خلال متابعاتي لأحدى جلسات الفصل العشائري عن طريق الفديوات المنشورة على اليوتيوب ، استوقفني شيء غريب يحدث لأول مرة لم أسمع به من قبل ، عندما أشترط شيخ عشيرة المجني عليه في قبول الفصل العشائري الذي تجاوز المئتين مليون دينار من عشيرة الجاني أن لا يتم السماح لعشيرة الجاني بتوكيل محامي في المحاكم القضائية للدفاع عن الجاني . أي أن القانون الذي كفل حق الدفاع عن المتهم أو الجاني أصبح تحت إمرة الشيخ ، وبذلك يكون القضاء قد أصبح سلطة بلا سلطة ، فالقانون اليوم هو ما يقرره شيخ العشيرة وليس القضاء . فمن الأولى للدوائر التعليمية أن تلغى كلية الحقوق والقانون ويتم تعويضها بالبديل ( كلية النزاعات العشائر ) الخريج منها يحمل بكلوريوس ( طلايب ) أو مشاكل عشائرية ، وعندما تكون للدولة قضايا قانونية دولية فستواجهها بوفد عشائري ومعهم طبعاً سيد معمم والبيارق والمهاويل ، كلامي هذا ليس سخرية من العشائر بل سخرية من الدولة و سخرية من الواقع الجديد . . من الخطأ تحميل العشائر وشيوخ العشائر مسؤولية ترنح القانون القضائي ، فالعشائرية موجودة ومتوارثة منذ مئات السنين وبنفس التركيبة فهي لم تدعي بإنها أصبحت لها قوانين مدنية حضارية عصرية ، ولم تدعي بإنها ستراعي حقوق الإنسان على الطريقة التي سنتها المنظمات الدولية ، إنما اللوم يصب على العوامل التي أدت إلى إحياء هذه الفعالية المجتمعية التي كادت أن تختفي مع ظهور الدولة المدنية الحديثة ، ومن أهم عوامل إحياء العشائرية هو غياب الدولة وفساد الدولة وضعف الدولة . السلطة العشائرية كما هو معروف لنا كانت مرحلة من مراحل التأريخ القديم فهي لم تكن وليدة اليوم ، ولمن لا يعلم كانت هي الاساس الذي بنيت عليها السلطة الإقطاعية والسلطة الإقطاعية كما نعرف جميعاً هي الفترة الزمنية السيئة الصيت التي انبثقت منها العبودية ، فلا يمكن أن تتعايش العشائرية مع الدولة المدنية كما لا يمكن تعايش العبودية مع الحرية ، وظهورها من جديد هي علامة من علامات ضمور الدولة وانحطاط عقول الناس ، مفهوم الدولة هو السلطة والقانون فلا توجد دولة بدون قانون ولا قانون بدون سلطة ، فإذا بسطت العشائرية نفوذها على القانون فهذا يعني بأن الدولة اصبحت لا دولة . هل نتخيل بأن أحزاباً سياسية جاءت بعد 2003 م تحمل ايدلوجيات ماضيوية قد تأتينا بشيء أفضل من العشائرية ؟ وهل نتخيل بأن أحزاباً سياسية فاسدة تفكر أن تحتمي بدولة لها قانون ؟ لا الدولة ولا المجاميع المسلحة ولا السلطة الدينية تضمن حماية الأحزاب السياسية الفاسدة ، و هم يدركون ذلك تماماً ، ولكن القوة والسلطة العشائرية تحميهم وتصونهم وتقويهم لأن العشائرية إنتماء و صلة رحم و وحدة دم ، فالعشيرة لا تتخلى عن ابناءها . هذه هي الزاوية الصحيحة التي يجب أن نرى فيها الواقع القانوني والاجتماعي والسياسي للبلد . العشائرية قوة ثابتة وراسخة والاعتماد عليها قد يكون ملاذاً آمناً للفاسدين لكن شيوخ العشائر سوف لا يكتفون أن يكونوا مجرد قوة حماية لعناصر الدولة وأحزابها ، فهم يطمحون أيضاً بأن تتقدم سلطتهم على سلطة الدولة التي فقدت مصداقيتها وتنتظر طلقة الرحمة ، وهذا ما حصل فعلاً ، فالسلطة الحقيقية اليوم هي سلطة العشائر وسلطة رجال الدين والدولة مجرد دمية . فبعض العشائر اليوم أصبحت كيانات قائمة بموازاة الدولة من حيث التسليح والعدة والعدد والمال والتأثير على الواقع ، حتى بعض العشائر أصبحت لها حدود جغرافية في مسقط رأسها ولها منصات إعلامية وأناشيد ثورية حتى بعض الشيوخ أصبحت لهم نصب وتماثيل في مداخل ومخارج مراكز تواجدهم في المدن والأرياف . فقد سمعت أن بعض الشيوخ لهم ناطق رسمي باسمائهم ولهم شعراء ولهم مقاتلين أشداء وقريباً سيكون لهم محطات فضائية . جميع المواطنون يشعرون بأن العشيرة أصبحت ملاذهم الآمن مع ضعف الدولة ، فالمواطن الذي لا تحميه العشيرة فهو مواطن بلا وطن وبلا حقوق وقد يكون ضحية لأية مشكلة تعترض حياته ، والغريب في الأمر حتى مسؤولي الدولة عندما يريدون مقاضاة شخص ما فأن مقاضاته تكون عشائرياً أولاً ثم القضاء ، فالقضاء أصبح مجرد مكمل غذائي لسلطة العشيرة .