(الفرح المتأخر يغمرني) أيضا – مراد سليمان علو

 

عند صباحٍ مبتلٍ

طوق كلماتي من جهة الحزن

تراصف مع موتي

وامنحني فرصة شرق واحدة

لأغيب

فلا ضوء سيكفي وحدتنا

أني مثلك أيضا

أبحث عن يوم

متنا فيه معا.

***

قصيدة واحدة طويلة بطول الديوان نفسه، مقسمة الى ستة وأربعون مقطعا ترتكز بناءها على (فاعِلُن). (الفرح المتأخر يغمرني) أهداني إياه صديقي الشاعر العراقي المقيم في برلين فارس مطر في 17/9/2020. كتب لي على الورقة الأولى الأهداء التالي:

شنكال!

التين!

أصوات من راحوا!

صوتك يا صديقي أغنية باقية.

وكان الأهداء الأكثر تأثيرا على وجداني. فغمرني الفرح أيضا. قرأت الديوان على عجل، على أمل أعادة القراءة ثانية، وتمضي أربع سنوات طوال، وسنوات الغربة طوال لو تدري، لأعود اليه أخيرا.

عندما أقرأ ديوان شعر، أو حتى قصيدة؛ عليّ أن أكون في كامل وعي، وأن تكون حواسي في كامل أناقتها؛ لأتفرغ للقراءة، فالشعر ليس كالنثر، ويمكنك أن تقس على ذلك الوقت الذي أحتاج وأكونه بهذا الاستعداد، فمن منا يكون في كامل أدراكه هنا في المهجر ليقرأ ديوان شعر بصورة متواصلة، لا سيما أن كان شعرا مهما وزاخرا بالمعاني ودسما بالعاطفة ينز من روح تشبه روحك.

ربمّا صديقي فارس كان يدرك هذه الحقيقة البسيطة وخاطبني في أهدائه ديوانه لي بـ (شقيقي).

استخدم شاعرنا الأسلوب الحر والنثر في بناء القصيدة وهذا أعطاها انسيابية وانسراح في تدفق الكلمات والمصطلحات الواضحة وغير المكلفة لغويا في بحر المتدارك مع شحنات عاطفية متدفقة يجعل القارئ يندمج مع قراءته. (حدث معي هذا في قراءتي الثانية).

بما أن القصيدة متصلة ببعضها أي ذو موضوع واحد، أو ثيمات قريبة ومتشابهة، رغم تقطيعها الى مقاطع لأعطاء القارئ فرصة استراحة وربمّا استيعاب ما هو بصدد اكتشافه من معاني مختلفة وعديدة في القصيدة ككل، وفي المقطع كجزء لا يتجزأ من الكل نفسه. مثل الحياة، والموت، والحرب، والخسارة، والاغتراب والحاجة الى تحقيق الذات في وجودية واضحة، وكذلك يمكن اكتشاف أثر السريالية التي أحبها شخصيا، وأنقش بها كتاباتي دائما، في عدد كبير من ابيات القصيدة مكتوبة بطريقة فوق واقعية، ومشاعر غير تقليدية.

وبالنسبة للمشاعر فهي واضحة في مختلف أجزاء القصيدة حين يجنح الشاعر الى الرومانسية في محاولة التقرب من الآخر. وهنا استفاد الشاعر من التكرار، ووظفه بصوة إيجابية في تعزيز معاني الرومانسية. أو النوستاليجا في تذكر الأماكن التي يحبها وهي بعيدة عنه. الحنين واضح وكأن الشاعر يخاطبنا مباشرة عن وحدته هنا في المهجر وشوقه للديار، لدجلة وبغداد.

