في قلب الشرق الأوسط المضطرب، حيث تتصارع المصالح الإقليمية والدولية، يبرز الكورد كـ”رقم صعب” في معادلة المنطقة. برغم عدم امتلاكهم دولة موحدة، إلا أنهم يحفرون مكانتهم عبر تاريخ طويل من النضال، وقدرة فريدة على التأثير في الأحداث الجيوسياسية. اليوم، لم يعد الحديث عن القضية الكوردية مجرد قصة مأساوية لشعب مُهمَّش، بل تحوّل إلى سردية مقاومة ووعي قومي متصاعد، يُعيد تعريف دور الكورد كفاعل رئيسي في تشكيل مستقبل المنطقة.
جذور التاريخ: من التهميش إلى المطالبة بالهوية
يعيش الكورد، الذين يُقدّر عددهم بأكثر من 40 مليون نسمة، موزعين بين أربع دول (تركيا، إيران، العراق، سوريا)، في واحدة من أطول معضلات القرن العشرين والواحد والعشرين: الشعب بلا دولة. يعود تاريخهم الحديث إلى اتفاقية سايكس-بيكو (1916)، التي قسمت المنطقة العربية بين القوى الاستعمارية، متجاهلةً حقوق الكورد في إقامة كيان خاص بهم وفق وعود معاهدة سيفر (1920). لكن معاهدة لوزان (1923) أجهضت الحلم الكوردي، لتبدأ حقبة من القمع المنظم لهويتهم الثقافية والسياسية في الدول الأربع.
لكن الكورد لم يستسلموا. تحوّل نضالهم من ثورات مسلحة (كثورة الشيخ سعيد بيران في تركيا 1925، وانتفاضات بارزان في العراق) إلى حركات سياسية منظمة، مثل الحزب الديمقراطي الكوردستاني في العراق وحزب العمال الكوردستاني في تركيا، وصولًا إلى تجربة الإدارة الذاتية في روج آفا بسوريا بعد 2011. هذه المسارات تعكس تطورًا في الوعي القومي، من المطالبة بالحقوق الثقافية إلى السعي للحكم الذاتي أو الفيدرالية.
الكورد في المعادلة الجيوسياسية: من أدوات إلى شركاء
لعبت الجغرافيا الكوردية دورًا محوريًا في جعلهم لاعبًا إقليميًا لا يُستهان به:
1. العراق: بعد سقوط نظام صدام حسين (2003)، أصبح إقليم كوردستان العراق كيانًا شبه مستقل، يجمع بين مؤسسات حكم ديمقراطية نسبيًا واقتصاد يعتمد على النفط. رغم الخلافات الداخلية بين الأحزاب الكوردية، إلا أن الإقليم تحوّل إلى حليف استراتيجي للغرب في مواجهة تنظيم داعش، ما عزّز شرعيته الدولية.
2. سوريا: مع اندلاع الحرب الأهلية السورية، نجح الكورد في السيطرة على مناطق واسعة شمال شرق سوريا، وأسسوا نموذج “الإدارة الذاتية الديمقراطية”، الذي لفت الأنظار بدوره في محاربة داعش وإدماج المرأة في الحياة السياسية والعسكرية.
3. تركيا وإيران: هنا يختلف السياق. ففي تركيا، يتصاعد الصراع بين الدولة وحزب العمال الكوردستاني، بينما في إيران، تظل المطالب الكوردية جزءًا من حراك أوسع للإثنيات المضطهدة.
هذه الأدوار جعلت الكورد طرفًا لا يُتجاوز في مفاوضات السلام، ومحورًا لأمن الطاقة (خاصة في العراق)، وحاجزًا ضد التطرف الإسلامي.
تحديات الوعي القومي: بين الفرص والعقبات
رغم التقدم، يواجه المشروع القومي الكوردي تحديات داخلية وخارجية:
• التشرذم الداخلي: الانقسامات الحزبية (كالصراع التاريخي بين البارزاني والطالباني في العراق) تُضعف الوحدة، وتجعل الكورد أحيانًا خصومًا لأنفسهم قبل خصومهم.
• الضغوط الإقليمية: تُعارض دول الجوار (خاصة تركيا وإيران) أي شكل من أشكال الحكم الذاتي الكوردي، خشية تأثير ذلك على أقلياتها الكوردية.
• الاعتماد على الخارج: ارتباط مصير الكورد بدعم دول مثل الولايات المتحدة (في سوريا والعراق) يعرّضهم لخطر التخلي عنهم، كما حدث مع تركيا للقوات الكوردية في عفرين 2018.
لكن في المقابل، تظهر فرص جديدة لتعزيز الوعي القومي:
• الشباب والثقافة: جيل جديد من الكورد، متصل بالعالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يُعيد إحياء اللغة الكوردية والفنون كأدوات لهوية منفصلة.
• الدبلوماسية الناعمة: نجاح الكورد في كسب تعاطف الرأي العام العالمي عبر مشاركتهم في محاربة الإرهاب، ونموذجهم الديمقراطي النسبي في روج آفا.
نحو مستقبل واعد: كيف يُمكن تعزيز المشروع القومي؟
لتحقيق طموحاتهم، يحتاج الكورد إلى:
1. توحيد الصفوف: تجاوز الخلافات الحزبية، وبناء استراتيجية موحدة تعبر عن مصالح جميع الشرائح الكوردية.
2. الاستثمار في التعليم: دمج التاريخ الكوردي واللغة في المناهج الدراسية في المناطق الكوردية لتعزيز الانتماء.
3. تحالف إقليمي ذكي: بناء تحالفات مع قوى إقليمية ودولية دون التفريط بالثوابت القومية.
4. الاعتماد على الذات: تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط، لضمان استقلالية القرار.
ختاما ،
الكورد… رقْمٌ لا يُحسب إلاّ بِخَطٍّ عريض في خارطة التوازنات السياسة في الشرق الأوسط.
أزاد خليل
كاتب وباحث سياسي