نتنياهو بين حاجة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وبين عجز النظام العالمي- سمير عادل

اذا كانت أوكيناوا (اليابان) تُعدّ أهم واكبر قاعدة عسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في المحيط الهادي، وقاعدة رامشتاين (ألمانيا) التي اكبر قاعدة جوية أمريكية في العالم وتطوقها عدد من القواعد العسكرية التي تصل الى 21، فأن إسرائيل اهم واكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط تحافظ على مصالح وإستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية.

لذا فإنَّ ادراك حقيقة مكانة إسرائيل من منظور الجغرافية السياسية، بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، من شانها العمل ومن دون عناء، على تفنيد جميع الأوهام التي تنسج بدراية وحنكة وحكمة عن استمرار حرب غزة بسبب شيطان سوقوه لنا اسمه (بنيامين نتنياهو).

طيلة عشرة أشهر، والحكايات والروايات والتحليلات تدور بأن نتنياهو لا يريد إيقاف الحرب في غزة، وإنَّ الإدارة الأمريكية غاضبة، وبايدن ممتعض، والبيت الأبيض زعلان على نتنياهو، وبايدن وبخ نتنياهو.. الخ من التسريبات المنظمة التي أقل ما يقال عنها بأنَّها كذبة لخداع العالم وتضليله عن حقيقة مفادها (إنَّ نتنياهو هو رجل المرحلة وإنَّ الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة إليه بقدر حاجة إسرائيل إليه).

وقد بيَّنت المعطيات الواقعية المتلاحقة على إثبات تلك الحقيقة، منها إفشال قرار مجلس الأمن حول إيقاف الحرب في غزة، وقرار محكمة العدل الدولية بعدم التوغل في رفح وفي إيقاف الحرب، وقرار محكمة الجنائية الدولية في إلقاء القبض على نتنياهو وغالانت كمجرمي حرب وآخرين، وتنفيذ جميع القرارات يرتطم بصخرة موقف الولايات المتحدة الأمريكية في الأروقة الدولية.

وبعكس كل ما يدلو به المحللين والمراقبين السياسيين، بأن نتنياهو يفتقر الى الاستراتيجية في حرب الإبادة القومية التي يقودها في غزة، فقد أثبت على العكس تماما فانه يمتلك استراتيجية واضحة، حيث استطاع أن يقلب معادلة السابع من أكتوبر بل ويستغلها بدهاء، بعد أن حشرت إسرائيل في مكان لا تحسد عليها، واستطاع استرداد زمام المبادرة بالرغم من كل التهويل الذي تروج له قناة (الجزيرة) وخطابات حسن نصر الله بانتصارات ما يسمى محور المقاومة.

إنَّ من يتمعن بسياسة إسرائيل على الأقل منذ اتفاقية أوسلو عام 1993، فأن استراتيجيتها هي السعي الحثيث في اجتثاث الشعب الفلسطيني وتصفيته جسديا، أو في افضل الأحوال تهجيره ومصادرة أملاكه وأراضيه ومحو القضية الفلسطينية من ذاكرة التاريخ والمجتمع الإنساني. وهذا المسعى الاستراتيجي موجود ومستمر سواء في قضم الأراضي وبناء المستوطنات، أو تحويل دولة إسرائيل الى دولة يهودية عبر تغيير دستورها قبل ما يقارب من خمس سنوات وتقطيع اوصال المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية وفرض حصار ظالم على غزة منذ عشرات السنين.

لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية، بجميع إداراتها الجمهورية والديمقراطية، داعمة لسياسة دولة إسرائيل، على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري، وتلك الاستراتيجية التي فشلت بتحقيقها في الاتفاقات الإبراهيمية وعبر إغداق (50) مليار دولار في غزة للجم حركة حماس مثلما فعلت مع السلطة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو، تجد تحقيقها اليوم ــ أي تلك الاستراتيجية ــ في حرب غزة.

كان السابع من أكتوبر، فرصة ذهبية لدولة إسرائيل المتمثلة بنتنياهو الذي يقود جناح الأكثر وعيا بمصالح إسرائيل الاستراتيجية، والطبقة الحاكمة في إسرائيل منسجمة حول رؤية هذا الجناح، لكن الاختلافات بين الأجنحة -ونقصد هناك يائير لبيد زعيم المعارضة وبيني غانس رئيس حزب أخضر أزرق وافيغادور ليبرلمان رئيس إسرائيل بيتنا، وغيرهم من رؤساء وزراء سابقين أمثال ايهود أولمرت باراك- حول كيفية إدارة الحرب في المنطقة وليس في غزة وحدها. وقد تبين استطلاعات الرأي على تزايد شعبية نتنياهو في الداخل الإسرائيلي بعد اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس وفؤاد شكر الشخص العسكري الأول في حزب الله. وهذه الاستطلاعات لا تؤشر بأنَّ نتنياهو وحده يريد الحرب فحسب، وإنما هذه هي رؤية الجناح المهيمن في إسرائيل لاستراتيجية هذه الحرب بالنسبة لوجود دولة إسرائيل، ومكانتها في الوقت ذاته كحجر زاوية تأمين المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.