سأتناول مقطع آخر، ربما تمكنا معا من فك شيفرة الغمر بالحب بكل جوانبه وألوانه وأشكاله في هذه القصيدة العظيمة:

” من منا يستمتع في موت أفضل… الوقت خريف… سيدة جفت… فانبثقت ألوان أناقتها… الشارع مصفر… تفرشه الأوراق… قطار محطتنا يتأخر… العازف ممتلئ اللحظة… يحمل أرثا وسلالا من هم… بائعة الورد… تدون أسعار الباقات… وتوقيتات الشاشة مطفأة… لا أملك وقتا… كيف سأمشي… والموسيقى بدأت… كورال القطرات سيشتد… فمن يبدأ بالرقص… شظايا… خطوات… خصر بين يديّ… جنون وحديد… نيران… أرسم أصواتا… وألون معناها… من غيم ومسافات… سقطت في ضفة… بين وثاق ونشيج مخفي… عين مغمضة تحرس ماضيها… أخرى شاخصة… تتحدى اللحظة… حاضرة كوضوح الطلقة… ماذا ستكون ملامحنا… شفق يتشرب في الماء… دواة مغيب… أسقط… نسقط من يجمعنا… تطفو الأضواء… الكلمات… الأعمار… أمان لم تتفتح… وعد… عاشقة تنتظر اللاشيء…  يهلهل نخل النهرين هنا… في المنفى… في راسي… في صدري… صلية رشاش وشظايا… اقتادوني فجرا… كي تشهدني الشمس… الساحة خالية… كنت حضورا وحدي… مكتظا بي… سرت نبيا لا ينتظر المدد… الساعة أصنع معجزتي… وحدي… حولي كل عصافيري… حشد حمام وقطا… وقصائد جاءت… وجه صافحني… أمكنتي… أزمنتي… بيتي الطيني… دمائي… وسمائي… قمر الليلة يشتل آسا… حول حقول الموت… وخصلة ضوء… عند رؤوس الأحلام المغتالة… أرخي أغنية… للقتلى والعشاق معا”.

 

التفكيك بألوان الحبّ:

كتبت هذا المقطع بخلاف ما هو مدون شكلا في الديوان، أي بصورة أفقية للاستفادة من المساحة قدر الأمكان، وكي لا تبان وكـأنها طويلة ومملة. الجميل في هذه القصيدة الطويلة، بإمكانك التكلم عن كل مقطع من مقاطعها الـ 46 على حدّة.

أرى الشاعر وهو يتناول جوانب مهمة وعديدة من الحب، تتداخل فيها الأحاسيس مع مشاهد الحياة اليومية ذات الرموز العميقة.

كما في حياة أي شخص عادي يتداخل الحب مع الحياة اليومية، الموسيقى، الوقت، الذاكرة. وتكون قوة تجمع الناس وتمنحهم الأمل، والصبر بمواجهة صعوبات الحياة اليومية.

في البداية على أن أعترف بأنني لست ناقدا فنيا للشعر، بل قارئا يحاول تلخيص قراءته من وجهة نظر إنسانية وليس فنية. أرى أن الشاعر أولا يضع الحب في مواجهة وبمناورة ذكية (من منا يستمتع في موت أفضل) وهو يعكس تماما فكرة الحب الذي يتحدى الموت.

ثم، يرميه على أكتاف الوقت بتفاصيل يومية دقيقة (الوقت خريف… سيدة جفت… فانبثقت ألوان أناقتها) الشاعر هنا يأخذ دور الفنان ويعبر عن الجمال الذي ينبثق من التفاصيل اليومية البسيطة، ويتفلسف في أن يجعل الأشياء العادية تبدو رائعة. وينهمك دون أن ننتبه في التفاصيل (بائعة الورد… تدون أسعار الباقات). أليس الورد في كل زمان ومكان رمزًا للرومانسية.

الشاعر مرهف الحس ولهذا أراه يتناول الحب في الموسيقى والرقص، فهو القائل (كورال القطرات سيشتد… فمن يبدأ بالرقص) يعبر عن الحب من خلال الموسيقى والرقص، ولا يخفى أن الرقص بحركات معينة هو روح الموسيقى. حيث تكون اللحظات المشتركة في الرقص تعبيرًا عن الحبّ. (خطوات… خصر بين يديّ… جنون وحديد… نيران) هذه اللحظات المشتركة مليئة بالشغف والحرارة، وهي نوع من الاتصال الجسدي الذي يطفئ لهفة المحب.

