كريم جخيور، إبداعٌ مُحتشِدٌ بالفكر والحب ..جزءٌ أول – هاتف بشبوش/ شاعر وناقد عراقي

 

 

 

كيف يثيرك الشاعر ، كيف يدخل ذائقتك عنوة فيظل باقيا بقاء الدم في الوريد ، كيف يرمي بشباك إبداعه فيصطاد شهية القاريء والناقد معا ، كيف بمستطاع قصائده ان ترغمك في القول من أنه الشاعر الذي نراه واقفاً على الناصية . كيف يجعل الرقاب تدارُ لمايكتبه من جمالات على مستوى الشطر الشعري أو القطعة الواحدة والبنية والتدوير والإنثيال وما تعنيه من معاني ونهايات لها من الدلالات الصادمة بأكثر من مفصل ومفصل . كل هذا نستطيع إيجاده عند الشاعر كريم جخيور في بعض نتاجاته ومنها ديوانه الموسوم (يطعنون الهواء برماح من خشب ) . كريم نراه في أغلب ثيماته وقصائده متجاوزاً مختلفاً عن بقية الشعراء. من النوع القلق على الدوام إن كان في قصائده وهذا هو حال الشاعر أو في الحياة اليومية العامة ، فهو الذي تعوّد على القلق حتى ظنّ أن الطمأنينة فخ على حد زعم (الثائر جيفارا) . قصائد كريم خفيفة الوقع بلا تكليف في القواعد ولا الحركات التي تصيب الشاعر أحيانا (بداء القلاب) لكثرة المبالغة في معرفية قواعد اللغة التي لايمكن أن يصل لها المرء مهما تبجح وشهر سيف التحدي فاللغة بحر لايمكن الوصول الى عمقه الحقيقي . كريم شاعر له من الممارسة التي يحسد عليها والتي إستمرت شوطا من الزمن الكثير. كريم شاعر مبدئي عاشق لشيوعيته التي عاصرها منذ الصغر ولايمكن له نسيانها مهما تغيرت الأيام والأزمنة ومامرت به الحركة اليسارية من نكوص كبير لكنها الباقية التي إستطاعت أن تثب من جديد وتحقق الإنتصارات في الكثير من بلدان العالم سوى بلداننا التي يقصف بها التقليد السائد والديني الذي لايرحم المبدع إذا ما أراد أن يخرج عن مألوف بلدانه.لذلك كريم يكتب في أكثر من نص عن الشيوعيين فلنقرأه في نصه الموسوم أدناه ( البلاشفة) :

 

لقد اتفق الرواة

وعلى اختلاف مشاربهم

ومدى قربهم من مقعد بيت المال

أن البلاشفة إذا دخلوا قرية

زادوها جمالاً 

ويحدثنا الرواة أيضاً

أنهم انتشروا كالعشب

وكلما أسقطت الريح لهم نجمة

تفرقدوا كواكبَ لا تنطفئ

وفاضوا على أديم الأرض

طفولة ً

لا يشربها الظلام

 

هنا كريم يضيء الدال والمدلول معاً ، فالشيوعييون هم الدالة الفرقد لروحه والفلاحين في القرى والأرياف هم المدلول،وهنا نجد صورة واستقراء في غاية البداعة. من أول القصيد يطعن بما جاء في أنطولوجيا الملوك وماورد في التأريخ الزائل ( إذا دخلوا قرية أفسدوها) . نص متماسك لايمكنك أن تفصل ثيمة عن أخرى فلابد من الإستمرار حتى نصل زبد الكلام . من القصيد أعلاه الذي ذكر به (ومدى قربهم من مقعد بيت المال ) نقرأ المفاهيم التي وردت في الأزمان الغابرة فذاك (يهوذا) أول تلميذ للمسيح وأمين صندوقه لكنه خانه بعشرين من الفضة وباعه لليهود حتى صلبوه.لكنّ الشيوعيين ليسوا كما أولئك الذين باعوا مواثيقهم وشعوبهم بفخذ دجاجة. الشيوعيون الذين لايهابون الموت في كل وقت ومكان ومن ضمنهم كريم الشاعر الذي غادر مغريات الحياة ولايهاب الموت من طاغٍ أو من الموت المألوف ذاته إذا ماحلّ بوادينا . لنرى ماذا يقول في نصه بهذا الصدد( شاعر يحب الفراشات ) :