إنَّ تطابق أو توافق، صيحات رؤساء الحكومات، والملوك، وممثليهم في العالم، التي توظف المئات من المحللين حول ما يحدث وكل ما يحدث من شرور وحرب إبادة وتدمير وقتل لأكثر من عشرين الف طفل لحد الآن، ووصف الحرب الدائرة في المنطقة لاسيما في غزة، بأنَّها حرب ليس لديها أي أفق، ويعزون سبب كل هذه الكارثة الإنسانية إلى شخص نتنياهو بالذات، والحقيقة إنَّ هذا الموقف يعبر عن سياسة ــ سواء أكانت بوعي أو من دون وعي ــ متفقة لإخفاء عجزهم وعجز دول العالم في النظام العالمي الذي فشل الى الآن بكسر الطوق أمام عنجهية وغطرسة العسكرتارية الأمريكية. ومثلما افشى توماس فريدمان السرّ قبل ثمان اشهر من الآن في مقال له نشر في نيويورك تايمز بتاريخ 25/1/2024، ويصف فريدمان بانه ممثل وزارة الخارجية الأمريكية في الجريدة التي يكتب فيها بحسب رأي أستاذ اللسانيات واشد ناقدي السياسة الأمريكية (نعوم تشومسكي) إذ يقول فريدمان في مقال بعنوان صراع جيو سياسي، عملاق: أن أوكرانيا تريد الانضمام إلى الغرب وإسرائيل تريد الانضمام إلى الشرق العربي – وروسيا، بمساعدة إيران، تحاول وقف الصراع الأول، وإيران وحماس تحاولان وقف الصراع الثاني… إنها تعكس صراعا جيو سياسيا عملاقا بين شبكتين متعارضتين…

 وعليه كان السابع من أكتوبر بمثابة إيذانا لدخول مرحلة من مرحلتين، أمّا مرحلة أعادت هيكلة العالم القديم وبناء عالم كما يصفه بوتين متعدد الأقطاب، أو الحفاظ عليه مع ترميمه بما يتناسب مع استمرار هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.

إنَّ نتنياهو هو رجل هذه المرحلة، رجل أمريكا في الشرق الأوسط ويحاول ضبط إيقاع الحيلولة دون انهيار الهيمنة الأمريكية، وهذا هو سر استقباله كبطل قومي في الكونغرس الأمريكي قبل أسابيع واطرب مسامع أعضاء مجلس الشيوخ والنواب بما أرادوا أن يسمعوه، وقد يفشل في مهمته، عندها تعلق على رقبة نتنياهو كل النتائج الكارثية لسياسات أمريكا في الشرق الأوسط وخاصة دعمها غير المشروط لإسرائيل.

وفي مواجهة هذه السياسة، توج يحيى السنوار رئيسا للمكتب السياسي، ودعنا هنا أن نختلف أيضا مع الكلاسيكيين من المحللين والمراقبين بأنَّ اختياره للمنصب المشار إليه، هو سعي حماس لاستمرار الحرب وعدم التهدئة، لكن الوقائع على الأرض تدل على غير ذلك، فاذا ما تمكنت رؤيتنا تشق غبار معارك شمال غزة وخان يونس والنصيرات والمواصي ورفح وغيرها، فاختيار حماس للسنوار هو محاولة لإنقاذ راس الرجل وانتزاع حصانة أمريكية بعدم اغتياله من قبل إسرائيل، لان مفاتيح المفاوضات والتهدئة ستكون  بيده كما عبر عنه وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، وبالإمكان بالنسبة لحماس إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نزيف خسارة قيادات الصف الأول المتمرسة في غزة والحفاظ على الأقل على انتصار معنوي لها متوج باستمرار حماس بالسلطة في غزة، وفي الوقت ذاته بإمكان السنوار وحده خلق الانسجام بين أجنحتها السياسية فيما بينها، وبين الأخيرة والجناح العسكري لحماس. وإنَّ أي تنازل من قبله أمام إسرائيل أو الذهاب الى أي نوع من الصفقات، سوف تقبل برحابة صدر من قبل حماس بجميع الأجنحة.

وأخيرا أمام كل هذه الأوهام التي يحاول جميع الأطراف المساهمة بشكل نشط في نثرها لحجب الحقيقة التي تقول لنا؛ إنَّ قتل آلاف من الفلسطينيين، وإدخال المنطقة في دوامة من الرعب والتهديدات ومسلسل من القصف والاغتيالات في العراق واليمن ولبنان هو من اجل صراع جيوسياسي، لا مكانة للقضية الفلسطينية فيها. فلا ايران نظام الملالي تريد حل الدولتين، ولا إسرائيل بطبقتها الحاكمة اليمينية واليسارية تريدها. وعلى ضفافهما تقدم المنطقة قربانا من اجل تحقيق وتأمين مصالحهم ومكانتهم في النظام العالمي الذي لا يعرف شكله الى الآن.