وبصور أخرى مختلفة نجد التحدي في مفردات القصيدة، والصمود على أمل انتصار الحب، وكذلك نجد ثيمة الأمل بوضوح والانتظار، وهل يوجد حبّ دون انتظار؟ كذلك نعثر على (وجه صافحني… أمكنتي… أزمنتي… بيتي الطيني… دمائي… وسمائي) وهي كلمات تعبر عن ذكريات الماضي ونوستاليجا حية في ضمير الشاعر اتجاه الوطن.

وهكذا.. مع كل مقطع من مقاطع هذه القصيدة الطويلة يستطيع القارئ الحاذق أن يبني شبكة من العواطف التي تنزلق بين يديه في بوتقة الحب الشامل.

القصيدة طويلة، نعم، ولكنها كذلك قصدا، وبوعي شاعر تلبية لحاجات نفسية وفنية لبوح الغربة التي هو فيها، وطبعا، الغربة والتهجير تساهمان في بناء القصيدة وتشكلها.

كل شاعر يغترب تتكون لديه تجربة شعرية جديدة، وربمّا أصبحت لديه رؤيا أدبية فريدة يطل من خلالها على المستقبل، ويحاول أن يلخص ذلك في قصيدة على الأغلب تكون طويلة، وهناك تجارب كثيرة يمكن الوقوف عندها لشعراء عراقيين آخرين كبار.

لا أريد الدخول في بناء وسمات القصيدة الطويلة، وما يهمني هنا أن الشاعر استبل بغداد ب، برلين وفجأة رأى كل شيء يتغير وكل شيء مختلف. بالتأكيد يمكن تناول القصيدة وفق مدارس فنية مختلفة، ولكنني رأيت كقارئ بأن الحب وهو يستولى على القصيدة، رأيت ان أتناوله مجزأ في مقاطع، وهو في حقيقته يغطي كل المقاطع. ولا تشعر بأن متقطع.

لنتناول مقطعا مغايرا قليلا، وهو يتناول ما هو بالضد من الحب. الحرب. يا ألهي أنه يتناول الحرب بحب، فأية مشاعر كانت تتملكه وهو يقول:

قلبك يؤلمني

فارحني من خفقانك

وأقطع تذكرة لكلينا

ما دمت مصرا أن أصحب ظلك

أعرف أفراحا لا تأتي

أخذوني منها لحروب لا أعرفها

بعد الساتر دافعت لأبقى

نفدت كل ذخائرنا

عاد الطرفان

ولم يقتل أحد أحدا

لكني أعدمت لأني لم أقتل

الشاعر أيضا

يبقى لقصيدته

لكنه يقتل عند قراءتها.

***

يقال إن كل شيء ممكن في الحب وفي الحرب، تناولت هذا المقطع لأنني مثله ابن الحروب وابن الهروب. ولكن ربما لم يخطر ببال أحد أن يذكر بأن الحب ممكن في الحرب، والحرب تشتعل أوارها عند الحب. مشاعر معقدة تجمع بين الحب والحرب، ويعكس التوتر الداخلي والصراع الذي يعيشه الشاعر. قوة جبارة تؤدي الى صراع داخلي ينجم عنه ترك البلاد بلاد الحروب وهي أي الحروب فيها عبثية بدون معنى مما يعكس تعقيدات الحياة الإنسانية بصورة عامة والشاعر بصورة خاصة.

ختاما أقول إن الديوان يجب أن يقرأ في جلسة واحدة، دون توقف، ودون ضوضاء وأن تكون الحواس يقظة فأنت في رحلة استثنائية مع الشاعر فارس مطر.

شكرا شقيقي فارس على الهدية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *