سيرجي لافروف، وزير خارجية روسيا، كان لسنوات عديدة من أكثر الوجوه ظهورًا على الإعلام العالمي، وربما الثاني في روسيا بعد الرئيس بوتين. كان يلوح بالورقة السورية أينما حل، ولكن بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، كاد أن يختفي من الساحة السياسية، خلف قادة الرتب العسكرية. ومع ذلك، ظهر فجأة في الأسبوع الماضي، وكأنه على وشك أن يحمل العلم التركي بدلًا من الروسي، أو ربما كليهما معًا، ومعه عدة أوراق، تالفة مهترئة من كثرة ما تم عرضها دون نتيجة، وعلى رأسها ليست الحرب الروسية-الأوكرانية، بل مسألة الإدارة الذاتية والقضية الكوردية في سوريا، تحت مسيرة التطبيع التركي-السوري. وبدبلوماسيته المعروفة غطى على الأهداف التركية.
لن نتوقف طويلا على الجزء الأول من تصريحاته لقناة “روسيا اليوم” يوم السبت الماضي، رغم أهميتها بالنسبة لسوريا، وقوله على أن: “الأتراك مستعدون لذلك، لكن حتى الآن لا يمكن الاتفاق على معايير محددة”. وأضاف: “نحن نتحدث عن عودة اللاجئين، وعن التدابير اللازمة لقمع التهديد الإرهابي، الأمر الذي سيجعل بقاء الوحدات التركية غير ضروري “. لا شك أن كلمة “الإرهاب” عكست الرؤية التركية قبل الروسية، وعلى أسسها يُسمح بمحاربة قوات قسد، كما يُسمح لروسيا بمحاربة المعارضة التكفيرية. وعمليًا، ليس للوزير الروسي ولا لأردوغان غاية أهم من القضاء على الإدارة الذاتية. وبالتالي، فإن تصريحات لافروف جوفاء، ولا سند لها سوى خدع السياسة الخارجية، أي أنه يكذب على نفسه وعلى السلطة السورية بطلب من تركيا، وبذلك يضع الشعب السوري والمعارضة أمام جدلية النفاق التركي ومصالحها المتقاطعة مع مصالح روسيا، خاصة في مجال عودة اللاجئين.
الأغرب هو هذا الجزء، من تصريحاته والذي كان موجهًا إلى الإدارة الذاتية، وقد قال: “نحن على تواصل مع الأكراد ومع الجميع ونذكرهم بمصير القيادة الأفغانية التي قررت الاعتماد على وعود الولايات المتحدة دون الاعتماد على شعبها أو الحوار الوطني. ففي ليلة واحدة تركوهم وحيدين في نهاية المطاف. آمل أن يتعلم شركاؤنا الأكراد من التجربة التاريخية ويعودوا إلى مسار الحوار الوطني متفقين على شروط حياتهم ضمن الدولة السورية الموحدة مع دمشق”. واضح أن لافروف يشير إلى أن حل القضية الكردية بيد النظام السوري، أي أنه عمليًا يطلب من الإدارة الذاتية التسول في دمشق وقبول شروط النظام المجرم. وهذا هو بالضبط المطلب التركي المتقاطع مع النظام والروسي أيضًا. علماً أن بوتين أخبر بشار الأسد في اللقاء الأخير بنأيه عن تبني مسيرة التطبيع ومجريات الصراع مع الإدارة الذاتية، وذلك من خلال عدم البحث فيها أو وضعها كبند رئيس في حواراتهم.
لا شك أن الذهاب إلى دمشق بدون شروط مسبقة يُعتبر ضعفًا واضحًا، ويعني إعادة الإدارة الذاتية إلى مستوى الإدارة المحلية، مما يفقد الوجود الأمريكي في المنطقة مسوغًا منطقيًا للبقاء. وعلى الجانب الآخر، ستزداد قوة المعارضة، وهو ما ستستخدمه تركيا كشرط للبقاء أو الخروج من سوريا. ويدرك النظام السوري وروسيا وإيران هذا الأمر جيدًا. لكن لافروف يتناسى أن هذه الدبلوماسية قد فشلت فيها تركيا مرات عدة، ويدرك أيضًا أن أمريكا لن تسمح بزوال أداتها. لذلك، أي حوار مع النظام، وإن تم، لن يخرج بنتائج إيجابية، ليس بسبب سقف مطالب الإدارة الذاتية، بل لأن مصالح أمريكا تتطلب ذلك، إلا إذا تخلت قوى الإدارة الذاتية عنها لأسباب ما. وفي هذه الحالة، ستخلق أمريكا قوة بديلة بسهولة، أي أن الإدارة الذاتية ستقبر نفسها في دمشق إذا تجاوزت مطالب أمريكا والشعب الكردي، الذي يجب أن يتبنى النظام الفيدرالي بصيغة قومية كردية.
