هنا آذار.. أهوار الحمّار ملاذ المقاومة وأسطورة الجهاد- عباس سرحان

 

 

الثاني من آذار 1991، وسط أهوار الحمّار، في جنوب العراق، تلتقي السماء بأطراف القصب والبردي، وتتنفس الأرض حكايات سومرية قديمة، وتستعد لكتابة فصل جديد من فصول الكفاح. الأهوار، بمساحاتها المائية الواسعة ونباتاتها الكثيفة، كانت دائمًا ملاذًا لمقاومين وقفوا بوجه الظلم والاستبداد.

هنا، تختلط رائحة الطين والماء برائحة التاريخ العتيق. يجتمع مجاهدون يخططون لحدث يراد من خلاله إنقاذ العراق من سطوة الظلم والطغيان.

في قلب هور العكر، وسط هور الحمّار الكبير، تقع جزر صغيرة عديدة تُسمى الواحدة منها “التهله”، محاطة بمياه هادئة وقصب كثيف يلامس السماء.

على هذه الجزيرة، شُيّد كوخ متواضع من القصب والبردي، بدا كجزء من محيطه، بجانبه عدة زوارق مختلفة الأحجام والاستخدامات، بعضها يطلق عليه المحليون “شختورة” وبعض آخر يسمونه “مشحوف” تُستخدم للتنقل السريع بين الأهوار.

الكوخ مبني بطريقة تقليدية اعتاد عليها سكان الأهوار القدامى في بناء مساكنهم. جدرانه من القصب، وسقفه من البردي المُدعّم بالقصب. لكنه مغطى بالنايلون اتقاء الأمطار التي تهطل فجأة في فصلي الشتاء والربيع.

حول الكوخ أدوات صيد بسيطة، وفي داخله، اجتمع عدة رجالٍ يعلوهم الإصرار، وتكشف ملامحهم عن شيءٍ من التعب وكأنهم ينوءون بحملٍ ثقيل.

جلسوا صامتين يتبادلون نظرات معبّرة، وكأنهم يتواصلون دون كلمات، فيفهم أحدهم الآخر قبل أن ينطق لكثرة ما عملوا معًا، فجمعتهم أهداف مشتركة وخطى واثقة نحو هدف كبير.

في زاوية الكوخ يوجد مصحف شريف وسجادات صلاة وكتاب “مفاتيح الجنان”، وخريطة قديمة مرسومة يدويًا، توضح طرق التنقل بين الأهوار والمدن القريبة.

هواء آذار البارد خارج الكوخ يلفح نباتات البردي المشبع برائحة الطين والماء، فتتراقص محدثةً أصواتًا تملأ المكان وحشة وعُزلة يقطعها صوت حزين لطائر البرهان.

هذا المكان المنعزل والبسيط، مركز للتخطيط والمقاومة، يجتمع فيه رجال على أضواء فانوس نفطي يتبادلون الأخبار ويضعون الخطط.

“لقد حان الوقت” قال أبو حيدر، بصوت هادئ يحمل قوة وصلابة، بينما كانت أضواء الفانوس النفطي تلقي بظلالها المتراقصة على جدران الكوخ.

نظر أبو جاسم إلى أبو حيدر بعينين مفعمتين بالحزم، ثم أضاف: “نعم، يجب أن نبدأ من البصرة. المدينة جاهزة للانتفاضة، والشعب معنا.” كانت عيونه تلمع بتصميم لا يقل قوة عن نبرة صوته، فيشيع الأمل والحماس بين الرجال المتجمعين حوله.

أبو مجاهد: “سنعمل يدًا بيد، لنحرر مدننا ونحقق العدالة.”

تبدأ الخطة بالتشكل. يضعونها أمامهم، ويحددون نقاط التجمع. يعرفون أن الطريق لن يكون سهلاً، لكنهم مستعدون للتضحية بكل شيء لإنقاذ الناس من التمييز والظلم الذي تمارسه السلطة.

تجمع هؤلاء الرجال أول مرة في منتصف الثمانينات. تواروا عن أنظار السلطة في أعماق هور الحمّار رافضين تسلّط صدام وتفرّده بالسلطة ومحتجين على إدخاله العراق في حرب يرون انها غير مبررة.

أبو حيدر، رجل بصري في الخمسينات من عمره، بنيته الجسدية قوية وملامحه هادئة، لكنها جادة، تضفي عليه لحيته القصيرة وعيونه الحادة مظهرًا من الحكمة والتصميم.

يقود مجموعة من المجاهدين في الأهوار وبعض الخلايا السرية في المدن. عندما يتحدث، يصمت من في الكوخ ويستمعون له بانتباه.

أبو جاسم، من مدينة الناصرية، في أواخر الأربعينات من عمره، جسمه نحيف ومرن يساعده في التنقل السريع. له شعر رمادي ويحرص على ارتداء الزي التقليدي الجنوبي، مما يوحي بالانتماء القوي للجذور.

حين يتحرك بين الحضور، يزيدهم ثقة، وهو ينقل خبراته ومعلوماته عن الشوارع والأحياء.

أبو مجاهد، من قلعة صالح في ميسان، في أوائل الأربعينات من عمره. يجمع بين القوة والمعرفة. يرتدي نظارات تعطيه مظهر المفكر. صوته هادئ ورصين. تحمل كلماته تأملًا عميقًا وحكمة، مما يعزز ثقة المجموعة به.

بدت قبضة صدام الحديدية تتراخى بعد هزيمته في الكويت، وتَسَبُّبِه بخراب المدن والمنشآت العسكرية والمدنية العراقية.

العراقيون يشعرون بالإحباط والذل وهم يشاهدون صدام يقودهم من حرب لأخرى دون انتصارات. وبدت هذه وكأنها اللحظة المناسبة التي ينتظرها الثوار لتحريك الشارع ضد نظامه.

شعروا أن الوقت يمضي ويجب التحرك بسرعة داخل مدن محيط الاهوار: البصرة، الناصرية، والعمارة. أطفأوا الفانوس وتعانقوا للوداع قبل الصعود إلى قواربهم، والانطلاق كل إلى وجهته على أمل اللقاء بعد النصر.

كانوا متفائلين، غير أن شعورًا لدى بعضهم بأنهم قد لا يلتقون مجددًا كان حاضرًا. قطعت القوارب سكون الليل واختفت بين القصب والبردي في الممرات الضيقة، متجهةً نحو مقاصد يعرفها المجاهدون.

ساحة سعد: البصرة

في البصرة، وتحديدًا في ساحة سعد، كانت الفوضى تعم المكان. الجنود الناجون من محرقة الكويت يمرّون من هناك محملين بمشاعر الهزيمة والخذلان، يرافقهم الإنهاك والجوع، وجثث الآلاف منهم متناثرة في كل مكان.

عجلات وآليات عسكرية محترقة تملأ الشوارع من ساحة سعد وحتى الكويت مرورًا بالزبير وسفوان، بينما الدخان المتصاعد من المركبات المحترقة يمتزج مع دخان آبار النفط الكويتي التي أمر صدام بإحراقها قبل هزيمته.

البصرة تعيش مشهداً مرعبًا وفوضويًا، والشوارع تموج بالغضب المكبوت، وقد تجمع المئات من السكان على الطريق ينتظرون اخبارا من أبنائهم الجنود المنسحبين من الكويت.

من العكر في اهوار الحمّار وحتى ساحة سعد في البصرة، كانت المشاهد المرعبة لحجم الخراب تثير في أبو حيدر ومرافقيه من المجاهدين ثورة عارمة، انفجرت صرخة كبيرة “الموت لصدام المجرم”.

رددها أبو حيدر مرارًا وهو يعتلي عجلة عسكرية معطوبة جوار الطريق، وسرعان ما ردد الهتاف كل من في المكان.

صاح أبو حيدر بثقة وشجاعة ” يا ناس، إنها لحظة الانتقام! تقدموا نحو أوكار الظالم بقوة وشجاعة.” وتجمع طوفان بشري عظيم يهتف بجنون ضد صدام ويتحرك في شوارع البصرة، وكلما اجتاز نقطة تفتيش حكومية منهارة، يلتحق به مئات الأهالي، وكلما يسقط مقر حكومي أو مركز للحزب، تتعالى هتافات الحرية في الشوارع: “الموت لصدام العميل” “العار لصدام المجرم”

الناصرية، والعمارة

ما حدث في البصرة تكرر في الناصرية، المدينة التي اشتهرت بمقاومتها للظلم طوال التاريخ. أبو جاسم يعرف كل زقاق في المدينة، فقاد المجاهدين والمنتفضين من السكان المحليين بثبات وهو يرفع عزائمهم: “لن نتراجع، إما النصر أو الشهادة”.

العمليات تتم بسرعة وتنسيق رائع، وبسقوط كل وكر للمخابرات والحزب والأمن، تزداد الحماسة في نفوس شباب الناصرية.

أما في العمارة، فكانت المعركة أكثر شراسة. قوات صدام أرسلت تعزيزات لوقف تقدم المجاهدين، لكن أبو مجاهد ورفاقه لم يتراجعوا: ” هيهات منا الذلة، هيهات منا الذلة ” كلمات أبو مجاهد تتردد في أرجاء المدينة، بينما الأحياء تُحرر واحدًا تلو الآخر.

تراجعت قوات صدام، وتحررت مناطق العمارة الواحدة تلو الأخرى. وكلما تحررت منطقة، كان الثوار يرفعون الأعلام ويرددون الشعارات ويرفعون رايات حسينية.

نهاية الطريق

وبعد أيام من الحرية وغياب قبضة الظلم وتواري وجوه الظالمين بدأ الحلم بالتحرير الكامل يصطدم بالحقيقة المرة.

زج صدام بحرسه الخاص، الذين لم يتضرروا بحرب الكويت، فقمعوا الانتفاضة بأشد الوسائل، مستخدمين الصواريخ والقنابل ضد المدن المليئة بالسكان تحت صمت دولي وعربي مريب.

خاض الثوار معارك شرسة لمنع حرس صدام من التقدم. لكنهم اضطروا للتراجع بعد سماح الدول الكبرى له باستخدام ما بقي عنده من طائرات مروحية لضرب المدن المنتفضة دون تمييز بين الثوار والمدنيين غير المسلحين.

عاد أبو جاسم وعدد من المجاهدين إلى مقر العكر، بينما انقطعت اخبار أبو حيدر وأبو مجاهد. في تلك الليلة، تحت سماء آذار القاتمة، أشعلوا الفانوس النفطي من جديد، فأضاء جدران الكوخ، وشعر الجميع بغياب أبو حيدر وأبو مجاهد، والآخرين ممن استشهدوا في المعارك.

وفيما كانوا يتلون آيات من القرآن الكريم على أرواح رفاقهم، سمعوا صوتاً خارج الكوخ وكأن قاربا يشق الماء ويدفع القصب جانبًا ليقف محاذاة “التهله”!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *