وأخيرًا قبري ــ كفاح الزهاوي

 

    على امتداد النظر كانت المنطقة مهجورة، وقاحلة، لم يكن فيها قائم سوى قبري الذي زرته كشبح بعد دفني فورًا. كانت السماء منخفضة، والأفق مغطى بالضباب الأصفر، وساد هناك صمت حزين، فلم أر وجوه الدفانين؛ لأن الغشاوة التي كانت تغطي عيني، قد حجبت ملامحهم.

    جلست أمام ضريحي ونظرت إلى اللوحة المصنوعة من الإسمنت، والمحفور عليها اسمي وتاريخ ميلادي ورحيلي إلى عالم الخلود. مدونة قصيرة لا تلفت الانتباه ولا تولد الحماس؛ فهو ليس إلا اسمًا كغيره من الأسماء التي اختفت في غياهب السجون وكوارث الحروب والصراعات الطائفية والتصادم الديني والعنصري، هؤلاء ايضًا كانوا يحملون يوم ميلاد ويوم وفاة.

    كانت تلكلحظات مؤلمة وقاسية، ملآن بالجراح العميقة تركد تحت وطأة اليأس من ركام الخيانة والخداع. بدأت أتحدث مع نفسي، وأنا أعلم أن صوتي لن يسمع الآن، هذا الصوت الذي كان حيا قبل ان ينقطع عنه الهواء، مكتومًا على الرغم من السماح له بالصراخ.

    وبينما كنت أحدق إلى اللوحة، نشأ حاجز من عدّة خطوط مرئية التي كانت تمر بشكل متوازي أمام العينين، عموديا وأفقيا، ولكن يصعب التقاطها أو إزالتها، لم أعرف مصدرها؛ لأنها كانت تتسرب من بوابات غير مرئية. بدأت هذه الخيوط تتشابك حتى أصبحت شبكة عنكبوت شائكة، يوحي المشهد بتعقيدات الحياة ومعاناتي عندما كنت ولا زلت أتنفس.

    طفقت أقارن نفسي بجثتي الهامدة تحت التراب. لم أجد أي علامات واضحة على الاختلاف. الحياة عبارة عن قيم وأسس ومبادئ، وقد دُفنت تحت التراب، أمام عيني، ولم أتحرك ساكنًا، لأنني كنت حينها مشغولاً بالاستماع إلى الوعاظ والكهنة وهم يتحدثون عن أهمية الموت في حياتنا؛ ففاتني القطار ولم يبق أحد على أرض المحطة في انتظاري.

    هل رأيت يا جثتي كم أنا بائس؟ كانت السماء تذرف دموع الحسرة على محنتي، وتحرك الرياح الأشجار لتهز أغصانها، عسى ولعل حفيف أوراقها يوقظ في داخلي الألم، وقد فقدت الأمواج طاقتها وهي تندفع إلى الأعلى بكل قوتها، لتحذر من قدوم الخطر، والأفق ما زال شاحباً من الحزن والأسى.

    وبينما سفينتي كانت تغرق، فبدلًا من أن أطلب الخلاص، أصرخ: “هيهات أن أكون شخصًا ذليلًا وخانعًا، بل ممتنًا لنعمة القوم الذي أنتمي إليه.