 

كلنا سنذهب ذات يوم كارهين

إلى تلك الحفرة التي تسمى القبر

ننظر بوجع إلى الحياة  ، حتى لو كانت قاسية

فيا ربي

اذا ما اردت ان تدوفه طينا 

فلا تنس ان تنفخ في طينتي

روح شاعر يحب الفراشات

وألا يمسسني سوى الحب

بعيدا عن السكري وارتفاع ضغط الدم

أو تنفخ فيه روح ملك عادل

يحب  الورد والنساء ولا اقول الجواري

 وان تعيدني عراقيا حتى لو كنت بلا بيت

ولكن لي حبيبة من عسلٍ هي ،  وقصائد

 

الحياة فيها من العبثية التي لاتطاق بحيث كتب الفيلسوف (ديفيد هيوم) على من يدعون بإعجاز الكون ونظامه فقال: أين تكامل الكون فهناك من الألم الذي لايطاق المتمثل في إنتشار الأمراض ومنها السكري والضغط والطاعون، والسل ومرض القلب وبترالساق واليدين خوفا من الغنغري وغيرها من الأمراض التي لايمكن تحملها ، ناهيك عن الكوارث الطبيعية التي تخلق الموت بالجملة والإحصائيات مثلما حصل في فلم المستحيل the impossible انتاج 2013 تمثيل نعومي واتس وأيوان ماكريكور . يتناول الفلم دراما حقيقية رومانسية ومبكية للغاية عن إعصار جزيرة بوكيت في تايلند الذي حصد أرواح العديد من الكبار والاطفال والشباب الذين جاءوا الى هذه الجزبرة محملين بأحلامهم ونيل سعادتهم واستمتاعهم وإذا بهم يموتون في لحظات لايمكن تصورها على الإطلاق . يفترق الأحبة في الغرق المميت الناجم عن الموج الهائل الذي دمر وسحق كل شيئ من المباني والبشر وأحلامهم وشهواتهم وحبهم للحياة . فهنا الفلم يتحدث عن عبثية الكون وغدره لنا وعدم تنظيمه بفعل منظمٍ كما يدعي البعض . فأين الإعجاز في خلق الكون بشكل نظامي موزون. ورغم كل هذه العبثية والألم في الحياة بشكل عام أواللذان يعيشهما الشاعر كريم لكنه يبقى مصراً على الحب كإسلوب حياة ومامن بد لذلك والا هلكنا في المكان والزمان ولهذا نرى كريم يقول لنا في آخر قصيدته من أنه ذاك المحب لحبيبته أو لزوجته ( من عسلٍ هي وقصائد ) حتى يفصح علنا بهذا المنحى في شذرته البديعة ( وصيّة ) :

 

لا تخجلي أبدا

فلا عفة

فوق السرير

ولا وضوء بعد القبل

 

يقول نيتشة (نحن نأتي من هوة مظلمة وننتهي بهوة مظلمة) وما الحياة سوى فاصل بين هذين الفضائين المظلمين ولابد لنا أن نعيش هذا الفاصل ولو بفرحة قليلة تزيح عنا آلام الشعوب ومقدراتها. ايضا من معاني النص اعلاه عن الجنس يقول شوبنهاور في كتابه ( العالم ارادة وتمثل) 1818 عن الحب ( الأرادة العميقة والعمياء هي التي تجعلنا نبحث عن الحب وهي التكاثر والبقاء ثم يتكلم عن الضياع والوحدة والقرف بعد انتهاء كل عملية جنسية في حين كنا نتصورها قمة الأورجازم فيقول ( بعد انتهاء كل عملية جنسية أكاد اسمع ضحكات الشيطان ) ومع ذلك كل له رأيه في هذا المجال الخصب الجميل .

المرء لابد له من مأوى أو سقف يستظل به لكننا نجد كريم يشكو من هذا المآل وهو في وطن غنيٍ لكنه الأفقر في العالم وهنا ينطبق القول على كريم ماقاله الكاتب إيفان تورغنيف ( سينتهي المطاف بالإنسان الشريف ، بأن لايعرف أين يعيش ) . كريم يعيش في وسط غريب حيث أن الغالبية العظمى تدّعي الورع النبيل بينما هم من برج الفاسقين . كريم من كثرة حبه لزوجته وبالرغم من مرضه وهزاله بين آونة وأخرى لكنه ظل على رؤاه ومايحمله من فكرٍ نيرٍ ومستنير وجعل الحب هو الأسمى في ماتبقى له من حياته فهو هنا مثلما قال ديستويفسكي : ( إذا اردت أن تعيد إنسانا للحياة ،  ضع في طريقه إنسانا يحبه ، إنساناً يؤمن به ، فالعقاقير وحدها لاتكفي ) كما ان زوجة كريم ستبقى خالده في أشعاره وفي ذكراه وفي كل شاردة وواردة من حياته فذات يوم عند موت الكاتبة الفرنسية (جورج صاند) قال فيكتورهيجو: (أبكي على إمرأة ميتة لكنني أنحني لإمرأة خالدة) ، وهكذا يصوّر لنا كريم معاني الحب ومايتطلّبه منا في الوفاء والإخلاص لمن نحبهم وأحبونا ذات يوم لكن الموت حال دون إستمرارنا معهم ، لنقرأ كريم أدناه بخصوص ذلك وفي شذرات مختلفة ( ورقة أولى في الرثاء ) الى روح زوجته فوزية  : 

 

أيها الرب وأنت الكريم

هل كان الهواء

شحيحا في خزائنك

حتى بخلت عليها؟

***

بأيدِ باردة

راحوا يهيلون عليكِ التراب

وحدي كنت أهيل الدمع

وأمطركِ بالقبل

***

هنيئا لك

فبعد كل هذا الطواف

من بيت الى بيت

ومن قبو الى آخر

حصلت الآن على قطعة أرض

إسمها القبر

 

يقول فيكتور هيجو (اننا نقضي نصف العمر ونحن ننتظر لقاء من سنحبهم والنصف الآخر في وداع الذين أحببناهم). حين يرثي كريم زوجته فهذا يعني هناك من الألم الساكن في بدنه فيخرج في مثل هذا البوح ولكن بطريقة أخرى تجعله قويا صامدا مثلما يغني عبد الحليم حافظ ( في ناس تخلق من الألم قوة ، وفي ناس تخلق من الدموع سكة ) .

الرثاء ميزة لايمكن ان يتخطاها الشاعر ، لآن الحياة مليئة بالفقد المهول وعلى مدى الدهور التي نعيشها ، الفقد الناجم من الحروب أو من الحوادث أو من مرض يصيب أحباءنا فلابد للشاعر أن يحزن ويتألم فيبوح بالرثاء كله . ومن وسط هذا الرثاء إستطاع كريم أن يضرب بالصميم قضية السكن والأنظمة الطاغية التي لاتوفر المأوى لمواطنيها فراح يقول في ثيمته المبكية ( حصلت الان على قطعة ارض اسمها القبر) . ومهما يكن من أمر فالمرء مصيره الفناء ولكن هناك من الإبداع يجعل هذا الأمر في غاية الفنتازية والراحة والسؤال عن العالم الآخر إن وجد بعد الممات ، فهذا الأمر كثيرا ما حيّر الشعراء وكتبوا عنه بما تراه سريرتهم وتوقهم الى هذا المعنى الهائل والصعب في الإدراك لنقرأ كريم في نصه ( الجنّه ) وما بعد الممات :

يروى

والعهدة على الراوي

أن الروح استأذنت من ربها

أن تزور جسدها،فوجدته في مقبرة

وبحالة رثة  ، لا ماء ولا هواء

تغطيه الدماء والأوساخ

فقالت له  ، لماذا أنت هنا

أين القصور ، التي تجري من تحتها الأنهار

وأين الاستبرق والمرجان  ، وأين الحوريات مزينات باللؤلؤ

ولباس من حرير ، أين الحدائق والكؤوس

عامرة بالخمرة دونما سكر  ، وأين  ، وأين ما لذ وطاب

فقال لها ..

