رحلة دون تدخل في كتاب محمد الماغوط/ سأخون بلدي- 5 / الأجندة – عبد الرضا حمد جاسم

الأغنياء و الفقراء ، القضاة و المتهمون، الحراس و اللصوص و المخمورون كلهم يقولون لي: ماذا تفعل في هذا الوطن بعد ان ابيض شعرك تحت سماءه و انحنى ظهرك فوق ارصفته؟ ماذا تنتظر منه بعد ان تحدد فيه مستقبلك و مستقبل غيرك في السياسة كما تحدد مستقبل محمد امين في الفن؟
 سافر الى بلاد الله الواسعة فقد لا تجد وقتا في المستقبل لشراء حقيبة و قد لا تجد يدا او اصبعا في يدك لحمل تلك الحقيبة… و كلما عدت الى بيتي في اخر اليل اجد على عتبته جواز السفر و تأشيرة الخروج  و دفتر الصحة و بطاقة الطائرة و حبوب الدوخة
 و احزم امري و حقائبي و اسافر. في الذهاب أتمنى ان يكون مقعدي في غرفة القيادة على ركبة الطيارة او المضيفة لابتعد بأقصى  سرعة عن هذا الوطن وفي الإياب أتمنى ان يكون مقعدي في مقدمة الطائرة على غطاء المحرك لاعود بأقصى سرعة الى هذا الوطن
أخر مرة كانت الى تونس أربعة الاف كيلو متر فوق البحار و القارات و انا احدق من نافذة الطائرة كما يحدق اليتيم في واجهات الحوانيت في الأعياد، كانت الغيوم هاربة من العرب، التلوث هارباً من العرب، العروبة هاربة من العرب و بعد أسبوع كنت اهرول عائدا اليهم و حزام الأمان مازال حول خصري
و سألتني زوجتي بدهشة : ما الذي عاد بك بهذه السرعة؟ ألم تعجبك تونس؟
قلت: انها الجنة بعينيها ، شمس و بحر و غابات
قالت: و ماذا تريد اكثر من ذلك؟
قلت: بصراحة، بلد لا يوجد فيه مشاكل!
قالت مستغربة: مشاكل؟
قلت: نعم بلد بدون ازمة سكن،  ازمة مواصلات، أزمة غاز و بدون شائعات…لا فلان طار و لا فلان راح لا استطيع ان اُقيم فيه أكثر من اسبوع . كما انني بدون دخان مهرب و دعوسة رجلين في الباصات و مسؤولين يخالفون شارات المرور و شاحنات صاعدة هابطة وقت القيلولة تصب جهود الجماهير في أساس بناية او شاليه لهؤلاء المسؤولين و كل نشرة و الثانية يا جماهير شعبنا و في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ امتنا، لا اشعر بانني في بلدي بين اهلي و احبابي كما يقولون في كلماتهم الترحيبية كل شيء عندهم في تونس هادئ كمراكز الامتحانات  و كل شيء واضح و محدد حسب النظام و القانون لذلك فقدت اعصابي و صرت كالخليجي الذي اعتاد النوم طول حياته على صوت المكيف فما ان يتوقف عن العمل حتى يستيقظ و لا يعرف كيف ينام حتى يعود للعمل و الهدير من جديد .
ثم انني احب هذا الوطن من محيطه الى خليجه فأينما كنت ما ان اقرا اسمه في جريدة او اسمعه في إذاعة حتى اتجمد كنهر سيبييري
كعريف في حضرة الجنرال، أنني احبه، قدروا ظروفي و عواطفي.
فيه قرأت او قصة لياسين رفاعية و سمعت اول اغنية لفهد بلان و قرأت اول افتتاحية ترد على كل المخططات الأجنبية في المنطقة، تبدأ ببيت للفرزدق و تنتهي ببيتين للأصمعي، فيه سمعت لأول مرة اسم قضية فلسطين، عائدون، حرب التحرير الشعبية، حرب الاستنزاف، الكيلو 101، مرسيدس 220 ،امبريالية، استعمار، انسبستر، ديبون، فيزون، بيار كاردان، جنرال الكتريك، جنرال سيلاسفيو.
صرخت زوجتي بحدة: مشكلتك انك تسخر من كل شيء في هذه المنطقة.
فلت لها: بالعكس ، مشكلتي انني احترم كل شيء فيها حتى قمامتها بدليل، و انا عائد في اخر الليل سقط عليَّ كيس قمامة فلم احتج و لم انفضها حتى عن رأسي و ثيابي لأنني من طريقة سقوطها عليَّ عرفت انها زبالة مدعومة.
قالت حالتك خطيرة جداً، عليك بمراجعة طبيب.
قلتُ: أن الدكتور كيسينجر لن يحل مشكلتي ، و تصوري انني صرت ابكي في أفلام حسن الامام و افرقع بأصابعي في حفلات سميرة توفيق.
قالت: كم يؤلمني ان أرى شاعر مثلك لا يجد ما يتحدث به في أواخر عمره غير حسن الامام و سميرة توفيق و أكياس القمامة..
هل نسيت الشعر؟
قلتُ: الشعرا كأنك تُذَّكرينني بطفل فقدته ولا اعرف قبراً له.
قالت: هل تثق بيَّ؟
قلتُ: كثقتي بكرايسكي
قالت: أياً كان رأيك فأنت في حالة يرثى لها أُيها العجوز الصغير و علاجك الوحيد هو الشعر، السفر الروحي على اجنحة الحلم و الخيال.
فقلتُ: و لكن كيف؟ و الى اين؟
ولما كانت زوجتي بطبيعتها حالمة و خيالية فسرعان ما فتحت النافذة و حدقت في الأفق البعيد و قالت، الان و ليس غداً، انزع من رأسك كل السفاسف السياسية و المنغصات اليومية و تعال معي لنطير على اجنحة الحلم و الخيال الى العوالم الذي سبقنا اليها رامبو و فيرلين و هايني و شلر و لوركا، لنطير بعيداً بعيداً في عالم السحر و الجمال حيث السماء الزرقاء و لأمواج الحالمة و الغابات العذراء.
فقلت لها حبيبتي اذا ما استمرت الأمور في المنطقة على هذا المنوال ، تبادل شتائم و مؤتمرات و خطابات فلن نطير انا و انت و غيرنا في نهاية الامر الا الى كامب دافيد.
الى التالية/ 6ساعة المستقبل
عبد الرضا حمد جاسم