عندما تقرع طبول اليأس فتتراقص الأزمنة الشاحبة فوق نعش القلوب المتحجرة ،وتتعثر الخطوات على أرض تميد ودروب تتصدع، وصخور الوجد تتفلق عن ألف سؤال يحوم حول المستحيل ، تطحنها رحى الأحداث وتذرها وجعا خلف المدى، تبحث” وحيدة” وسط كون الأشياء الجميلة فيه مستحيلة ، حاولت أن تفهم هذا الكون حولها لكن كان كل مبرر تضعه تجد السؤال يزيد غموضا وتعقيدا حتى في أبسط صياغته، يسحبها إلى أراضي المستحيل ويحرضها على السباحة في عوالم مبهمة وهي وحيدة تطحن بذور الخيبة التي علقت بسيرتها وروحها، وتذرها رياح اليأس لمخطط لم تكن جزء منه في يوم من الأيام ، نظرت ” وحيدة ” طويلا إلى وجه المرأة التي ربتها ،إطلالة وجهها تحمل أسئلة لا جواب لها في مجتمع لا يرحم ، سعادة طفولية زائفة مؤقتة عاشتها وهي تحمل بداخلها خوفها من المجهول، أخبرتها متبنيتها وهي لا تزال في سن صغيرة بالحقيقة ، هي ليست أمها الحقيقية ، أمها كانت ضحية زوج منحرف وأسرة مفككة ومجتمع قاسي ، دخل زوجها وشقيقه السجن بتهمة القتل مع سبق الإصرار، ووجدت أمها وزوجة عمها وأولادهم كلهم وعماتهم جميعا بدون أي مصدر للقوت ، ولا سبيل لدفع أيجار البيت ، كانوا من النازحين حديثا من الريف إلى المدينة، لم تجد حماتهم من حيلة إلا استغلال سذاجتهن وغفلتهن عن شؤون المدينة للمتاجرة بأجساد الفتيات الغضة لإعالة هذا العدد الكبير، إنهن بعيدات عن الأهل ، ومجتمعهن يرفض عودة الفتاة بأولادها إليهم ، وقعت أم وحيدة فيما لم تكن تحسب له حسابه ، حملت من أحدهم ، وبحثت عن من تعطيه مولودها، حتي تعرّفت على سيدة لطيفة وطيبة بالصدفة وارتاحت لها ، ثم أخبرتها أن زوجها لا ينجب وهي لا تستطيع أن تتركه بعد عشرة عمر طويلة ، اقترحت أن تعطيها المولود ذكرا كان أو أنثى ، بعد الموافقة أخبرت زوجها أنها ستجلب طفلا تقوم بتربيته ، سألها زوجها من أين ستأتي به فأخبرته أنه ابن خطيئة ، وستتستر على الأم والعائلة ، أصغت وحيدة لحديث متبنيتها صالحة بمرارة شديدة ولكلامها الذي أصابها كالوجع الذي يحل بالجسد ، إنها معاناة شديدة تضيق بها الروح ، وجدت نفسها مضطرة تمشي دربا وتصبر على ألم أشواك لم تغرسها وعلى آلام أخرى لم يكن لها دخل فيها ، عليها أن تتحمّلها وتتقبلها كصديق ورفيق لصيق كاللازمة المتلازمة، فقد اختارت لها المقادير أن تكون واحدة من أبناء الخطيئة لما تواطأت الضحية من الآثم والظروف لتكون هي البذرة المنبوذة في المجتمع، ذرفت صالحة دمعا حارا أحرق مقلتيها حزنا على الفتاة التي ربتها التي ليس عليها أي ذنب فيما تتألم بسببه ، ولكن وحيدة أرادت أن تهوّن عليها الأمر بأن وجودها في أسرة محترمة كانت هي السبب في انفصالها عن زوجها ،أخبرتها صالحة أنها كانت تعلم منذ البداية أن عائلة زوجها المحافظة سترفض الطفلة غير مبالين بها ، وأنه من أجلها خرجت للعمل في تنظيف البيوت والمدارس،، وتحمّلت الإهانة فوق إهانة حتى يشتد عودها ، تعلم وحيدة أنها تحصد وحدها نتائج أخطاء من لن تسامحهم، ولذا تخشى مواصلة السير نحو مستقبل مجهول بلا هوية حقيقية ، وفي نفس الوقت تملكها شعور بالشفقة على المرأة التي ربتها وضحت بسمعتها من أجلها في حين كان يمكن أن تحافظ صالحة على زوجها وبيتها ، صارحتها أن شقيق زوجها كان يبيت النية لتطليقها مسبقا اعتقادا بأنها السبب في عدم الانجاب وتزويج أخيه بفتاة أخرى من عائلة زوجته، إنه النصيب المسطر ، وهكذا يتم تقييم الفعل وفقا لشخصية الفاعل ، علت ابتسامة نادرة خفيفة وجه وحيدة وبدت أقرب إلى السخرية ممن لم يخجل بعار فعلته وزج به في السجن مجرما بتهمة القتل العمدي ، وقد كان لا يتردد أن يكيل التهم بالباطل على من تعمل لتعيل أطفالها ، هذا هو حال جان من المجتمع الذي فيه وراء كل جريمة رجل حين لا يكون عيبا أي جرم يرتكبه أو حرام يقوم به، أما المرأة فأي حركة تقوم بها فهي جرم ، إذن إنها حالة لا يدرك خطورتها إلا المتعاطفين معها ، ولا يتلظى بحرارة نارها إلا من يقع في شباكها ، وتبقى الطفولة البريئة هي الضحية وهي من تدفع ثمن استهتار الآخرين بالعواقب ، فتتغير الملامح ويختفي الجمال الطفولي. أمتنت وحيدة كثيرا لفضل مربيتها صالحة عليها ، لم تحرمها شيئا من حقوقها حتى أدخلتها الجامعة ، حينها واجهت فيها حرج الاسم الناقص من اللقب العائلي وتعرضت للتنمر حتى من أقرب الصديقات ، ونظرات النقص في عيون الأساتذة، من أجل كل هذا عقدت العزم أن تعمل من أجل حبيبتها مربيتها ، إنه مسار قد يبدو مظلما ولا يعلم عواقبه إلا الله ولكن عليها أن تسلكه، ، لم تعد وحيدة تلك الطفلة الحالمة التي ترتدي ملابس صدقات المحسنين ، أو تلك الفتاة المتعبة التي تنام وتسند رأسها على كتبها الممزقة القديمة التي تحصل عليها أمها من أبناء معارفها والجيران ، ستبدأ العمل حتى تعتق أمها من ذلك البيت البائس الذي يستغل مالكه جهد صالحة في خدمة زوجته الجميلة مقابل الروايات الجميلة باللغة الأجنبية التي تحضرها لأبنتها وحيدة التي كانت تعشق قراءتها . وعلى حافة الوقت الهادر كنهر صامت تمضي وحيدة إلى المجهول البعيد خائفة ، أنها على مشارف العشرين من عمرها، هل يمكنها أن تجد لنفسها غدا عملا وسط مجتمع ينهش بعضه لحم الساذجات بشراسة ثم لا يبالي، احتضنتها أمها صالحة وهي تهدئ روعها أنه مهما كان الآخرون يتربصون بأحلامك، ومهما شحذوا سكاكينهم وأظهروا أحقادهم ، ومهما زرعوا الطريق شوكا، فإن الطفلة التي تنام بداخلك قد كبرت أظافرها ، وقد آن الأوان أن تشحذ سيوفها لتدافع عن كيانها ووجودها، وأن لا تسمح لأحد أن يملأ وقتها بقبح أرائه وعفن أفكاره ،