من الغرابة أن بعض الأطراف الكردية أخذت تصريحات لافروف على محمل الجد دون قراءة متأنية وذكية لها، وبدأت تفضل الحوار مع النظام والذهاب إلى دمشق. وهذا يعود إلى شعورهم بالنقص، فمهما ارتفع الحراك السياسي الكردي وزادت قوته، سيظل هؤلاء يبحثون عن قيادة خارج البيئة الكردية يحتمون بها. والجميع يعلم أن سلطة بشار الأسد أضعف من أن تدعي قيادة سوريا، وتُملي شروطها على الإدارة الذاتية في هذه المرحلة على الأقل، بوجود أمريكا على الساحة وحيث تتطلب مصالحها وجود قوة عسكرية مثل قسد وإدارة سياسية مثل الإدارة الذاتية رغم الاختلاف الإيديولوجي بينها وبين أمريكا الإمبريالية. وربما هذا أحد أسباب عدم الاعتراف السياسي بها إلى جانب الحصار الدولي المفروض على سوريا بوجود سلطة بشار الأسد.
القوى السياسية الكردية التي بنت الإدارة الذاتية في السنوات الأولى ارتكبت أخطاء عدة، منها بسبب قلة الخبرة وأخرى بسبب المنهجية الإيديولوجية السابقة لأوانها، التي ظهرت بشكل طوباوي في عصر الصراعات القومية والمذهبية الدموية. والثانية كانت أخطرها، وقد كتبنا عن نتائجها مرات عديدة، وعن الإشكاليات التي يدفعون ثمنها اليوم، ويستمرون في دفعها. بناءً على ذلك، تبني سلطة بشار الأسد الأمل في إعادة المنطقة بشروطها، مستخدمة عامل الزمن. وعلى هذه الأسس المعروفة لسيرجي لافروف، يطالب الإدارة الذاتية بحل قضيتهم القومية والإدارية مع النظام في دمشق.
لا شك أن بشار الأسد على دراية بكل هذا، وبالجوانب الأكثر دقة. فهو يتشاور مع إيران، وتقدم له روسيا كل الخطط المستقبلية. وعليه، وتحت منطق المدافع عن الوطن السوري، صرح مرات عدة وآخرها في كلمته أمام مجلس الشعب أن خروج تركيا من الأراضي السورية هو بداية مطالبه للسير في عملية التطبيع. ولكن من المؤكد أن تركيا لن تُقدم على هذه الخطوة إلا بعد أن تتأكد من أن سوريا ستحارب قوات قسد، أو ستقوم بعمليات ميدانية ضدها. وهو يدرك تمامًا أن أي خطوة في هذا الاتجاه تُعتبر شبه انتحار لسلطته، ولكن لا يُستبعد أن يُحرك قوى داخلية للقيام بعمليات ضد قوات قسد، كما حدث سابقًا بدفع عشائر منطقة دير الزور لمحاربتهم بدعم إيراني مباشر.
ومن هذا المبدأ، أي تجنب إقحام النظام في معارك خاسرة، طلب لافروف بشكل غير مباشر من الإدارة الذاتية أن تبادر وتطلب من النظام فتح حوارات جادة تماشيًا مع مسار التطبيع التركي-السوري. عمليًا، يطلب الوزير من قوى الإدارة الذاتية العودة إلى حاضنة النظام. وإذا حدث ذلك، فسيكون النجاح لصالح تركيا والمعارضة التكفيرية، بينما الفشل سيلحق بالنظام والإدارة الذاتية على حد سواء. لذا، يجب على الإدارة الذاتية ألا تدخل في أي حوارات دون موافقة الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا تزال مصالحها تتطلب البقاء في المنطقة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
3/9/2024