أيتها الروح أذهبي الى ربك  ، وقولي له

كلها كانت محض خيال وأكاذيب

 لم أصدق بها يوماً

 

نص تشكيكي لالبس فيه ، نص حداثي وأغلب الحداثة لابد لها أن تتعرض للثوابت وتضعها على طاولة التحكيم . كبار العلماء لديهم من التشكيك مع الأدلة والبراهين والكثير من الشعراء على غرار أدونيس ، الفيتوري ، أنسي الحاج ، الماغوط ، والكثير من الممثلين من أمثال ( جميل راتب) الذي سألوه ( إذا مت ووجدت هناك حياة أخرى فماذا تقول فأجابهم : (هذا شي جميل أن نلتقي أحبتنا هناك ، لكن لم يأت أحد من الموت ويخبرنا عن الحياة الآخرى) . الفيلسوف هيدجر يقول : (العالم جاء بمحض الصدفة والعبثية فلا وجود لمنظم لهذا الكون وكل الجدل المثير حول ذلك عقيم لايؤدي الى الحقيقة وتبقى تنظيرات المثالية إيمان أما تنظيرات العلم فهي حقائق وتجارب ) . ومن بين كل هذا التساؤل والمرارة في الوصول الى الحقيقة الناصعة نشأ كريم في بيئة المقهورين والذين ذاقوا من الطغاة الكثير،أنه من بساطة المجتمعات التي تتصف بالشرف النبيل البعيد عن مساومات السلطة كما ورد في نصه (أولاد الحيانية) :

 

في الحيانية

أو حي الحسين بعد احتراق المشير

كنا لا ننام ، في ظهيرات الأصياف القاسية

نحن أولاد الحيانية الوقحين

فليس في بيوتنا ما يغري بالهدأة

كانت من قصب وطين

كانت الشوارع من سبخ ووحل

لا تخلو من طيور شائهة

كان المسجد وحيدا وبعيدا جدا

بيد أن المحبة كثيرة كانت

كنا نفرط في اللعب ونقع في الشجار

لكننا لا نعود الى البيت

فننام على وسائدنا المهترئة دونما كوابيس

وكانت أمهاتنا لا يعرفن من العشار

سوى مسجد المقام وضريح عبد الله بن علي

وسوق الهنود وليس لهن من الأعياد

غير زيارة القبور والأضرحة

 

نص تأريخي يخبرنا عن إحتراق المشيرالمجرم عبد السلام عارف بطائرته والتي من خلالها شاع القول ( صعد لحم نزل فحم ) . يتحدث النص عن الحياة البسيطة غير المعقدة ورغم ذلك هناك من السعادة الحقيقية لاكما اليوم ومتطلبات الحياة التي لاتعد ولاتحصى ولايستطيع فقراء الناس على تلبية جزءً منها . شعوب لاتعرف من الحياة سوى الحزن وحتى في أيام الفرح يتوجهون الى البكاء على القبور ، فليس من بديل غير ذلك ، وهذا ما أراده الطغاة في كل زمان ومكان وبمعية الكهنوت الذي يمسك عصاه في هذا المجال المهلك . يبكون وفي ظنهم ان البكاء سيصل الى مسامع الموتى بينما الفيلسوف برتراند راسل يقول ( سأموت ويتعفن جسمي ويتحلل ولم يبق من ذاتي شيء).ولذلك نرى طقوس الجناز لدى الغرب تختلف كثيرا لآنهم العارفون أن الحياة تنتهي عند موت البشر والكل زائل تحت طائلة الموت . ومن وسط هذه الأزقة البسيطة كما الحيانية ينقلنا كريم الى تلك الأزمنة في البصرة وما أنتجته من كبار المبدعين ، فالبصرة منبع الشعر ومنبع الوراقين . لنقرأ كريم أدناه في ( البصرة) :

يتبــــــــــــــــــــــــــــــــع في الجــــــــــــــــــــزء الثانــــــــــــــــــــــــي

هاتف بشبوش/ شاعر وناقد عراقي