مضت الأيام سريعة وبدأت عملها مندوبة مبيعات لمنتجات إحدى الشركات الأجنبية الكبيرة بفضل إجادتها للغات الأجنبية ، لم تكن مرتاحة بعد تسليم ملفها ، لاحقتها نظرات من حولها المثيرة للشكوك، والعيون يقفز منها خبث الشياطين ، وكلما ضاقت تذكرت حديث أمها صالحة فتزيدها شجاعة على المواصلة وحماسة على الاستمرار. لقد هرمت والدتها صالحة وضعفت قواها بعدما ضحت من أجلها بالكثير، وباعت الدنيا وما فيها لتربيها في أفضل حال ولتنشئتها في وضع جيد مهما حكمت عليها الظروف. ذات صباح ارتدت وحيدة أجمل ملابسها وقد ظنته صباحا ليس مثل الصباحيات الكئيبة السابقة ، لقد حققت نجاحا لافتا للشركة وقيل لها أن تنتظر مكافأة مالية كبيرة ، تهيأت لإسعاد والدتها ، والمفاجأة أن تم الإعلان عن نسب النجاح إلى عاملة أخرى هي زوجة مدير الشركة ، انزوت وحيدة بعيدا وعيون المدير تلاحقها ، يتأملها ، يرسم تفاصيلها ، تنهش نظراته جسدها الممشوق حتى وإن كان لا يعنيه إنه يحمل في اعتقاده وصمة الماضي ، أعلن المدير إقامة حفل كبير بالمناسبة في اليوم التالي وطلب من وحيدة أن تكون مشرفة عليه وأن تتعامل مع الضيوف الأجانب، لم تشعر وحيدة بالارتياح ولكن تجاهلت وساوسها واعتبرتها مجرد هواجس لابد من التخلص منها وأن عليها أن تتريث في أحكامها وأفكارها لتحسن التدبير والتصرف فربما تغيرت أفكار بعض الناس وخاصة أصحاب المناصب الكبيرة، فالقيل والقال منسوب دائما للطبقة المتواضعة والبسيطة . في مساء نفس اليوم انتبهت وحيدة على صوت أنين صادر من غرفة والدتها ، كانت تقبض بشدة على صدرها من الألم ، لم تكن المرة الأولى ولكنها أقوى بكثير من المرات السابقة ، لم يكن لوحيدة المال الكافي للفحوص والعلاج والعملية الجراحية بعدما تبين أنها تعاني من أزمة قلبية ، العلاج في المستشفى الحكومي سيتطلب الانتظار لفترة طويلة ، تذكرت المكافأة المالية التي كانت تنتظرها يمكن أن تحل مشكلتها وتخرج أمها من أزمتها الصحية ، توجهت إلى الصيدلية لإحضار دواء مسكن وهي تحمل بأفكارها أول إغفاءاتها وتلك اللمسات الناعمة الني كانت تهدهد شعرها، ، لقد تركت والدتها وراءها بالمنزل منحسرة على أنها دخلت معها مستنقع الحياة الذي لا يرحم من أجل أن تلبسها السعادة وتكسبها الشجاعة التي تمحي بها كل بغيض ، وزرعت في نفسها أفكارا هي رصيدها للقادم ، ، وصادفت في غمرة انشغالها وسرعة خطواتها صاحب البيت في مواجهتها يحاول أن يتحرش بها دون مقدمات ، عابت عليه وذكرته أنها في سن ابنته وأنهم يدفعون له الايجار بانتظام فلا داعي لهذه التصرفات الصبيانية ، صرخ فيها وأطلق القذر العنان لينهال عليها بأبشع الشتائم والأوصاف، ونهاها عن التشبه بابنته فلا مجال للمقارنة بين بناته وبنات الحرام ،وأنه ليس لهم مكانا وسط مجتمع له أصوله وعاداته ، غادرت وحيدة المكان خائفة وعادت إلى البيت دون أن تحصل على الدواء لوالدتها ، وبررت ذلك بأنها وجدت الصيدلية مغلقة ،ولم تستطع الذهاب إلى ما هو أبعد لأن الشوارع خالية ومظلمة ، أعدت وحيدة مشروبا ساخنا من بعض الأعشاب المهدئة ارتاحت عليها والدتها ، وفي الصباح اشترت وحيدة الدواء ، ثم توجهت لاستشارة الطبيب الذي استعجل إجراء العملية في أسرع وقت قبل أن تصاب عضلة القلب بالدمار الشامل، زاد قلق وحيدة أكثر على أمها فليس لها أحد آخر في هذه الدنيا سواها ، ستفعل المستحيل من أجلها ، ربما كانت المكافآت ستحل مشكلة تقديم الدفعة الأولى للمستشفى، أسرعت إلى العمل وقد بدا أنها تأخرت عن الحفل ، ولكنها لم تجد أي مظاهر للحفل بل وجدت صاحب الشركة بمفرده ينتظرها، تجاهل انشغالها ، فعرفت أنها دخلت شبكة العنكبوت ، لم يعبأ بتوسلاتها وأنه يخطئ الظن بها فهي ليست من النساء اللائي يبعن أجسادهن ، قهقه طويلا وتساءل بخبث عن أمها التي باعت جسدها ، ثم طلب منها ألا تخاف فلا أحد يمكنه أن يلومها أ ويسأل عن ما تعمل ، الشرف لا ينفع من لا أصل لهم، وألح عليها أن لا تكترث لأمر الأخرين لأنها لا تعني لهم شيء، رفضت بشدة ، فلاحقها وهمّ بالاعتداء عليها بالقوة ، أبصرت قضيب الستائر موضوع جانبا معد للتعليق فضربته به ضربة أوقعته في الأرض، فتشت جيوبه تبحث عن المكافأة ، وجدت مبلغا كبيرا فأخذته ، تذكرت وهي تهم بالخروج ما قرأته في الروايات التي كانت تقرأها ، فمن الممكن أن تقبض عليها الشرطة بتهمة يلفقها لها المدير فلجأت إلى حيلة قبل أن يفيق وهي أن تجرده من كل ملابسه وقامت بتصويره عاريا في مكتبه ، ثم غادرت مسرعة .
في اليوم التالي جن جنون الرجل واتصل بها يأمرها بالحضور إلى الشركة، فبادرته بأنها قدمت استقالتها ، توعدها بأنه لن يتركها في حالها ، تمكنت أن تجر لوالدتها العملية الأولى وخفّ الألم عليها ، وبقيت العملية الثانية التي يجب أن تجريها بعد مرور سنة على الأولى ، بدأت وحيدة تشعر أن الدنيا تضيق عليها أكثر ، وجدت عملا آخر لا يتطلب تقديم ملف تفصيلي عن المتقدم له فرضيت به على الفور، كانت تعود لبيتها كل مساء فتدون على الكمبيوتر مذكراتها اليومية التي تحمل أقصر درجات الاستنكارفي بحث الكثيرين عن الرذيلة، وتتساءل عن سبب سعي بعضهم لإسقاط الأنثى ذلك المسقط الجنسي المعيب للمجتمع الذي يعشعش في دخيلته البحث عن اللذة في الحرام ، كتبت كثيرا لتفرغ مظاهر المعاكسات والمتناقضات في مجتمع تكاد تعمه الفوضى ، المخدرات في الشوارع، اطفال صغار هجروا المدارس لبيع الحبوب المهلوسة، مطاردات الشرطة لا تنتهي، أمهات يقمن بصبغ شعور صغارهن بألوان قوس قزح وتستعرضنهم لممارسة الجنس دون الخوف من احتمال أن تكون هناك فضيحة الحمل، أمهات يبعن ضمائرهن من أجل الحصول على ما يشاهدنه في مواقع التواصل من أبهة زائفة ومتع زائلة ، الجميع يبيع كل شيء ، لا يهم كيف أو متي أو بكم المهم ” المال” ولا تعني هنا كلمة الشرف لهم شيئا ، أنهم أصحاب ضمائر نائمة وأكثرها ميتة ، يعبثون بمستقبل أبنائهم وبنات غيرهم ، المهم تحقيق المكسب المالي الذي يتحصلون عليه في الظروف الصعبة. كانت وحيدة تفرغ كتابتها باللغة الأجنبية في موقع أوروبي ، دأبت على الكتابة كل ليلة بعد عودتها من العمل كانت سعيدة بالأمر رغم تعاستها طوال اليوم بسبب ما تلقاه من مضايقات وتحرشات.. ومساومات، إنه مرض استفحل حتى استحال أن يفيد معه العلاج. تتذكر وحيدة يوم أبلغتها احدى الموظفات أن المدير يريدها وأردفت “أنه برفقة مدير شركة للأدوية وتناهي إلى سمعي أسمك، وكان الحديث يدور حولك .. ” بادرها المدير فور دخولها مكتبه بالسؤال عن ملفها الإداري الذي لم تودعه بعد ، تعللت بانه لم يسألها عليه أحد ، تأملها بنظرات استهزاء وتوجه إليها بكلمات يقصد أحراجها وتجريحها أن مثلها لا يهم وضعه ، فالأمر واضح، عرفت إلى أين يريد أن يقود الحديث ، تشجعت وتجاهلت الموضوع ، وأرادت استيضاح الأمر ، فكان أن طلب منها المجيء إلى العنوان المكتوب في ورقة سلمها لها للمشاركة في موعد مهم مع أحد العملاء ، وجدت وحيدة نفسها تحارب في معركة خاسرة، إنها تواجه حملة تكالب كل الكلاب المشردة في صورة أخرى ببدل محترمة ، لم يبق الأمر إذن محصورا في الطبقة المتوسطة والبسيطة أو الفقيرة ، لقد اصبح الجميع يتباهى بالآثام في العلن ، لا فائدة من الركض في نفس المكان ، إنه نفس السيناريو يتكرر معها وليس هناك من يسند ظهرها ، عبثا تبحث عن ما قرأته في الكتب ، المشاعر النبيلة ، والمواقف الشريفة ، الأخلاق الحسنة … إنه صراعها الدائم مع الحياة التي تحياها ولا تعيشها، ضاعت أهدافها التي طالما حلمت بها رفقة أمها صالحة ، صارت الحياة بالنسبة لها فوهة فرن كبير ينصهر فيه جسدها وأحلامها وأفكارها ، أتعبتها ضغوط البشر، فكتبتهم ووصمتهم بكل تفاصيل الرذيلة فيهم، لم يعد يهمها ما يقولون عنها فما دام الإنسان لا يريد أن يتخلص من أسر شهوته العابرة ، فضّلت أن تسير قليلا حتى يحين موعدها المقرر الذي تراه مقززا ، تعلم جيدا أن الأفاعي تلاحقها أينما وجدت ، وأنها منبوذة في المجتمع، لذلك سئمت أقاويل الناس ، وضاقت بأشكالهم المقيتة ، انتبهت على وصول رسالة على هاتفها ، إنه صاحب دار نشر بالعاصمة الفرنسية باريس، يدعوها إلى حضور التوقيع على طباعة ونشر كتابها بعد أن حققت كتاباتها عدد مشاهدات وقراءات قياسية ، وأنه يمكنها أن تحصل على التأشيرة وتذكرة السفر من مقر السفارة الفرنسية ، لم تصدق وحيدة نص الرسالة المفاجئة وكأنها في حلم تخشى أن تستفيق منه ، لقد جاءتها الرسالة في وقتها بالضبط ، أسرعت إلى بيتها وأخبرت أمها فاستبشرت ونصحتها بالسفر وطالبتها بتحقيق ما كانت تطمح إليه وأن لا تدع أحد يستغلها مهما كان، اعترفت لها وحيدة أن نجاحها كان بفضلها ، والكتابات التي كانت بتوقيع الفتاة الغامضة التي تعيش في الزوايا العتمة قد آن الأوان أن ترى النور ، لقد تغير موعد المساء ، وتغير مساره، ستذهب لاستلام التأشيرة لها ولأمها وستشتري لها تذكرة السفر معها فما أصبح لهما بقاء وليس لهما متكأ سوى جدران مهترئة، وليس لهما من نصير ، إلى متي يبقين مرتجفات ، خائفات ، يعانين برد الحياة وجوعها وسياطها وقوانينها ، الحب هنا لا يساوي بين الجميع ، أنهما تدفعان ثمن خطأ لم ترتكبنه .
أخبرت وحيد ة الشركة أنها لن لا تستطيع أن تحضر مساء بزعم أن والدتها مريضة ، وعليها أن تأخذها للطبيب ، وربما في غضون اسبوع تعود للعمل ، كانت وحيدة قد أنهت خلال هذه الفترة كل أمورها ولم تخبر أحدا حتى صاحب البيت . وفي صباح شتوي بارد توقفت سيارة في ساعة مبكرة أمام منزلها ونقلت الحقائب بكل هدوء دون أن تثير انتباه الجيران ، انطلقت السيارة إلى المطار، وقبل السفر اتصلت وحيدة بصاحب البيت تخبره بمغادرة المنزل وان أجرة البيت داخل مظروف في صندوق بريده ، حينها أحست وحيد براحة نادرة فلقد أتمت المهمة بنجاح .
وصلتا باريس واتجهتا إلى الفندق المقرر ثم عقدت لقاء مع صاحب دار النشر ووقعت عقدها ونالت حقوقها المالية وأخبرته أنه ستقيم في فرنسا إلى الأبد فسره ما سمع وساعدها على إيجاد مسكن ومنصب عمل ، والأهم أنه لم يسألها عن أصلها و فصلها ، ما كان يهمه هو انتاجها ، شعرت لأول مرة بأن كيانها غير مرتبط باسمها ، ولم تجد من يساومها لأنها مجهولة النسب . ظل مدير الشركة مصدوما بمجرد علمه بخبر سفرها إلى ” وجهة غير معلومة ” وكانت الصدمة الكبرى عندما بثت مختلف القنوات الفضائية والصحف الأجنبية خبر نجاحها وانتشار كتابها ، لقد حققت ما تريده بدون مساومات ، حافظت على عزتها وشرفها بعيدا عن كل من أراد استغلالها بعبارات مبتذلة سئمت سماعها كأسطوانات أصابها الشرخ وظلت تتردد دون أي معنى ، إنها تولد من جديد على أرض جديدة.. وبعيدة ، لا تحمل أي هوية بين أوراقها ، تحمل دينها وأمها ومسقط رأسها ، ستكون المرأة الناضجة التي يمكنها أن تصمد .
أثناء سيرهما في شارع “ساندوني ” الباريسي الطويل تأملت صالحة وجها ابنتها وحيدة فرأت ما لم تكن تراه من قبل ،رأت بريقا جذابا وتألقا جميلا في عينيها ولمحت مسحة فرح حقيقية على وجهها، احتضنت وحيدة يدي أمها صالحة وهي تعترف أنه أخيرا وجدت ملاذها وملجأها الدائم الذي ينسيها هموم طفولتها المجروحة ، أنها مع والدتها في عاصمة الجن والملائكة ، ربما سيكتب لهما أن تكونا بجانب الملائكة ، لا يريدان العيش بين وجوه أنذال ترسم الشرف ويمزقون أثواب الشرف ويمزقون معه الأمنيات ، ويحيلون الابتسامات الدافئة إلى صقيع ، هنا يجدن حرية الاختيار ، لا مساومات من أجل لقمة العيش، ولا إساءات لأحد كونه ابن خطيئة ، ، عبرت الأم صالحة عن عميق مشاعرها بسعادتها إلى جانب ابنتها ،حيث تذيب نظرة واحدة منها كل مشاكل الدنيا وضنكها ، الانسان عظيم بمواقفه تجاه الآخرين مهما كان عرقه أو جنسه أو دينه دون تهميش، المرء يقاس بفكره وعطاءه وعمله وأخلاقه ، تشعر الأم من فرط سعادتها أنها تود أن تغني وترقص مع المطر، وتودع ذلك الماضي التعيس الذي لاحقهما طويلا ، ستتأنقا لأيامهما القادمة دون أن تلتفتا خلفهما .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