمعرفة التأريخ الإنساني كله من خلال دراسة المتبقيات الأثرية وتركيبة ال ( دي ، ان ، اي ) فكانت نتيجة جهودهم أن يكون التأريخ الذي درسوه قد اعطى ثماره للبشرية جمعاء وتطورت من خلالها علوم كثيرة ، والحال نفسه ينطبق على تطور علم الطب وتأريخ علم الطب ، وعلم التربة أو الجيولوجيا الذي من خلاله عرف العلماء تأريخ التغيرات المناخية وتأريخ الأرض والمعادن ، وكذلك علم النبات والحيوان ، فكل دراسات التأريخ تعطي ثمارها عندما يكون مصدر هذه الدراسات والأبحاث التأريخية هم العلماء تحديداً ، فقد استطاع العلم دراسة تأريخ كل شيء وأكتشفوا بدايات كل شيء ومراحل تطور كل شيء إلا تأريخ الأنظمة السياسية والصراعات الدينية والقبلية ، فأن العلماء تركوها لما رواه الرواة الذين عاصروا أحداثها ، ولم يخوضوا غمارها لكثرة تضارب الاراء وعدم واقعيتها أكثر الاحيان ، وهي بالاساس لا تستند على أدلة قطعية ، مجرد روايات نقلتها مجاميع من الناس حسب أهواءها وميولها ، والعلم بطبيعته لا يأخذ بشيء بدون دليل وكذلك يفعل القضاة في المرافعات والمحاكم ( لا قرار حكم إلا بدليل ) فالأحداث التأريخية القديمة كلها بلا دليل بل لا يمكن إثباتها ، وهذا يعني كلها باطلة عقلياً ، أما مفردة الرواة الثقاة والروايات بسند وغيرها فهي ضحك على الذقون ، فكانت النتيجة أن كل الدراسات التأريخية بكل مجالات الحياة أعطت ثمار عظيمة لمسيرة الإنسان في الحياة لأنها مسنودة بدليل علمي ، إلا الدراسات التأريخية التي وردت عن طريق الرواة فأنها أضرت بحياة الإنسان بشكل جنوني لأنها غير ذات دليل ولأنها أثبتت نفسها بأنها مصدر للفتنة . فنحن نشأنا وتربينا وتعلمنا أن دراسة التأريخ فقط تلك الاحداث المنقولة عن فلان وفلان وعن أبيه وصاحبته وجيرانه وابن عمه وسلسلة سموها ثقاة ، أما الدراسات البحثية والعلمية الموثقة بالادلة والبراهين التي تخص تأريخ كل شيء مر على حياة الإنسان فهذه ليست لها قيمة عندنا ، بل القيمة تكمن فقط بما فعله عنترة ابن شداد وربعه وما جاء به الرواة من روايات وقصص عن حياة الشخصيات القديمة ، وهذا هو التأريخ الذي ندرسه ونتمتع به ونحرص على نقله لأجيالنا ونحرص على دوام بقاءه في الذاكرة ، لأنه كما نظن هذا هو التأريخ يقيناً ولا ننظر إلى مساوئه الكارثية ، وأنا هنا لا أخلط بين الجزء الممتع من التأريخ المنقول والجزء المضر ، فمثلاً قصة قيس وليلى وما أرتبطت به من احداث وأشعار جزء ممتع ، قصائد الشعر والنثر والأدب والدعابة والفكاهة هذه كلها تأريخ ممتع ، الفن والموسيقى والدراما وبعض الاحداث والقصص الاجتماعية هذا تأريخ ممتع يمكن أن يتحسسه الإنسان ويستمتع به بامتداده الجغرافي والاجتماعي ، علينا أن نفصل كل شيءٍ ممتع ونافع عن التأريخ الضار . وهنا يحضر السؤال التالي : مالفائدة من دراسة التأريخ المضر الضار والمسبب لدمار الشعوب والحروب والفتن ؟ لماذا لا نكتفي بدراسة التأريخ النافع الذي جاء عن طريق البحوث والدراسات وتشريح المتحجرات من قبل العلماء وفيها الدليل العلمي ونترك التأريخ الضار الذي نقله فلان وفلان وليس فيه أية فائدة وبدون أي دليل؟ هل نحن مجانين لنتمسك بما يضرنا ونتخلى عن ما ينفعنا ؟ حاولت أن أتعرف على طريقة دراسة المجتمعات المتقدمة للتأريخ الاجتماعي ، هل هي نفس الطريقة التفصيلية الضارة عندنا ؟ هل هذه المجتمعات تعاني من نقل التأريخ الاجتماعي عن اشخاص ( من شخص إلى شخص ) فلم أجد مجتمعاً واحداً على وجه الأرض يعتمد في دراسته للتأريخ على شخص نقل الخبر عن شخص ثاني وثالث ورابع وعاشر ومائة ، ولم أجد مجتمعاً يتصارع ويتقاتل بسبب أحداث تأريخية مضت وأنتهت ، و وجدت أن تلك المجتمعات ألغت التفاصيل الواردة عن تأريخها وتأريخ بقية الشعوب وأكتفت أن تجعل من التأريخ فقط شاهد لبقاء الأثر ، فمثلاً عندما يشاهدون الأهرامات في مصر يعرجون على ذكر أقوام يسمون بالفراعنة قاموا ببناء هذه الاهرامات قبل ثلاثة الاف عام بشكل عجيب ، فتعجبهم ينصب على الاهرامات وليس على الفراعنة ، لأن الأهرامات شاخصة امامنا ، أما من هم الفراعنة وماهي تفاصيل حياتهم ، هذه يتركونها للمختصين وليست لعامة الناس لأنهم متيقنين بأن اختلاف الاراء ستكون حاضرة في هكذا بحوث والطعن حاضر والمشاكل حاضرة ، نحن من لا نفهم هذه الحقيقة ، فكان اصرارنا أن ندرس تأريخنا ، ندرسه وندرس تفاصيله المتناقضة من مختلف المصادر المنقولة عن طريق سلسلة من الناس ، آخر واحد فيهم يقول هؤلاء السلسلة التي سبقتني كانوا ثقاة ، ووصل بنا الحال أن ندرس ونعلم ابناءنا كيف أن القائد الفلاني قبل أكثر من الف عام نزع لباسه وبانت عورته في ساحة المعركة لكي يتعلم أبناءنا فنون أسلافنا في ساحة المعركة . أين نحن وأين يذهب تفكيرنا ؟ ومن هو الذي رسخ في عقولنا هذه المجهولية والاهتمام بالأشياء المضرة المستهلكة للوقت وللتفكير .
أن الذين يصرون على دراسة التأريخ الضار المؤذي إنما هم مجاميع متخلفة جعلتنا نهتم بأحداث عقيمة وشغلتنا عن التأريخ الحقيقي لمراحل تطور العلوم وتطور الإنسان وتطور الثقافة وتطور العقل ، لأنهم يعرفون يقيناً أن دراسات التأريخ العلمي الإنساني النافع سيجعل مكانتهم في قمامات ونفايات التأريخ .
وأخيراً أود القول بأن العلماء من خلال بحثهم العلمي أعطونا صورة عن حياة الإنسان في زمن الديناصورات قبل مليون عام بشكل صادق ودقيق جداً وموافق للعقل ، بينما الرواة نقلوا لنا التأريخ قبل مائة عام بشكل كاذب ومتناقض ومخالف للعقل . كيف سنستمر مع هذا الحال ؟
ولكي ندرك المتناقضات الواضحة في تأريخنا نجد مثلاً الشعر العربي القديم ، الذي كتب قبل الإسلام والأحداث التي حدثت قبل الإسلام لم تصلنا عن سلسلة اشخاص فقد دونت في وقتها ووصلتنا مباشرة بدون فلان عن فلان ، بينما الاحداث التأريخية خلال وبعد العصر الإسلامي كله وصلنا عن طريق سلسلة اشخاص ولم تدون في حينها ، لماذا ؟ اليس من حقنا أن نتساءل لماذا ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *